غرابة أطوار تشارلز ديكنز!

من الأمور الطريفة التي تتعلَّق بشخصية (تشارلز ديكنز) أنه كانت له طقوسٌ خاصَّةٌ شديدةُ الغرابة، لا تفارقه، سواء أثناء ممارسة الكتابة، أو في حياته اليومية.

لعلَّ هذه معلومةٌ صادمةٌ لبعض قرَّائه، ولا سيَّما أن اسمه ارتبط في الأذهان بالأدب الواقعي، الذي تناول من خلاله قضايا في غاية الجدية، تتعلَّق بالعصر الفيكتوري، (نسبةً إلى الملكة فيكتوريا التي حكمت المملكة المتحدة من عام 1837 حتى عام 1901)، الذي كان يتَّسِم بالتناقضات، والتفاوت الطبقي، والتمسُّك الظاهري بالقِيَم والفضائل، مع التمرُّد عليها في الخفاء، وغير ذلك من السمات التي أجاد تصويرها (تشارلز ديكنز) داخل رواياته.

فمن المثير للدهشة أن يقترن اسم ديكنز (الجاد، الملتزم، المهموم بقضايا عصره، الذي عانى الأمرَّين في حياته)، بغرابةِ الأطوار، التي طاول بها مثلًا الأديب الفرنسي (بَلزاك) الذي اعتاد أن يكتب بعد منتصف الليل، ولساعات طويلة، كان يُعينه خلالها على التركيز والسهر إدمانه للقهوة، التي كان يشرب منها يوميًّا عددًا هائلًا من الفناجين! والأديب الأمريكي (إرنست هيمنجواي) الذي اعتاد أن يكتب واقفًا، والأديب الفرنسي (فيكتور هوجو) الذي اعتاد أن يكتب عاريًا! (ديكنز) لم يكن أقلَّ غرابةً من أولئك العظماء!

وقبل أن أتناول بالبحث عاداتِه الغريبة، يجب أن أجيبَ أولًا عن سؤالٍ في غاية الأهمية، يتعلَّق بروافد هذه الغرابة. ما الذي دفع (ديكنز) في بداياته الأدبية إلى استخدام الاسم المستعار (بوز)؟!

(ديكنز) في الأصل كانت سُبَّة!

الاسم الكامل لـ (تشارلز ديكنز) هو: تشارلز جون هوفام ديكنز. وكان لقبه يُستخدم خلال القرن السادس عشر (الذي شَهِدَ أولَ ظهورٍ لكلمة (ديكنز)، في مسرحية “زوجات وندسور المَرِحات” لشيكسبير) – كان يُستخدَم كتعبيرٍ لإظهار الغضب، أو كسُبَّة بمعنى (الشياطين)! فقد وردت على لسان السيدة (بيج) داخل المسرحية عبارة، ترجمتُها الحرفية. “لا أعرف بحق الشياطين اسمَ الشخص الذي أهدَى هذا الخادمَ إلى زوجي!”. فكلمة (ديكنز) منحوتة لغويًّا من الكلمة الأقدم (ديفِلْكِنز Devilkins) بمعنى: الشياطين الصغيرة!

إعلان

ولعلَّ هذا من الأسباب الخفية التي جعلت (تشارلز ديكنز) يفضِّل ألا يستخدم لقبه الأصلي في أعماله الأولى التي اعتاد أن ينشرها مسلسلةً في الصحف الرائجة، وأن يَعدِل عنه إلى الاسم المستعار (بوز).

يقول (ستيفن سميث) في كتابه (محبرة الأسماء المستعارة):

قبل أن يصبح (تشارلز ديكنز) مشهورًا من خلال رواياته: (ترنيمة عيد الميلاد) [1843] و(قصة مدينتين) [1859] و(الآمال الكبرى) [1861]، استخدم ثلاثة أسماء مستعارة، كان (بوز) هو أوَّلَها وأشهرَها… وقد أوضح في مقدمته لرواية (مذكرات بيكويك) [1837] أن اسمه المستعار مشتقٌّ من اسم (موسى)؛ لقب التدليل الذي أطلقه على أخيه الأصغر (أوجاستس ديكنز)، تيمُّنًا باسم إحدى شخصيات رواية (قسيس ويكفيلد) للروائي الذي تعلَّق به (ديكنز): (أوليفر جولدسميث). فاسم موزِس (موسى) كان يُنطَق في الرواية على نحوٍ فكاهيٍّ كما يَنطِقه شخصٌ أخنف، فيتحوَّل إلى كلمة (بوزِس)، التي اختصرها (ديكنز) لاحقًا إلى (بوز).

