دماغُك الجائعُ دائمًا: عن الأفكار الوسواسيّة مُتَوغّلةً في رأسِكَ

يذكِّرُنا الاضطرابُ النفسيّ دومًا بالطّرفين المتضادّين لكلِّ الأشياء، لا سيما العقل ( الأفكار) ؛ ففي العقل تنشأُ القوّة، كما تنهدِمُ فيه، ينشأُ اللِجامُ الذي نُحكِمُ به السّيطرة، وفيه ينفلت من أيدينا أحيانًا. لذلك، كان لِزامًا علينا ونحنُّ نقصُّ الحكايات حول الاضّطرابات النفسيّة، أن نتذكّر هذه الحقيقة. لذا، ففي هذا المقال سنراقبُ عن كثبٍ حركةَ الفكرةِ الوسواسيّة، ما إن تستقرّ في عقلِ مصاب بالوسواس القهريّ، حتى تنتهي به إلى تكرارِ فعلٍ عشرات المرّات بلا جدوى.
إنّ أُوّل الأشياء الّتي يجبُ معرفتها حول هذا الاضطراب تحديدًا، أنّ المُصابَ به يكون أحيانًا على علمٍ بعدم جدوى ما يقومُ به، ولكنّه مرغومًا يضطّرُ لإسكاتِ الدويّ المتفجّر في رأسه، يُذعِن للفكرةِ مرةً واحدة، آملًا أن يستطيعَ السيطرةَ عليها في المرّات القادِمة. ولكن، لا شيء من هذا يحدث. ينتهي الأمرُ بدوّامةٍ من الأفكارِ يدخلها بلا مفرّ، ويدورُ معها بلا خَلاص.


دعونا نختلِسُ نظرةً إلى هذا الاضطراب بشكلٍ أكثر قربًا، ونبدأُ الرّحلةَ نحو الدماغ الذي يأكل نفسه، نرقُبُ من الداخلِ الرأسَ وهي تستمرُّ في طلبِ غذاءٍ يكلّفها اتّزانها، وعلى الرَغم من ذلك، يتحرّك الجسدُ مدفوعًا بالفكرةِ المتكرّرة، يعيرها انتباهه، ومتثاقلًا يُطعِمُها المَزيد.

إنّ البُركان الّذي ينشأُ داخلَ عقلِ المضطرب يثورُ في بادئ الأمرِ من أفكارٍ عابرةٍ، تمرُّ بنا جميعًا، لكنّها تمرُّ بآثارٍ هشّةٍ يفتّتها عقلٌ غير مُكتَرِث، أو عقلٌ يفتّشُ سريعًا حتّى يقتنع بالإجابات. ولكن لأنّ وقع الخُطى ليسَ دائمًا واحِد، فمرّةً نجدُ المرورَ سهلًا هيّنًا، ومرّةً نجد الخطوة تصيرُ سنواتٍ من الرّكضِ، فالحالة الثانية  إذن هي ما تعبِّرُحقيقةً عن العقلِ المُتعَبِ، حيثُ الفكرة تمرُّ بطيئةً مُثقلة بكلّ تفاصيلِها، تحمِل ألفَ سؤالٍ، وترفِضُ كثيرًا من الإجابات، وكلّ ما يفعله الشّخصُ حتّى يُبرِّد الحِمَمَ بداخِله هو التّرحيبُ بالأسئلة بشكلٍ غير مباشرٍ، والاذعانُ للفكرة، ومشاطرتها جزءًا ليس هيّنًا من التفكير.

ثُمّ، تتمشّى شرارةُ الفكرةِ بانتشاءٍ داخلَ العقل..

الآن أصبحت الفكرَةُ المُقلِقة آمنة تمامًا من أي محاولاتٍ لطردها خارجًا، فتبدأ بِجَرّ كلّ تبعاتها خلفها، تطرح صورةً منها على أيّ شيءٍ ذا صلة بالقلق، فتجدُ نفسَك بدلًا من أن تقلقكَ فكرةٌ واحدة، أصبحت تحيط بك هالةٌ من الأشياء المُرعِبة، وأنتَ -تحت تهديد أفكارك- تغذّي جوعَ الفكرةِ بإطعامها المزيد، وفي المقابل، تستمرّ الأفكارُ حائرةً في طلب غذاءٍ يكلّفك اتّزانك!

