غراب الأدب الأمريكي “إدجار آلان بو”

في فردانية فكر "بو"

فجر أدب جديد:

هل سبق لك وأن سمعت عما يسمى بالأدب الأمريكي في العصور الوسطى؟ في عصر النهضة؟ في الألفية الأولى؟ أو حتى قبل الميلاد؟ بالطبع لا. لم ولن تسمع، وذلك لأن الأدب الأمريكي هو أدب وليد العصر الصناعي في نهايات القرن الثامن وبدايات القرن التاسع عشر، كان هذا على يديّ كاتب مثل “سيدني سميث” الذي لم يكن فقط كاتبًا بل رجل دين وبرلماني موفور الشهرة أيضًا (1771- 1845)، ويد الكاتب والمفكر الأمريكي “ناثانيال هاوثورن” صاحب كتب مثل (محكية مرتين – 1837) و(الرسالة القرمزية – 1850) والمطالب بالعودة للطبيعة. أما من صَخُب سيطه في عالم الأدب هو الشاعر والقاص والناقد “إدجار آلان بو 1809- 1849″، بأعماله العديدة.

حاز الأدب على فكر المثقفين الأمريكيين آنذاك بعد امتثالهم ومطالعتهم شتى صنوف الأدب الإنجليزي واليوناني والفرنسي، فبدأوا للالتفات لمأساتهم الأدبية والفجوة التي وجدوا في مجال مهم كهذا، أهميته في إظهار الفكر المنتشر في حقبة ما وتوجيه الرأي العام للمثل العليا والمساعدة في الحراك الاجتماعي والثقافي، وعند نضوجهم الفكري تأثروا بالنقاد الإنجليز من أمثال كولريدج وكارليل، والنقاد الفرنسيين من أمثال فكتور كوزان ووليم إلتري، فسيطرت فكرة القومية على منطقهم الأدبي وبدأوا نقلة نوعية لمنصة الآداب الأمريكية بنسيج أوروبي لكن بروح وقلم أمريكي مثلما طالب الكاتب تشاننج.

الوليد الأول:

كان “إدجار آلان بو” في ذاك الوقت المعروف بالثورة الصناعية أحد أهم الكُتاب الذين تنشقوا الأدب من مسامٍ مختلفة، وأضافوا إليها ببصمتهم الخاصة، حيث لم يعرف لبو عملًا واحدًا في المجال الأدبي، فنراه شاعر وقاص وناقد، ألا وهو الواضح من أثره. أسماه الشاعر الفرنسي بودلير “الرائد الأول في القارة الأوروبية” وترجم “مالارميه” شعره، وقال “فاليري” عنه أنه “خلّاق صور” إثر عمله الشعري المختلف.

كان إدجار آلان بو مولع بالأشياء الغرائبية والعجيب من العالم وأحداثه، والنقمة على الموجود هي سبيل تصفية انزعاجه من الناس وباقي المخلوقات، وذلك كان نابعًا من اضطرابات سنواته الأولى في الطفولة، حيث ماتت أمه وهو ما زال من السن اثنتان، وتوفي أبوه وهو لم يصل للخمس بعد، من ثم تبناه رجل يسمى -جون ألان- وذا الاسم الذي التصق به طوال حياته وعرف به فيما بعد.

سافر إنكلترا مع المتبني الجديد ودرس الابتدائية هناك ومن ثم رجعا إلى أمريكا لدراسة الجامعة في فرجينيا، لكن حاله تبدل مع الوقت واستعفى شبابه وتبلورت أفكار ومذاهب جديدة على فكره البكر، متبنيًا فلسفة جديدة في الحياة تعارضت مع أفكار والده، فترك الجامعة والتحق بالجيش الأمريكي، فما تبدى منه إلا سوء المعاملة والتصرف وعدم الانضباط، فشيع الجيش ومن هنا طفق يقرض الأدب قراءةً وكتابةً، نقدًا وتأليفًا في كل بحوره كما أسلفنا الذكر، كما سطر البؤس والتشاؤم على كتاباته لقاء موت أمه وحبيبته (إلينور) بمرض السل. وهكذا شرع في التأليف حتى وافته المنية –أكتوبر من عام 1849م- قبل إكماله حتى سنته الأربعين، لكن الإبداع لم يكن أبدًا بطول سنين العمر أو بوفرة الإنتاج بل بالأثر الذي يتركه العمل في نفوس البشر، ووقع تغييراته على ثقافة الأدب عامة وخاصة.

