بستان شوقي

أحمد شوقي علي أحمد شوقي بك، القاهريّ مولدًا ونشأةً، وُلِدَ في رجب سنة 1287هـ، لأبٍ شركسيّ، وأمٍّ يونانيَّةٍ تركيَّةٍ.
ومن أقدار الله أن كانت جدَّتُه لأمِّه تعملُ في قصر الخديوي إسماعيل، وقد تكفَّلت برعايتِهِ فنشأ في القصرِ، ولمَّا بلغَ الرَّابعة التحقَ بالكُتَّاب، ثمَّ المدرسة، لِيُظهِرَ فيها نُبوغًا يحملهم على إعفائِه من مصاريف الدِّراسة!

ثم التحق بمدرسةِ الحقوق، وسافرَ منها إلى فرنسا على نفقةِ الخديوي توفيق. نفاهُ الإنجليز إلى إسبانيا سنة 1915م، فاطّلعَ على الأدبِ العربيّ، والحضارةِ الأندلسيَّةِ.

في سنة 1927م بايعَ شُعراءُ العربِ شوقي أميرًا للشُّعراءِ، وقد تفرَّغ بعد ذلك للمسرحِ الشّعريّ إذْ يُعدُّ شوقي الأوَّلَ في هذا المجالِ عربيًا.
وما أنسى ولا أنسى ذاتَ يومٍ كنت أجلس إلى أستاذي يشرحُ لي درسًا في علم البلاغةِ، فمرَّ أمَامنا بيتٌ لشوقيّ، فقال لي: مَثل الشّعراء وشوقي مثل رجلين الأوَّلُ ينحتُ في جبلٍ ليستخرجَ كلماتٍ ومعانٍ، والثَّاني يغترِفُ من بحرٍ مليءٍ بما لذّ وطابَ من معانٍ ساميةٍ، وألفاظٍ عاليةٍ، فشتَّان بينهما! وقد ترك شوقي نِتاجًا عظيمًا، أقلَّ ما يُقالُ عنه أنَّه تراثٌ!

في أوَّل معرفتي بشوقي كنت أظنُّ أنَّ جُلَّ ما جادت به قريحتُهُ في ديوانه الشَّوقيّات، ثمَّ إنّني لمّا بحثتُ في الأمرِ وجدتُ أنّ له غير الشّوقيّاتِ مؤلفات عديدة، نذكرُ منها:
أسواقُ الذّهب. أميرةُ الأندلس. البخيلة. السّت هدى. الشَّوقيّات. دول العربِ وعُظماءُ الإسلام. علي بك الكبير. عنترة. قمبيز. لادياس. مجنون ليلى. مصرع كيلوباترا. الفرعون الأخير. عذراء الهند. وأبرز مؤلَّفاته هو ديوانه الشَّوقيّات.

وشعرُ شوقي مُتعدّدُ الألوان، حتَّى أنَّك تكادُ تشعرُ أنّك تجلسُ أمام عدَّةِ أشخاصٍ لسانُ حالِ كلّ واحدٍ منهم بخلافِ الآخرِ، بل ربَّما قد يُهاجِمُ بعضهم بعضًا!
فمثلًا تقرأ له:
رمضان ولّى هاتها يا ساقِ .. مشتاقًة تسعى إلى مشتاقِ
يعني الخمر!

إعلان

ثم تجدُ نفسك أمام شخصٍ آخرَ مختلفٍ تمامًا حين تقرأُ نهجَ البُردَةِ، فتجده يستهلُّها ويقول:
ريمٌ على القاع بين البان والعلم .. أحلّ سفك دمي في الأَشهر الحرم
ويقولُ في همزيّتِهِ:
وُلد الهدى فالكائنات ضياء .. وفم الزّمان تبسّم وثناء
وشوقي لم يترك لونًا من ألوانِ الشّعر إلّا ودقَّ بابَه، ونغَّصَ على الشّعراء غيره عيشتهم!
ولعليّ أقصُّ عليك قصَّةً لطيفًة لي زُرت فيها بستان شوقي.

فهيَّا بنا…
فها نحنُ نفتحُ بوّابة بستانِهِ وقد كُتب عليها بخطٍ مُذهَّبٍ:
وجنّات من الأشعار فيها .. جنًى للمجتنِي من كلّ ذوق.
تأمّل كم تمنّوها وأرِّخ .. لشّوقيات أحمد أيّ شوق.
فلّما دخلنا البستان إذْ بشجرةٍ عظيمةٍ مُباركةٍ طيِّبةِ الرّيحِ، ظلُّها عظيمٌ، فقلتُ في نفسي: ما هذا الجمال! واقتربت منها فإذا بكلِّ ورقة منها قد طُبِعَ حرف ما، فلَّما تأمَّلت ترتيبَ الحروفِ إذْ بي أقرأ:
لزمْت بابَ أميرِ الأنبياء، ومن .. يُمسِك بمفتاحِ باب الله يغتَنِم
فقلت هذه قصيدته المشهورةُ، العالية مقامًا، نهج البُردة.
ثم أكملتُ المسيرَ فإذْ بعربةِ قطارٍ قد استقرَّت في أحدِ الأركانِ فلّما دخلتها إذا بورقة بها عدّة أبياتٍ وقد استهلَّها بقوله:
أتتني الصّحف عنك مخبّرات .. بحادثة ولا كالحادثات
بخطبك في القطار أبا حسين .. وليس من الخطوب الهيّنات