لذلك تكون إحدى الخطوات الهامّة  للعلاج، هي في تبديد تلك الهالة في الفراغ، ليس الأمرُ سهلًا، أعلمُ ذلك، لكنّك بمساعدة طبيبك النفسيّ، تبدأ بإحكام السّيطرة على اللِجام، لتقودَ أنت الأفكار ، بدلًا من العكسِ. في التجربةِ الأولى ستشعر كما لو أن شاحنةً تمرّ فوق صدرك، وأن دخّانها قد بدأ بالتسلُّلِ إلى رئتيك،  فيزداد تنفسك صعوبةً، وتشعر بتفتّت دماغك من الداخل.  سَيلٌ لا تعرِف ماهيتَه، لكنّه حتمًا ينسابُ من أكثر الأماكن طمأنينةً  في رأسك، تحاصرُك الأفكار من كلّ حدبٍ وصوب، تضغطُ الزِنادَ مع كلِّ مرّةٍ تحاولُ فيها طردها، فتشعر بنفسك ضعيفةً مع الحشود المُقلِقة، وتعود لإشباع الأفكار في مقابل تجويع أمنك. لكن -ولحسن الحظّ- ثمة طريق غير ممهّدٍ للعبور، خلال سيرك عليه مثقلًا بأفكارٍ لا طائل من ورائها -ستصارع عشرات المرّات قابليتك للعلاج، وتدفع مقابل الخطوة عشر خطواتٍ للوراء، والكثير من التحدّيات، كما أنّك ستلمحُ في لحظاتٍ معيّنة  تساؤلاتك وأفكارك تلوح في الأفقِ مجدّدًا.

إعلان

التحليل النفسي ودوّامةُ الأفكارِ

إن إحدى اتّجاهات العلاج النفسي تفتح كلتا عينيها على الماضي، تحِفرُ في كلّ ما جرى في طفولتك، سواءً كان بيّنًا أمامك، أو يحتاجُ إلى حفّارةٍ ماهِرة -حتّى تتمكّن أنت من الوصول إلى السبب الأوّل الذي قامت لأجله عاصِفةُ الأفكار. على هذا الطريق، ستصارع ذكرياتٍ منسيّة، وقد لا تستطيع الوصول إلى سببٍ بعينِه  تثور له الأفكارُ، فتعودُ خائبًا تُكمل الحفر في حاضِرِك، نعم، يمكن أن تكمُن بداية العلاج –مثلما يخبرنا زعماء التحليل النفسي-  في لحظةٍ تتذكّرها من الماضي، فتحضرها معك بعقليّةٍ أكثر وعيًا عن ذي قبل، فيكون عندها التحرّر من قلقِك مرهونًا بخلاصِك من تبعاتِ ذكرى ماضية أليمة، أو تجاوزًا لمحطّةٍ انتظرت فيها طويلًا. وعندما يبسطَ أمامك العلاجُ طريقًا نحو الماضي، جرّب أن تعود بأكثر الأجزاءِ خفّةً فيك، ارجِعْ كثيرًا للوراء، حيث تنكشِفُ طفولتك كلّها أمامك، ويصيرُ الماضي حاضرًا تعيشه، وفتِّش جيدًا، فتّش كما لو أنّك تبحثُ عن المفتاح الّذي سيوقف الدويّ المستمرّ في رأسك. وبمساعدة معالجك، تتفكّك قيود الوهنِ من دماغك، فيتنفّس.

السلوكيّة، وقطع شبكاتِ الفكرة

تبدأ المدرسة السلوكيّة  بتحديد كلّ الخيوط الواصلة بين طرفي الوسواس القهري، الأفكار وتبعاتِها،  فتسحبها خيطًا خيطًا، حتّى تنفكّ العقدةُ بأكملها، ويعود الفرد لحياته الطبيعية.

ترى السلوكيّة أنّ ثمة حدثٌ شكّل وصلةً ما بين الأفكار وتبعاتِها من الفعلِ، وبهذه الوصلة، يختلّ التوازن النّفسي للفرد، ويدخل دورةً من الفعل نفسه لدقائق وربّما لساعات، بلا غرضٍ سوى محاولة إشباع دماغه بدَفعةٍ مبهمةٍ من الرّاحة. يبدو الأمرُ معقّدًا بعض الشيءٍ، فذاك الّذي يسمى في كتب علم النفس “ارتباطًا شرطيًا” قد نشأ مادًّا ذراعيه نحو الفعل  والشعور بالراحة، هو نفسه مَكمَن المشكلة. كأنني أقول لك أن ذاك الطريق الّذي يهدي إليكَ توازنًا مؤقّتًا هو نفسه الّذي يسحبها منك، ويتركك تدورُ لساعات. إذًا، فأتباع المدرسة السلوكيّة، يحاولون الوصول إلى تلك الوصلة، وقطعها، حتّى ينسحب منكَ الوَقود الّذي يوصِلُك للأمان بعدما تهلك.

على كلٍّ، تتفاوتُ العلاجات الّتي يمكن بها مواجهة الأفكار القَلِقَة، من التحليليّة  إلى الأساليبُ المعاصرة، ومرورًا بهم على اختلافِهم وكثرتهم، يواجه الفردُ إعصاره بنفسه، في الوقت الّذي يستعجبُ فيه الجميعُ أهميّة ما يفعل. وبين هذا وذلك، تذكّر، إذا كنت ممّن تلتهِمُ أدمغتُهُم  نفسها بنهمٍ، حارب لئلّا تطعمها المزيد!

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سلمى عصام الدين

تحرير/تنسيق: هاجر عمر

الصورة: لؤي الكيالي

اترك تعليقا