إعلان

*هذا بدون شك هو عصر الفكر، في الحقيقة إنه يمكن وضعه موضع السؤال عما إذا كانت البشرية قد فكرت على هذا القدر من ذي قبل*   – إدجار آلان بو-

أسلوب “إدجار آلان بو” النقدي: (أ)

اطلاع بو على المجلات الأدبية الأمريكية والأوروبية على قدر سواء أثرى من محصوله النقدي الأدبي مع خلفيته المغايرة والمحبة بطبيعتها للاختلاف، أنتجت رأي مخالف للجمع الفكري في معظم الأحيان ولاذع في البعض الآخر، فكان على سبيل المثال عكس ممن هم يبجلوا التراجيديا اليونانية، من الملحمات الهوميرية والمسارح السوفوكليسية، كان لا يتقبل على حد قوله “ضحالتهم الدرامية” ووصفهم بأنهم “ذو عجز درامي”، ويمكن إرجاع أسباب كرهه لذلك النوع من الدراما، إلى أن إدجار آلان بو لم يكن من المؤمنين بأن الشعر خاصة والفن عامة يحمل في طياته وجذوره أهداف ورسائل مثالية سامية، بل كان يعتقد في مقولة ” الفن للفن”، أو أنه كاد يقترب منها  في بعض الأحيان. “هرطقة ما هو تعليمي” ومن الأصح للشاعر أن يكتب ” قصيدة من أجل القصيدة فقط”، كما يذكر له تاريخه النقدي ذو الحس الفني.

راديكالية الفكر لدى “إدجار آلان بو”: (ب)

في رأيه عن الشعر يقول “إنه إعادة إنتاج لما تدركه الحواس في الطبيعة من خلال حجاب النفس”، مضيفًا إثر معاداته للشعر الوعظي أو في عموم الأدب الوعظي- أنه بكتابته عن الخيال أو الدراما الفانتازية خاصة، هو للإخلال بمنظومة “الوعظ الفج”. و”إن نقل ما يسمى على نحو عبثي (أخلاقيًا) يجب أن نتركه لكاتب المقال والواعظ، ليس في قدرة أي خيال أن يبث أي حقيقة”.

من هنا يتطرق إدجار آلان بو للإعلان عن أسلوبه في استخلاص واستخدام سمة الخيال في الكتابة، فهي ليست فقط صورًا سوريالية بحتة بل الخيال عليه واجب وهو أن “يطرح بحرية معيارًا للتشابه مع الحياة” كي يقيم الحائط الذي يمنع الخيال من اتساقه والواقع المعاش بشكل مطابق يمل منه القارئ ويلفظه، ففلسفته الخاصة تكمن في نقل الحقيقة من خلال تصور واعي كامل للطبيعة وتخيلها بشكل لا وعظي ممل يتعالى على القارئ أو الآخرين بشكل أو بآخر، أي للتوضيح ” أن تكون صادقة دون أن تنقل الحقيقي (المحض الواقعي-الواقع المحض)”.

هذا وحيث يمكن اختزال تمنطق بو في الأسلوب النقدي الحسي غير العاطفي بتلك المقولة السهلة الممتنعة، إن “التخيل الحقيقي ليس إطلاقًا إلا التخيل التحليلي” مما يتماشى بالتقريب لا بالتخصيص مع فكر النزعة الكلية الصورية (المادية البحتة)، والتي تقول ب “إن عقل الإنسان لا يستطيع تخيل ما ليس موجودًا”، وبهذا نصل لجوهر أسلوب بو في النقد والكتابة وهو بلا منازع أسلوب يعتمد كليًا على المنطق والعقل منه وإلى القارئ بشكل غير مباشر، عبر المثول إلى الخيال والرمزيات التي تثري كتاباته.

لكنّما الغراب يجلسُ وحيدًا على التمثال الهادئ،
لا يلفُظ إلا بتلك الكلمةِ الوحيدة،
لكأنّ روحهُ في تلك الكلمة التي يهذي،
لا شيء بعد ذلك لفَظْ، و لا حتّى ريشة تنتفِضْ،
وهكذا إلى أنني بالكاد تمتمتُ ”
أصدقاءٌ آخرون طاروا من قَبْل و في الغدِ سيتركني،
مثل آمالي التي تركتني من قَبْل”
حينَها قال الطيْر “أبداً، ليس بعد ذلك”.
– من قصيدة الغراب لـ إدجار آلان بو

تعريف “إدجار آلان بو” للقصة النثرية:

بما أن لبو لمسة خاصة مؤثرة على سمات القصة النثرية القصيرة، فدلالته في هذا التعريف القويم للقصة النثرية، “لنفرض أن أديبًا ماهرًا يريد أن يفرغ فنه في قصة. إنه إن كان حكيمًا لم يكيف أفكاره طبقا لحوادث قصته. بل يجب أن يستقر قبل كل شيء، وفي عناية فائقة، على أثر معين فريد أو نادر يرمي إلى إظهاره، ثم يؤلف الحوادث بعد ذلك. عندئذٍ ينسق هذه الحوادث على أحسن وجه يراه كفيلا بإظهار الأثر الذي استقر عليه من أول الأمر. فإذا كانت عبارة الاستهلال فيها قاصرة على إبراز ذلك الأثر فقد أخفق المؤلف إذا في أولى خطواته. فما ينبغي خلال القطعة الأدبية كلما خط قلمه كلمة واحدة لا تتسق بطريق مباشر أو غير مباشر مع خطته المرسومة المقررة”.