وهذه أبياتٌ بعثها إلى صديقِهِ الشّاعر إسماعيل صبري، وقد تعرَّضَ لحادثةٍ في القطار، فأرسل إليه يُهنِّئهُ بالسَّلامةِ!
ثمَّ إذا أنا ببحيرةٍ، صافيةٍ، ترى قاعها من شدّة جمالِها ونقائِها، فتأمّلت فإذا ببطاقاتٍ ورقيَّةٍ تسبح فيها ولا يضرُّها جريان الماء في شيءٍ، فأمسكت واحدًة فإذا بها:
الخيل تأبى غير أحمد حاميًا .. وبها إذا ذُكِر اسمه خُيلاء
وإذا بصائحٍ يقول: يا هذا، ألقِ البطاقةَ، وابتعد!
فصلّيت على النّبي، وألقيت البطاقة في البحيرة، وسرت متعجبًا، فما كانت هذه البحيرة إلا الهمزيّة النّبويّة!
وبينما أنا أسير إذ بأطفالٍ صغارٍ يلعبون تقدّمت طفلة منهم نحوي وكان معها كلب صغير، وقالت ألا تعرفني؟
قلت: لا، من أنت؟
قالت أما سمعتَ قول الأمير:
أمينةٌ، يا ابنتي الغالية .. أهنِّيك بالسّنة الثّانية
وأسأل أن تسلمي لي السّنين .. وأن تُرزقي العقلَ والعافية
فتذكّرت أنّ له ابنًة اسمها أمينة، فابتسمت لها، وقلت: عرفتك الآن يا أمينة!
ثم نظرت إلى الكلب بجوارها، فقلت في نفسي إنّي أعرفك يا هذا، وأذكر قول شوقي فيك:
يا حبّذا أمينة وكلبها .. تحبّه جدًا كما يحبّها
أمينتي تحبو إلى الحولين .. وكلبها يناهزُ الشّهرين
ثمّ إذ بطفلٍ صغيرٍ يجلس بعيدًا، ويبكي.
تقدّمت نحوه وسألته: ما يبكيك يا صغير؟
قال: وكيف لا أبكي وقد قال في أبي ما قال!
قلت: وماذا قال؟
قال: سمعته يقول:
صار شوقي أبا علِي .. في الزّمان الترلّلي
وجناها جنايةً .. ليس فيها بأولِ
فخفّفت عن الصّبي، حتّى ابتسم، وقام ليلعب.
وعرفت أنّه الابنُ الأصغر لشوقي.
علي!

ثم قلت في نفسي:
إن كان الصّبي حزينًا لأجل هذه الأبيات، فكيف به حين يسمع قول أبيه فيه:
عليًّ لو استشرت أباك قبلًا.. فإنّ الخيرَ حظ ُ المستشير
إذًا لعلمت أنا في غناءٍ.. وإنَّ نَكُ من لقائك في سرور
وما ضقنا بمقدمك المفدى.. ولكن جئت في الزَّمن الأخير
ثمَّ همَمت إلّا أنّني سمعت أصواتًا غريبًة، ليست باللّهجة المصريّةِ، فإذا بمدافعَ قد نُصِبت، وصوِّبت تجاه قومٍ شوامّ، عرفتهم من ملامحهم وأعلامهم، فعرفت أنّ أصحابَ المدافع هم جنود فرنسا.
وإذا بهاتفٍ يقول:
جزاكم ذو الجلال بني دمشقٍ.. وعزُّ الشَّرق أوّله دمشقُ
كدت أنضمّ للثّوار إلّا أنني رأيت أحدًا يغلق البوّابة، وفي الحقيقة لا أذكر أنّ شوقي قد كتب عن الطّعام والشّراب، فأسرعت نحو البوّابة هامًا بالفرار.
فلمّا صارت قدماي واحدةٌ في الدّاخل وأخرى في الخارج ،وبينما أنا أخرجُ من البستان دقّ جرسُ المنبّه، معلِنًا تمام الرّابعة والّنصف فجرًا، ففقت من أحلامي، وغادرت بستان شوقي
حقيقةً
وخيالًا

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد صبري بدران

تدقيق لغوي: جميل سليمان

تدقيق علمي: دينا سعد

اترك تعليقا