قصة قصيرة: الأشباح لا تعود إلى باماكو

1

يحدث الآن في أفريقيا، لكن يمكن أن يحدث في أي مكان آخر، يكفي أن تجفّ دموع السماء، وتظهر السراديب العميقة تحت الأرض، وبعدها تأتي الشاحنات من أوروبا وأمريكا، تنقل التراب من تحت الأقدام وترحل بسرعة، تاركة وراءها نملًا من الأهالي يحفر تحت أقدام المدن، كلما وجدوا شريطًا من المعدن النفيس يفرحون، فتسمعهم عواصم الشمال، وتعود الشاحنات من جديد.

فاتوماتا: هل يسرقون الذهب من أفريقيا؟

مامادو: نعم.

فاتوماتا: والنتيجة؟

إعلان

مامادو: الموت في “بحر الرمال العظيم” وسط ليبيا.

2

من يدري كيف كان سينتهي أمر مامادو، إنّه يسير فحسب، منذ شهرين تقريبًا، لا شمال ولا جنوب للرمال، الشمس أذابت آخر قطعة شحم على الظهر، وهي الآن تعزل بعض اللحم عن العظام، عالقٌ تحت الخمسين درجة حرارية، يعصر عنق قميصه ويشرب، العرق باردٌ وهذا الملح الزائد لن يفلت للأرض، عليه أن يعود للجسد مرات ومرات، أيسقط مامادو مثل الجثث السوداء التي رآها البارحة؟ اللعنة! كانت تزرع ألسنتها عميقًا في الرمال.

مامادو: نحن مثل هذين الخنفسين.

فاتوماتا: لا، هذا وطنهم، ونحن لا وطن لنا.

مامادو: صحيح، أتشعرين بالعطش؟ أرى فمكِ أخرج كل الملح الذي في الجسد.

فاتوماتا: نعم أيها الزنجي.

مامادو: تعالي، سأعصر أكمامي في فمك.

فاتوماتا: إذا مِتُّ قبل الوصول، لا تخبر زنوج إسبانيا بذلك.

مامادو: أجل فاتوماتا.

فاتوماتا: هذا جيد.

3

ليس ثمة أي ملامح قابلة للوصف، الصحراء أكلت الوجه وعضلات الصدر والقدمين، ماذا تبقى من المرأة؟ غير عينين معلقتين تحت عظام الجبين. المشهد من فوق أشبه بظلٍ يتحرك بالكاد، الفتاة كانت لمدّة ثلاثين سنة قصيرة بعض الشيء، لكنها أصبحت طويلة الآن، دخلت حدود ليبيا تحمل صدرًا مثل كل نساء العالم، وفي الطريق فقدت صدرها وأنانتيها الجميلتين، حيث يفترض أن يكون لون الحليب أبيضًا، كما النساء حقًّا. أقدامٌ حافية تصعد على الكثيب، فتطل على عشرات الكثبان، تنهار فاتوماتا على ما تبقى من ركبتيها، فينهار مامادو بجانبها.

فاتوماتا: إن مُتُّ هنا هل تعود روحي إلى باماكو؟

مامادو: لا.

فاتوماتا: وأين ستذهب إذن؟

مامادو: إلى لا مكان أيها الزنجية.

فاتوماتا: أتقصد أن الروح تبقى هنا؟

مامادو: أجل.

فاتوماتا: عمّ ستبحث في هذا الجحيم؟

مامادو: تتيه، تسقط، تنهض، تشرب العرق من الأكمام، وتسير مرارًا ومرارًا في اتجاه الهدف.

فاتوماتا: الهدف؟

مامادو: أجل، هدف خيالي، يصنعه العطش والسراب والفراغ، غير أنّه هدفٌ لا تصله الأقدام السمراء.

فاتوماتا: لا هدف؟

مامادو: أجل، اشربي من أكمام قميصكِ فأكمامي جفّت.

فاتوماتا: إن سقطتُّ، خذ ملابسي.

مامادو: وتبقين عارية تمامًا؟

فاتوماتا: نعم، الأمر سيان آنذاك.

4

على امتداد البصر تمتد الرمال، وأبعد من المتاهة الصفراء ثمة جبل أخضر، قبعته فضية، تمر حوله قوافل السحب فتصب الملح السائل وتمضي، ليس هناك شيءٌ بعد هذا سوى:

امرأة سوداء، بلا صدر وبلا أنانتين على القفص الصدري..

امرأة عارية تمامًا..

تغادر وتغادر وتغادر..

لكن الرمل يعضّ على أصابع قدميها..

خطواتها تبدو مقززةً إلى أبعد الحدود، مشهد الأنثى -السوداء العارية تمامًا وسط اللون الأصفر- يبدو مغريًا، يثير لعاب الغدد الوحشية، لولا أنها كانت تصيح بصوتٍ جاف:

 ـ ماء.. ماء.. ماء.

5

في الجهة اليمنى، هناك من يقترب خلسة، كان يضع قبعة جلدية داكنة، شارباه معقوفان في اتجاه الكتفين، لكز القنّاص حصانه فبدا الأخير يسبح على الكثيب، صوّب البندقية على الكتف اليمنى وتهيّأ للطلقة الأولى، خمّن أن تصيب الكتف الأيسر، فوضع أصبع الشاهد حول الزند.