بالفعل كانت تلك طريقة “إدجار ألان بو” في استنطاق الرسائل الفنية بشكل غير مباشر يصل لعقلية القارئ في سلاسة ومرونة، بيد أن جميع قصصه القصيرة لا تتعدى الصفحتان والثلاث صفحات، حيث تكون كبسولة تبتلع بسهولة، فيها قيمة متبناة بشكل لا وعظي كما أسلفنا في القول، وسنأتي بمثال على فن بو القصصي للتأكيد وهو قصة “القلب الواشي” الشهيرة.

إدجار آلان بو و”لامعقولية” النثر:

قصة القلب الواشي يدخل الكاتب صلبها في اللويحظات الأولى من أحداثها، حيث يتحدث خادم البيت المجنون إلى نفسه بأسلوب الضمير الغائب ويرد على أسئلة يسألها ويردد إجابات. تبدأ الأحداث بشخص مجهول الهوية يحكي قصة ثباته أثناء قتله للعجوز الذي يقطن البيت، ويتابع سرد الحكاية بأن سبب قتله للعجوز هو الخوف والارتعاد من عيناه “عين النسر”، التي تشعره بالوجل إذ طالعها، فيقول مسببًا ” فلكل قاتل سبب وجيه غير المتعة في القتل”. وتنهمر الأسئلة، فغرة يسأل “هل تجدني مجنون؟ ها؟”، ومرة يجاوب ويقول “لا أنا لست مجنون، ما من مجنون يعالج جريمته بتلك الحكمة”، مما يظهر الارتباك والانقسام الذي يختلج شعوره.

من ثم يتنقل “بو” بين تفاصيل تحضيره وتخطيطه للجريمة، فبدأ يختلس النظر من فتحة الباب ثماني أيام قبل وقوع الجريمة كي ينظر لعينيه المرعبة، وصنع قنديل كي يضيء الظلام الذي يحيط بالعجوز الهامد، كان “ملون بالأسود إلا من شعاع طفيف”، وظل على هذا المنوال حتى أحس الهرم بالخوف من مراقبة أحدهم له في أثناء الليل، وأحس الخادم بالخوف أيضًا عندما سمع دقات قلب العجوز ودقات الساعة الماثلة في الغرفة الكئيبة المشؤومة، حتى اليوم الثامن قرر أن يقتل العجوز وانقض عليه وقلبه تحت مضجعه حتى اختنق مقتولًا على يدي خادمه المجنون، فقام بعد حين للتأكد من موته بتقطيع الجثة بادئًا بالرأس و اليدين وهكذا دواليك حتى أتى عليها كلها وفرقها في أجزاء مختلفة من البيت.

لكنه فوجئ بالشرطة تطرق بابه إثر عويل سمعه الجيران أثناء الليل، ففتح لهم وما أن انهالوا عليه بالأسئلة حتى تصبب عرقًا وحس بدقات قلب العجوز تضرم نارًا في رأسه، فتهاوى واعترف لهم بالجريمة كي يتخلص من زغب عيني الرجل ووقع ضربات قلبه التي تأبى أن تتركه وحاله.

اتساق الخيال بالواقع الأدبي:

من خلال تلك القصة النثرية يظهر بشكل يسطر القصة كلها تشاؤم بو وخوفه من نفسه ومن الموت، حيث أن سمة القصة هي القتل والظلمة الحالكة التي تسيطر على المكان في النص، الاضطراب والخوف الذي ينتابه من بدايتها، وهو ما يتماثل مع قول بو “سماني الناس مجنونًا، غير أن العالم يكشف لنا بعد فيما إذا كان الجنون ذروة الذكاء أم لا”. وإن صح القول إن بو هو بارع في الإفاضة بالكثير من التفاصيل والمشاعر في بضع صفحات، لكنها تتوقف عند حد المتعة وهذا ما يتعارض مع فن القص الواقعي الذي لم يحالفه الحظ وحضره. كانت هذه نبذة من حياة كاتب وضع أسس لفن القص، نبذة من فنه ونبذة عن قصصه وأسلوبه في النقد. وإن كان الأدب الأمريكي ما زال في ريعانه لكنه أثبت قدرته منذ بدايته حتى الآن.

المواد المستخدمة في البحث:
كتاب تاريخ النقد الحديث لرينيه ويليك الجزء الثالث من عصر التحول (1750- 1950)، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد.
موجز تاريخ الأدب الأمريكي لبيتر هاي- ترجمة هيثم علي حجازي.
مجلد الأعمال الكاملة إدجار آلان بو.
كتاب ألوان من القصص القصيرة لعباس العقاد (مكتبة الأنجلو المصرية-1954).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمود سمير ابن جالون

تدقيق لغوي: آلاء الطيراوي

اترك تعليقا