الذهب الأصفر والذهب الأسود.. قصة قصيرة

ضغطتُ بقوة على دواسة البنزين في سيارة الدفع الرباعي، فاستجابت مسرعة على الطريق الذي يشقّ رمال الصحراء الساكنة والتي ظلت محافظة على عذريتها مئات السنين قبل أن تدنّسها أقدام الذين جاءوا يبحثون عن الذهب الأسود.

أحسست بوخزات الألم على جدران مثانتي الممتلئة ووقعت عيناي على علب المياه المرمية على المقعد المجاور للسائق فأشحت ببصري بعيدًا.. في وسط الصحراء الخالية إلا من آبار النفط وخطوط الأنابيب يصبح من الترف الزائد أن تتوقع وجود حمامات عامة على الشارع أو في محطات تعبئة الوقود كتلك التي تعودت الوقوف عندها في أثناء عودتي يوميًا من الجامعة.

لقد مضت سنة على تخرجي قبل أن يقرر الحظ الابتسام لي بهذه الوظيفة التي يحلم بها الكثيرون، إن شعور الراحة والانشراح الذي تحس به حين تحصل على وظيفة في هذا الزمن الذي كثر فيه الباحثون عن العمل لا يضاهيه إلا شعور الراحة عند إفراغ مثانتك التي توشك على الانفجار. انتابني شعور بأن زجاجة المياه الفارغة بجوار ذراع السرعات تحدق بي مستهزئة بعد أن افرغتها في جوفي سابقًا في لحظة عطش قاتل. اتصل بي مسؤولِي ثلاث مرات ليستحثني على التعجيل بالعودة، ولكن كان لا يزال أمامي ربع ساعة لكي أصل إلى مخيم الشركة وأسلم المهمة التي كلفت بها وأدخل بعدها إلى غرفتي بحمامها الذي يبدو لي في هذه اللحظة بعيد المنال.

لقد بدأت استراحة الغداء فعليًا منذ خمس دقائق.. لم أكن أعلم أنني سأتأخر في العودة حين كلفني مسؤولي بالخروج لاستطلاع نقطة التوصيل المُثلى لأحد خطوط أنابيب النفط الجديدة.. لا تكمن المشكلة في أنني قد استغرقت وقتًا أطول مما توقعت بالخارج بل في أنني قبل خروجي ملئت بطني بشتى صنوف السوائل؛ الساخن منها والبارد ثم انطلقت بدون تلبية لنداء الطبيعة أو القيام بواجب الزيارة للحمام.

رأيت المنعطف الحاد الذي تعودت المرور عليه في أثناء مروري بهذا الجزء من الطريق والذي كنت سأخفف السرعة عنده في الظروف العادية . ولكن الظرف الطارئ الذي أمر به الآن لم يسمح لي بأخذ هذه الفكرة على محمل الجد، يصبح الخطر مضاعفًا عند المنحنى الحاد إذا ما أضفنا إليه السرعة العالية وتهالك الطريق عند هذه النقطة.. وقد أدى ذلك كله إلى اندفاع جسدي إلى الأعلى ويرتطم رأسي بسقف السيارة قبل أن أهوي بكل قوة على المقعد فأحسست بمثانتي تكاد تتمزق.

إعلان

نظرت إلى الزجاجة الفارغة مجددا وقد راودتني فكرة غبية طردتها من رأسي على الفور.. قرببا سأصل.. عليّ أن أصرف فكري إلى أي شيء آخر.. هل ألقي باللائمة على مسؤولي الأجنبي؟
إنه كثير الكلام ولولا ذلك لما تأخرت في الخروج .. دائما ما يأتي إلي فجأة للحديث حول أمور لا علاقة لها بالعمل .. أحاديث مختلطة في السياسة والرياضة والسينما والتاريخ والأديان .. اليوم مال بنا الحديث إلى شعر رأسه الغزير الذي يصل إلى مستوى كتفيه .. أبدى لي استغرابه من عدم وجود أصحاب الشعر الطويل بيننا نحن شباب البلد .. أوضحت له أن في مجتمعاتنا التي هي قروية في معظمها توجد قائمة طويلة بالممنوعات المستنكرة والتي تعتبر داخلة في قائمة (العيب) وهو مصطلح شبيه ب(المحرمات الدينية) ولتوضيح الفكرة أعطيته أمثلة كثيرة من تلك القائمة كخروج المرأة بدون عباءة وإطالة الشعر والتبول واقفا -أو في قنينة فارغة- .
اللعنة ..

يبدو أنني عدت للتفكير فيما حاولت الهرب منه .. لقد قاربت قدرتي على التحمل من نهايتها والطريق ما يزال طويلًا .. تجاهلت الاتصال العاشر من المسؤول.

وعند هذه النقطة أعطاني جسمي إشارة خطر إلى أن الدقائق الخمس التي تفصلني عن الوصول إلى المخيم أطول من قدرتي على التحمل .. نظرت إلى الزجاجة الفارغة بجوار عجلة القيادة وأنا أوقف السيارة بجانب الطريق ولا أعلم لماذا جاء ببالي لحظتها مصطلح (المخلص المنتظر) الذي لا تخلو منه أي ثقافة أو ديانة تحترم نفسها ..إن جسم الإنسان له حدود تغدو عندها مراعاة العادات والتقاليد ترفًا زائدًا.

بعد ثوان ركبت السيارة واستأنفت المسير بأقصى سرعة مسموح بها .. على بعد أمتار رأيت سيارة مسؤول الصحة والسلامة قادمة باتجاهي.. مر بجانبي فحييته ملوحًا بيدي رغم استغرابي لرؤيته خارجًا في وقت استراحة الغداء .. حين التقيت به لاحقًا في المكتب فأخبرني عن أمر غريب حدث بعدما مر علي، حيث لمح التماعًا على جانب الطريق بدا له كانعكاس لبريق من الذهب فاقترب منه وأوقف سيارته .. حين نزل للتأكد من البريق الأصفر فوجئ بوجود زجاجة بها سائل أصفر وحين أخبرني بماهيته تظاهرت بالدهشة وشاركته في إطلاق الشتائم في حق العمالة الوافدة التي لا تلتزم بمعايير السلامة وإجراءات الوقاية الصحية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: الوليد الكندي

تدقيق لغوي: عمرو النجار

اترك تعليقا