تأمّل مامادو اتجاه الرصاصة الأولى.

مامادو: يا إلهي! الكتف.. الكتف.

جمع ما تبقى في عضلات ساقيه من حركة، ما تبقى في صدره من هواء، ثم بدأ يجري، لم يشعر بقدميه تطير فوق الرمل، ولا بشفتيه تدقّ على أسلة الأنف، المهم أن يجري بسرعةٍ فقط قبل انطلاق الرصاصة، وبالفعل دفع مامادو المرأة من الخلف فسقطا معًا على الأرض.

مامادو: يا فاتوماتا العارية، انتبهي ثمة قناص يصوب.

فاتوماتا: لستُ جسدًا الآن يا صديقي، أنا مجرد هدف.

مامادو: ولكن…!

فاتوماتا: أجل لقد متّ البارحة، ألا تذكر؟

مرّ أزيز الرصاصة فوق رأسيهما، فالتفت غاضبًا نحو القناص الذي نزل من صهوة الحصان وشرع في إشعال الغليون الأسود، ودخل في قهقهةٍ عالية، مثيرةٍ للضجر، استلّ مامادو البندقية بخفة وصوّب إلى جمجمة القنّاص.

ـ أيها الخنزير أتريد قتل الفتاة السوداء؟

طاخ! وأحسّ مامادو بلذّة النصر، وبالرمل العالق في فمه، وحين رفع عينيه لم يكن هناك لا قناص ولا غليون ولا بندقية، فقط امرأة سوداء تغادر وتغادر وتغادر، في اتجاه الجبل الأخضر، لا تهتم أبدًا لما حولها، تكرر بصوتٍ جاف:

ـ ماء.. ماء.. ماء.

مامادو: فاتوماتا، انتبهي يا فاتوماتا!

صاح مامادو بأعلى صوته.

فاتوماتا: لستُ جسدًا يا صديقي، أنا ميتة، ألا تذكر؟

أجابت دون أن تستدير وراءها.

­6

فكّر مامادو في لبؤةٍ تداعب أشبالًا تحت دوحةٍ جميلة، في بنات آوى يقتربن بحذرٍ شديد من طريدة نمر، في نسورٍ تحلق في السماء، في سراديب كثيرة تتسع تحت المدن الأفريقية، في التراب يرحل بعيدًا في حاويات القطارات وفي السفن الضخمة، في أطفالٍ سودٍ ببناطيل ممزقة، وفي شيوخٍ بنفس اللون يرقصون على نغمات الجاز الموجعة.

يأتي الليل لصحراء ليبيا مثل نزول ملاكٍ أسود، في كفيه الواسعتين مسحوق غامض لإطفاء الحرارة، كان مامادو داخل دائرة الظل ينتظر بفارغ الصبر، فليس على ظهره أي جلدٍ قابل للاحتراق من جديد، شجرة الشماري الوحيدة في كل الجحيم الأصفر تبكي، تمد أغصانًا وتغرز شوكتين على ساعد الرجل، لحظة، فيبدأ دم الشجرة يتدفق لجسم مامادو.

ليالي يوليو لم تكن باردةً على رمال برقة الصفراء، لكنها موحشةٌ مثل الأنهُر الممتدة بلا حدود، وفي الليل تختبئ الكائنات الضعيفة مثل الإنسان ذاته، تفسح المجال لأخرى تخرج من الظلمة، أكثر شراسة وقسوة، أكثر غرابة أيضًا، تمر حول الأقدام، لكن شجرة الشماري كانت هائجةً كثورٍ مسعور، تمد أظافرها وتزأر، تزأر فعلًا وليس لغةً.

شجرة الشماري: لن تأخذ ضيفي أيها الدب المغرور بشحمه.

الدب: مجرد لقمة صغيرة يا عدوة الدببة.

فاتوماتا: مدّ لسانك، اشرب من هذا الكم.

مامادو: ألا زلتِ هنا صديقتي؟

فاتوماتا: أجل، أنا شبح أفريقي، انظر إني عارية، لكن سأحرس خطواتكم.

في الصباح أشرقت الشمس، وهي هكذا دومًا؛ تشرق في اللحظة ذاتها فتهجم على الرمال وتشتعل الصحراء، نزع مامادو أشواك الشماري من جلده الجاف وأطل من تحت الوريقات، في هذه اللحظة رمق رجلًا آسيوي الهيئة، كان يقترب من الفتاة السوداء العارية، كان حافي القدمين صغير الرأس وضخم البطن، على كتفه سيف ورماح كثيرة، وفي يسراه قوس خشبي، ذكي وشيطاني، بين لحظة وأخرى كان يجلس على قدميه، بخفة غريبة، يقلع آثار أقدام المرأة من التراب ويشتمها بأنفه الصغير.

بعيدًا كانت هناك غارقة في السراب، تغادر عارية تمامًا، مثل أميرة في مسبح السلطان، خطوة.. اثنتان.. ثلاثة.. وتتقدم، رأسها يخترق وهم الأمواج الحارة بسلاسة، وعيناها على الجبل البعيد.. البعيد، أخضر وبقبعة فضية.