واستخدم كذلك، ولكن لمدة قصيرة، اسم (تِبس Tibbs)، و(تيموثي سباركس Timothy Sparks). لكنه حين اشتهر، لم يعد في حاجةٍ إلى التواري خلف اسم مستعار، وأصبح يستخدم لقبه الشيطاني (ديكنز)، دونَ خجلٍ من معناه الشائع عند الناس.

هل كان ديكنز يؤمن حقًّا بوجود الأشباح؟

ليس سرًّا أن عقلًا تحليليًّا فذًّا مثل السير (آرثر كونان دويل)، مبتكر شخصية (شيرلوك هولمز)، كان يؤمن بوجود الأشباح، رغم أن بطله المشهور كان يبني استنتاجاته دائمًا في رواياته على الاستدلال المنطقي، وتتبُّع القرائن، والبحث عن أي تفصيلةٍ تؤدِّي إلى كشف الغموض عن الجريمة التي يتولَّى التحقيقَ فيها. فمن العجيب أن ينساق (آرثر كونان دويل) إلى أوهامٍ غيرِ مبرهَنٍ عليها، بل وأن ينضمَّ إلى (نادي الأشباح)!

هذا النادي، كان (تشارلز ديكنز) من أوائل أعضائه؛ فقد تأسَّس عام 1862، واجتذب كثيرًا من المهتمين بهذه (الظواهر الروحانية) مثل الشاعر الأيرلندي الشهير: (ويليام باتلر ييتس). وتفكَّك النادي بعد وفاة (تشارلز ديكنز) عام 1870، ليعاد إحياؤه بعد 12 عامًا.

وقد كان الإيمان بالخوارق، حتى في أوساط كبار المفكرين والأدباء، من سمات العصر الفيكتوري. فلم يكن غريبًا إذًا أن تَحفِلَ روايات (ديكنز) بالأشباح والخوارق، مثلما جاء في روايته المشهورة (ترنيمة عيد الميلاد). كما أن النزوع الروحاني ليس مستعجَبًا من شخصٍ كان يُرَجَّح أنه عانى من نوبات الصَّرع، مثل (تشارلز ديكنز)، الذي ورد في رواياته أكثر من شخصية كانت تعاني هذا الأمر، مثل (جاستر) في رواية (المنزل الكئيب)، و(مونكس) في رواية (أوليفر تويست)، و(برادلي هيدستون) في رواية (صديقنا المشترك). وكان وصفُه لنوبات الصَّرع في هذه الروايات شديدَ الدقَّة، على نحوٍ أدَّى بكثيرٍ من دارسي (تشارلز ديكنز) إلى ترجيح أنه عانى بنفسه هذه النوبات، وأنه رسم هذه الشخصياتِ بناءً على تجاربه الشخصيَّة.

عشق تشارلز ديكنز للغربان!

لم ينشأ إلا حديثًا الوَلَعُ بالغربان، كطيورٍ أليفة، وذلك لأنها ظلَّت دائمًا حبيسةَ تصوُّرِنا الموروثِ عنها؛ أنها مرتبطةٌ بمعانٍ مثل الرحيل والهِجران والفراق، وفي الثقافة الغربية بالحزن والشؤم. نجد المتنبي مثلًا يقول:

أَبَنِي أَبِينَا نَحْنُ أَهْلُ مَنَازِلٍ

أَبَدًا غُرَابُ البَيْنِ فِيهَا يَنْعِقُ

والشاعر الأمريكي (إدجار آلان بو) يقول في قصيدته (الغراب):

هذا الطيرُ المَقيتُ البَغيضُ المُريعُ المَهزولُ المشئومُ من الماضي… ماذا قَصَدَ بأنْ ينعِقَ قائلًا: إطلاقًا؟

واستمرَّت رمزية الغراب على هذا النحو، إلى أن أثبت العلم الحديث أن الغراب من أذكى الطيور، وأن قدراته العقلية لا تقارَن إلا بالقدرات العقلية للدولفين أو الشيمبانزي، لا أقرانه من أنواع الطيور.

