رياح عائلة كشنوف: كيف تجعل من العالم مسرحيَّةً هزليَّة

رياح عائلة كشنوف، عالم جديد صنعه القاصّ، لا يشبه العوالم التي اعتدْتَ عليها، كالعوالم الورديَّة المليئة بالحبِّ والسُّرور، أو الرَّمادية التي تنضح بالحكم والمواعظ والقواعد العامَّة، عالمٌ جديدٌ بألوانٍ جديدةٍ لا يحتملها الطَّيف المرئيّ. هذا وقد قام القاصُّ بنقد عالمه سابقًا -قبل أن نفعل نحن- نقدًا لاذعًا ساخرًا، فجرّد هذا العالم اليائس والقانط من جديّته وقسوته، مترجمًا غضبه واشمئزازه بخليطٍ من السخرية والتهكم.

مقياس الرجل العظيم قدرته على السخرية من المتاعب.

أفلاطون

يجدر الإشارة أنّ رياح عائلة كشنوف هي أولى أعمال القاصّ بيدر جهاد الإبداعية، والتي أصدرتها دار فضاءات للنشر والتوزيع في عَمَّان مؤخرًا، وقد ضمّت بين دفتيها 127 صفحة، و17 قصة وأقصوصة، وبإمكان القارئ إنهاؤها في غضون ساعات، لذلك تعدُّ عائلة كشنوف مناسبةً لك إن كنت ممَّن لا صبر لهم على الصفحات الطويلة.

نتناول بداية الإهداء الذي قدمه الكاتب لجمهوره، فكان: “إهداء إلى البسطاء، المساكين، الذين هم نحن”. وبالرغم من بساطته، وتواضع كاتبه نلاحظ أنه قد يشمل معانٍ أخرى غير التي تحملها العبارة المباشرة، فيمكن أن نراه بالمعنى الصَّريح لكلّ بسيط ومسكين، ويمكن أن يحتمل تأويلاتٍ أخرى كأن يكون المقصود فئةً معينةً ومعنيةً من المجتمع، وقد اتَّبع القاصُّ هذا الأسلوب في جلّ مجموعته القصصيَّة، فترك الخيار للقارئ بأن يطلق العنان لتأويلاته، وأن يوسع من أفق توقعاته.

“السخرية هي الملاذ الأخير لشعبٍ متواضعٍ وبسيطٍ”.

فيودور دوستويفسكي

في قصة موسيقى صافيناز هانم يختزل القاصُّ فتور الحياة ورتابة الروتين في عباراتٍ هزليّةٌ ساخرةٍ: “يا إلهي! هذا لا ينتهي، من الواضح أن لا مناصّ من الاستماع لموسيقى السَّيدة صافيناز هانم كلّ يوم، والتي تفقدني القدرة على قراءة صفحتي المفضّلة، في هذه الصّحيفة الهزيلة، التي لا تهمّني، والتي تكاد لا تخلو صفحة منها من صور رئيس البلدية السَّمين، صاحب المؤخّرة الكبيرة، وسيّارته ال كاديلاك الجميلة هذه، لحظة، هل قلت جميلة! أ..أأ..أجل جميلة. والسبب، أنه كان بعيدًا عندما تمّ صنعها، ولم يشارك إلا في ركوبها”.

إعلان

يسخر رواي القصِّة من الصّحيفة واصفًا إياها بالهزيلة والتي لا تهمّه، الصّحيفة ذاتها التي تحتوي على صفحته المفضّلة! ويسخر سخرية الشّجاع لامباليًا من أصحاب النُّفوذ ومن هم أعلى شأنًا؛ كالسُّخرية من رئيس البلديَّة واصفًا إياه بالسَّمين، وصاحب المؤخِّرة الكبيرة، الذي يركب سيارة جميلة؛ لأنَّه لم يشارك في صنعها، وشارك في ركوبها فقط.

ونراه يستخدم ذات النّوع من السُّخرية مع مديره، الذي يقلق راحة باله، ويلاحقه في أحلام منامه: “يراوده حلمٌ آخر، بأنَّه ضريرٌ ولديه خبراتٌ في تحسُّس ساعة المنبِّه وإخراسها بسهولة، قبل أن يتفاجأ بصورة مديره وهو يدخِّن سيجاره الحبيب ويوقِّع على ورقةٍ يمسكها لإعطائها له وهو يضحك ويقول تمّت إقالتك.. لحظة صمت، بعدها أدرك أنّ الأمر لا يتعدى مجرّد حلم، قفزة أخرى من السَّرير للجانب الأيسر، مع شتيمةٍ للمدير، أمدَّته بالنشاط”.