فاتوماتا: ماء.. ماء.. ماء.

على مامادو أن ينهض من جديد، في جسده دماء جديدة؛ دماء الشماري، وعليه أن يسرع قبل فوات الأوان، “أوه! لماذا لا تنتبه لنفسها؟ ثمة من يقتفي أثرها في كل ساعة، لكن لماذا يريدون إسقاطها؟”

مامادو: فاتوماتا، يا فاتوماتا، انتبهي! ثمة ساموراي خلفك.

تجيب دون التفاتة: لستُ جسدًا يا صديقي، أنا ميتة، ألا تذكر البارحة؟

دون جدوى من جديد، ظلت المرأة تتقدم بثباتٍ وكأنه لا شيء يقع، كان الساموراي قد رفع القوس، ثم انطلق السهم، تتبّعه الزنجي حتى اخترق جسد الزنجية، لكنها لم تسقط، اضطربت بخفةٍ ولم تسقط، فقط أعادت إيقاع الخطوات من جديد، وابتعدت في الخط المستقيم على الكثيب الموالي.

مامادو: أيها القزم الآسيوي، لا تقتل امرأةً سوداء.

الساموراي: لكنها عارية؟

مامادو: وإن؟

الساموراي: آه، إنها الأنثى الوحيدة العارية هنا.

مامادو: وإن؟

الساموراي: سمراء، انظر! الوحيدة السمراء في هذا الجحيم.

الساموراي: إنها جميلةٌ وسط الرمال.

مامادو: وإن؟

الساموراي: وإن.. وإن.. وإن.. كيف؟

مامادو: قلتُ وإن كانت كذلك أيها الخنزير.

مد مامادو يديه وقتل الساموراي، خنقه بشدّة حتى مات، لكن حين انتبه إلى نفسه لم يكن ثمة لا ساموراي ولا رمح ولا قوس، ثمة كثيب ممتد وشاسع، وامرأة سوداء عارية تمامًا، تغادر وتغادر وتغادر “ماء.. ماء.. ماء..”.

 خمّن الرجل الأسود أن كل ما يجري الآن في صحراء برقة ربما مجرد قطعة من الجحيم، محكومة بالتكرار الأبدي، عليه أن يلحق بها، أن يوقف تقدمها، أن تقف، أن تستريح فهي ميتة؛ ماتت البارحة فقط فنزع ثيابها، ووضعها على رأسه ليحمي نفسه من حرارة الشمس، هي أوصت بذلك قبل أن تموت بين يديه.

7

كان مامادو يجدّف بمنكبيه أمواج السراب، فيسرع على الرمل، وهو يجري ويلهث ويشرب من السراب.

 مرّ على ثورٍ يجتر الأفق ويفكر في نهرٍ بلا تماسيح.

 مرّ على قبيلةٍ من الفيلة تستحم وتخفي عظام أنوفها الطويلة.

 ثَمَّ قبائل أخرى بشرية..

 بنية الجسد تحفر من تحت المدن..

 تمدّ التراب وتبتسم ببلادةٍ قاتلة.

 مرّ على بحيراتٍ تتقيأ الملح والفوسفات على صدرها.

مرّ تحت حبل غسيلٍ طويل طويل طويل..

 عليه أطفالٌ في لون الشوكولاتة، وآخرون في لون الرغيف..

 منشورون مثل ملابس داخلية.

مرّ على الآبار السوداء المشتعلة يحرسها قتلةٌ مأجورون.  

أما هي فلم تغيّر من إيقاع مشيتها، فظلّ يقترب، حتى أصبح على بعد إصبعٍ صغيرٍ منها، آنذاك مد يده ببطء.

مامادو: أيتها المرأة العارية، قفي.

والتفتت أخيرًا.

فاتوماتا: ماذا تريد يا صديقي؟

مامادو: قفي لحظةً فقط، أنتِ في ورطة.

فاتوماتا: ورطة؟

مامادو: أجل، أصبحتِ شبحًا، وهذا يجلب القناصة.

فاتوماتا: أعرف، وهذه ثيابي تقي رأسك الأسود من الحرارة.

أضافت المرأة السمراء:

ـ اسمع مامادو، أنت لا زلتَ حيًّا، أنا انتقلتُ لعالمٍ آخر، لدي هدفٌ أكبر.

ثم أضافت المرأة السمراء:

ـ خذ هذا الاتجاه فثمة شاحنة على الطريق، وراء الكثيب بالضبط، ستسافر بعيدًا، المهم أسرع، انجُ أيها الزنجي اللطيف.

مامادو: أسافر؟ إلى أين؟

فاتوماتا: إلى باماكو.

مامادو: وأنتِ؟

فاتوماتا: الأشباح لا تعود إلى باماكو.

ثم تابعت السير في اتجاه الجبل الأخضر ذي العمامة الفضية، في حين غادر مامادو حزينًا واختفى خلف الربوة الرملية الصفراء.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: الحبيب اعزيزي.

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

تدقيق علمي: دينا سعد

اترك تعليقا