لكن يبدو أن (تشارلز ديكنز) أدرك هذه الحقيقة مبكرًا! فقد كان يملِك غرابًا سمَّاه: (جرِب)، وبلغ من تعلُّقه به أنْ أطلق اسمَه على الغراب في روايته: (بارنابي رَدج: حكاية شغب الثمانين). وبعد أن مات هذا الغراب، بسبب تناوله رقائقَ من طلاء الرصاص، اقتنى (ديكنز) غرابًا آخر، سماه (جرِب) أيضًا. ويُزعَم أن هذا الغراب هو الذي ألهم (إدجار آلان بو) بقصيدته الخالدة: (الغراب).

تشارلز ديكنز
(جرب) الثاني غراب (تشارلز ديكنز) المحنط

ولما قضى (جرِب) الثاني نحبه، حنَّطه (ديكنز)، ووضعه في صندوق خشبي له تصميم خاص، بواجهة زجاجية. ولا يزال محفوظًا إلى الآن، ويُعرَض في (مكتبة فيلادلفيا المجَّانية).

تشارلز ديكنز والشيبسي!

كان (تشارلز ديكنز)، إذا التزمنا بالترجمة الحَرْفية للكلمة الإنجليزية (Wordsmith)، خرَّاطَ كلماتٍ! لقد بلغ من تمكُّنه في اللغة، ونزوعه المستمر إلى الابتكار، أنْ أضاف إلى اللغة الإنجليزية 247 كلمةً لم تكن موجودةً قبله، وهو أمرٌ مثبَت في قاموس (أكسفورد)، ومن هذه الكلمات: عامَّوِي Slangular، ويبرجل Flummox، ويَعِّيٌّ Ugsome، ومِترَبة Dustbin [إشارة: راعيت في التعريب أن أستخدم كلمات غير مألوفة تتواءم مع طبيعة كلمات (ديكنز) المخترعة، في الثقافة الإنجليزية].

وأخيرًا، أدخل (ديكنز) إلى اللغة الإنجليزية كلمة رقائق البطاطس/ الشيبسي Chips! فأقدم مصدر تاريخي تظهر فيه هذه الكلمة هو رواية (قصَّة مدينتين) [1859]. التي وردت فيها هذه العبارة: “شرائح مقشورة من البطاطس المقلية بقطراتٍ من الزيت”. وبالرغم من أن الأكلة الشعبية في إنجلترا هي: السمك والبطاطس المقلية Fish and Chips، فإنهم يقصِدون بكلمة Chips، غيرَ ما يقصِده بقيةُ الناسِ في العالم، ولا سيَّما أن الثقافة الأمريكية روَّجت لكلمة Chips على أنها تعني (رقائق البطاطس المقليَّة)، بينما يقصِد بها الإنجليز: (أصابع البطاطس المقلية)، أو ما يُسمَّى في أمريكا: French Fries. وبالرغم من أن الكلمة التي اخترعها (ديكنز) استعيرت لاحقًا للدلالة على رقائق البطاطس، إلا أن الأرجح أنه قصد بها ما يقصده بها الإنجليز حتى اليوم… أصابع البطاطس المقلية.

غرابة أطوار تشارلز ديكنز

لم يكن (تشارلز ديكنز) ينام إلا إذا كان فراشه موضوعًا على محور الشمال والجنوب، بحيث يكون رأسه -وقتَ النوم- في جهة الشمال! وكان يرى أن هذا الفعل يساعده على الكتابة بشكل أفضل!

ولعلَّ هذا يماثل في الغرابة إحدى عادات الروائي الأمريكي (ستيفن كينج) المتعلقة بالنوم؛ فهو يضع الوسادات على الفراش، بحيث يكون الجانب المفتوح من كيس الوسادة القماشي موجَّهًا ناحية الجانب الآخر من الفراش!

وكان (ديكنز) كذلك مصابًا بالوسواس القهري، حتى إنه اعتاد أن يمشط شعره في اليوم الواحد مئات المرات!

وفي الأيام التي كان يُدعَى فيها إلى جلساتِ قراءةٍ لأعماله، كان يشرب قبل الندوة بنصف ساعة كأسَ نبيذ مُزِجَت به بيضة نيئة! ويذكرني هذا بالشاعر (أحمد شوقي)، الذي اعتاد أن يأكل البيض نيئًا، واحدةً في إثرِ واحدة؛ لأن كثرة التفكير، وَفق قوله، تستهلك الفوسفات، ولا بد من تعويضه بتناول البيض النيء! فحقًّا، ما أكثر العباقرة الذين اتَّصفوا بغرابة الأطوار!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أحمد فؤاد

تدقيق لغوي: محمد أحمد فؤاد

الصورة: المحطة

اترك تعليقا