عبَّرت هذه القصّة عن عاطفة الانتظار والوحدة، فصافيناز هانم، التي أزعجت الجيران بموسيقاها الصّاخبة لفترةٍ طويلةٍ، كانت وحيدةً بانتظارهم، بانتظار زيارتهم، لتحتفل معهم بعيد ميلادها الثمانين، فتفاجئهم، وتنعم بوجودهم، قبل أن تموت بأرضها، فلا رغبة لديها بأن تموت وحيدة! “يهرع الجميع إلى الدّاخل بفوضى متوقّعة. يتقدَّمهم أيهم ليجد قالب حلوى، يبدو عليه التَّيبُّس والعفن.. مقاعد وطاولة كبيرة، تتوسطها السيّدة صافيناز هانم، التي يبدو أنَّها كانت تتوقَّع زيارة وتنتظر أحدًا ما. تبتسم للجميع. تشغِّل الموسيقى بصعوبة، وتقول مفاجأة. قبل أن تموت مكانها“.

في قصّة عائلة تظهر لنا رهافة الإحساس وعمق دلالة معنى العائلة، فقد تمحورت قداسة الرِّباط العائليّ الذي جمع شخصيَّات القصّة على إختلاف المعطيات حول الحبّ، ولم توجد هذه العائلة بيولوجيًّا بل وجدت بالحبّ، فبالرغم من أنَّ السيد زكرياء الكبش عقيم، لديه ثلاثة أولاد :جريس، ودحبور، وداود. فتأجَّجت هذه القصّة بعاطفة الأمومة والأبوَّة الأصيلة، هذا وقد أضاف القاصُّ لمساتًا إنسانيةً ووجدانيةً عميقة المضمون وشديدة الإيحاء حين اختتمها بكتابة اسم داود الحقيقيّ: ” حبيبي داود زكرياء الكبش”.

نوعٌ آخر من السّخرية، نراه في قصةٍ ممتلئٌ بالفراغ، وهي سخرية المتواضع، فهنا لا يسخر الراوي من مديره، ولا من رئيس البلدية، بل يسخر من ذاته ويتمرَّد عليها! فيستخدم السّخرية ليعبِّر فيها عن خيباته المتكرِّرة في الحياة، وفقدان تقديره للأشياء، عدا الرَّجل الرأسمالي، فهو أكثر قيمةً من ذات شخصيَّة المتسوِّل -كما يرى نفسه- عندما ردَّ المتسوِّل بعد أن تكوَّر على نفسه: “ابصق عليَّ مرَّتين، أرجوك، أنا استحقُّ ذلك سيِّدي”. وبالرَّغم من عنوان القصّة، إلا أنَّك ستتوه بين جنباتها، فهذه الشّخصيّة التي تجلد نفسها باستمرار، وتريد أن تصبح كل شيءٍ ليس ذا أهميةٍ كبيرةٍ، أو أشخاص يملكون حياةً بائسةً وذليلةً، ممتلئةٌ بأشياء كثيرة، كثيرةٌ جدًا!

في قصّة رهانات غير صائبة، يتكرّر مشهد جلد الذّات وتأنيب الضَّمير لأجل خيل عالي المقام، وتفضيلها على نفسه، فخيل عالي المقام يجب ألّا تراهن عليها وإن فعلت فلا بدّ أن تكسب الخيل الرّهان، وإلّا أصبحت مذنبًا تستحق العقاب! “الخياط كميل يتحسَّس رأسه، كمن يريد التّأكد من بقائه مكانه ويقول: أجل سيّدي، لقد فعلت، نفسي الدنّيئة سوّلت لي هذا.. أستحقّ هذا، أجل، أرجوكم طهِّروني، طهِّروا هذه النَّفس الدَّنيئة”.

وفي قصّةٍ مفاجئةٍ نوعًا ما، وهي قصّة كرسيّ خشبيّ قديم، ستتابع متشوقًا هذا المونولوغ (الحوار) الدّاخلي للرّواي المتكلم، محاولًا فهم غموضه، واكتشاف سرِّه الذي يخفيه بين الأشياء، ليصدمك القاصُّ بإبداعه الفنيّ في النّهاية، أنَّ هذا المتحدِّث هو مجرّد كرسيّ خشبيّ، وكلّ تلك الأحداث هي مشهد طبيعيّ لبعض الجمادات كالنّافذة وسلّة المهملات لا أكثر، فبالرّغم من رتابة الموقف وهدوء الأشياء، برع القاصّ في إحياء هذا المنظر، وخلق الإنسان من جماداته، فاستطعنا الاستماع إلى ما يدور في بال الكرسيّ الخشبيّ القديم، حديث نفسه ونجواه، كأنّه بشرٌ له خواطر وأفكار وأحاديث داخليّة “ها هي، سمعتك تقولها مرّةً أُخرى. أجل سمعتها.. حتّى أنت لا عليك.. لن ألومك، أنت لا علاقة لك، فلست وحدك من يراني مجنونًا وكاذبًا لا أتعدى كوني مجرّد كرسيّ خشب قديم”.

تتناول قصّة صف سابع موضوعًا جديدًا لا يقل أهميّةً عن المواضيع السابقة، التربية هنا هي ما يشغل بال القاص، وبعض العادات الخاطئة التي تمّ اتباعها فأثرت سلبًا على شخصية القصّة، وهي المقارنة والتوبيخ، وحرمانه من إكمال تعليمه وتحقيق أحلامه، فربما أبسط الحقوق هي أسمى أماني البعض! وهذه القصّة فيها بعض التّشابه مع قصّة غُمَّيضة، التي جسّدت صراع الأجيال، وحنق الأبناء وغضبهم من الآباء.

رياح عائلة كشنوف.. قد يبدو أنّ تناولنا لهذه القصّة في الخاتمة غير عادل، وهي القصّة التي جعل القاص منها عنوانًا لمجموعته القصصيّة، ولكن يقال أنّ المسك في الختام، وبالفعل فهذه القصة هي بؤرة السّخرية والتّهكُّم، وهو الأسلوب الذي اعتدنا عليه منذ البداية في هذه المجموعة.

يعود فلاديمير إلى المنزل مسرعًا، خائفًا ومحبطًا يرتعش، ليخبر عائلته بأنّه يحمل مصيبة، فيلوم نفسه، يؤنبها، ويجلدها، ويهينها: “أجل الهويّة، إثباتًا لشخصيّتي المنحطّة، الفقيرة للأخلاق”. مودعًا الجميع، كمن رأى شبح الموت بانتظاره، وبعد طول عناءٍ وتوسّلاتٍ وصلواتٍ من عائلته يخبرهم أنّه قام بإطلاق الرّيح مرتين، أثناء مرور موكب رئيس البلديّة!

“السّخرية هي سلاح الأعزل المغلوب على أمره”.

فولتير

كوظيفةٍ بيولوجيّةٍ طبيعيّةٍ يقوم بها الجسم، لا تستدعي الخوف والقلق،ولكن نرى أنها أرعبت عائلة كشنوف لأنه قام بها أثناء مرور موكب رئيس البلدية! وهنا يسخر القاصّ من الشكل العامّ للقصّة، فيشجب ويدين الطبقيّة والمحسوبيّة باستخدام هذا النَّسق السّاخر، ولماذا السُّخرية؟ لأنَّ النَّفس البشريّة عندما تصاب بالنّفور من شيء ما تشمئزّ، وعندما يعكِّر هذا الشّيء الذي أثار فيها الإشمئزاز صفو حياتها، تتولُّد لديها غريزة الدّفاع والانفعال المقترنة بالغضب وبالتالي يدفعانها للسخرية، كسلوكٍ فلسفيٍّ للتعبير.

تفرَّد القاصُّ في طريقة تعبيره عن تجربته الشّعوريّة، وأبدع في وصفها ورسم صورتها، بتناوله للمجموعة بطريقة ساخرة، ونظرته المتهكِّمة للعالم كأنَّه ينظر له من ثقب إبرة، فيراه تافهًا صغيرًا، ولا مكان للجديّة فيه. هذا وقد أسهم القاصّ بتوظيف الصّور الفنيّة، والوصف الدّقيق لشخوص القصّة وأحداثها، فأبدع في كتابة هذا العمل المتميِّز المحكم، الذي خصّ فيه نخبةً من القرّاء، من يبحثون خلف المعنى عن معنى، ولا يفضِّلون أن تأتيهم العبر جاهزةً على طبقٍ من ذهب. فهذه المجموعة القصصيَّة تدعونا للتأمُّل والتَّفكير طويلًا، والبحث عن المعنى العميق، خلف كل حدث وجملة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: يقين عادل

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: هاجر عمر

اترك تعليقا