حَولَ أَهميّة صِياغَة المرض العقلي فِي الرِوايَة (مترجم)

نعيش حياتنا اليوميّة في محاولة للاستمرار في مسرحيّة تدّعي أنّنا كائنات بشرية مقبولة، وصرنا نتقبّل تلك العائلة المفكّكة من الكلمات التي تتجمّع تحت مصطلح مشترك وهو “المرض العقلي”، فتتسرب كلمات مثل “القلق“، “الإدمان”، “الاكتئاب” وقريبتها “الانتحار” إلى أحاديثنا اليومية، فيؤتى أحيانًا على ذكرها بنبرات رهبة، أو نبرات هول وإثارة في أحيانٍ أخرى. وفي بعض الأحيان يبدو أنّ الإعلام أمسى يتناول المرض العقلي كما يتناول كبرى الماركات العالمية، فنجد أنّ الاكتئاب أصبح اللون الأسود الجديد، وأصبح من الأناقة أن “تحافظ على صحتك النفسية”. ونجد أنّ كل الكلمات الطنانة المحيطة بصناعة طيب الحياة إنما كلمات مبهمة، بل أحيانًا تميل إلى الملل. إلا أنني قد اكتشفت جرعة مضادة لعملية المتاجرة بالصحة النفسية هذه، فكلما أزعجني الواقع، ألجأ إلى ملجئي الدائم “القراءة”.

ليس لي غاية من تصنيف الأدب إلى كتب تتناول بشكل خاص قضايا الصحة النفسية، ولا أظُن أنّه من المتاح تفصيص مثل هذا الجزء الأساسي من ذواتنا وتعليبه تحت مسمّى فئة من الكتب على موقع Goodreads يمكنك زيارته. فصحتنا النفسية هي ما تُملي علينا كيفية رؤيتنا للعالم من حولنا وكيفية معايشتنا له. لذا أودّ الاستفاضة عن بعض القصص التي قد ساعدتني في عملية إعادة صياغة مفاهيمي الخاطئة لما يعتبره المجتمع صحيًّا أو غير صحي.

تدور رواية “سيّدة محل البقالة” Convenience Store Woman للكاتبة ساياكا موراتا حول إمرأة تستمتع بالعمل في محل البقالة، وقد سارعت الغالبية من المراجعات النقديّة حول الكتاب إلى محاولة تشخيص إصابة الشخصية الرئيسية، “كايكو فوروكورا” باحد الاضطرابات العصبية أو مرض نفسي. فمن غير المقبول لكايكو أن تعمل بدوام جزئي في محل بقالة، وذلك في ثقافة أصابها الهوس بالتقدم والارتقاء بالذات، لذا يراها المجتمع بأنها غريبة الأطوار، كما أن مجرد وجودها يمثل تهديداًا للوضع القائم. أمّا كايكو، فهي متمرّدة خاملة، تهتم كثيرًا برأي الناس عنها، حتى أنّها تعكس سلوكيّات الآخرين وتحاول التظاهر بأنها متزوجة. أما العمل في محل البقالة فهو الأمر الوحيد الذي يبدو منطقيًا لها؛ فمن أجل الاستمرار في محل البقالة عليكَ أن تكونَ عاملًا به. وقد يبدو هذا أمرًا بسيطًا للغاية، فما عليك سوى أن ترتدي زي العمل وتنفذ ما يَرِد في الكُتَيّب. ولا داعي للاعتراض على أيٍّ من هذا، فقد كان الأمر ذاته قائمًا في مجتمعات العصور الحجرية، أي أنّك طالما ارتديت جلد ما يعرف بالشخص العادي وتتبعت خطوات الكتيب، فلن يتم طردك من القرية أو اعتبارك عبئًا عليها.

وعندما كنت طالبةً جامعيّة، طُلِبَ منّي الإجابة عن استبيان، كان أحد متطلباته أن أقيّم على مقياس من 1 إلى 10 عن مدى شعوري بأنني قد أمثل عبئًا على الآخرين. وسرعان ما تم تشخيصي بالإصابة بالاكتئاب والقلق. وفي البدء شعرت بالارتياح، لكنّني سُرعان ما أدركت مدى القيود المفروضة التي تتمثّل في اللغة المستخدمة في مجال الصحة النفسية. إن كتيّب متجر البقالة الذي تشير إليه كايكو هنا أشبه بكتيّب تشخيص وإحصاء الاضطرابات النفسية DMS، وطرق تشخيص حالات الصحة النفسيّة. وحينما أعطاني أحدهم منشورًا تعريفيًّا يحمل صورة مُحبِطَة لسحابة تُمطِر كلمة “اكتئاب” على رأس شخصٍ مرسوم، وقد أمسيت باحثةً عن سبيل جديد للحديث عن الصحة النفسية.

وتعتمد كايكو على الكتيّب الخاص بها كما أعتمد أنا على الكتب، فقد اكتشفت أن ذوباني داخل خيالي هو وسيلتي الدفاعيّة الوحيدة ضد عالم لا منطقي. ولست وحيدة في محاولات للحياة في عالمي الصغير الخاص، فنجد دورا في رواية بوللي كلارك “لارشفيلد” Larchfield تذهب باستراتيجية المواءمة هذه إلى أبعد الحدود. فدورا شاعرة وقد اصبحت مؤخرًا أمًا لأوًل مرة، كما انتقلت للعيش في بلدة هيلينزبورج الصغيرة في اسكتلندا حيث تحاول إقامة صداقات جديدة. وعندما تكتشف أن الشاعر و.هـ. أودن كان يعيش في ذات المنطقة، تجد سلواها في رفقته. ومع أحداث الرواية يتضح أنّ الصحة النفسيّة لدورا ليست على ما يرام، وأنّ الأمر الوحيد الذي يبقي على اتصالها بالعالم هو شخص ويستان أودن الغامض. وفي مشهد مؤلمٍ للغاية، تنسى دورا وليدها في سيارة، ويتم استرجاع الطفل، وتحاول دورا المضي قُدُمًا في يومها كما اعتادت، إلّا أنّ الهلع كاد يطاردها، فإن توقَفَت، فإنها قد تجهش بالبكاء، أو تفضفض لعميلٍ ما أنّ طفلها كاد أن يموت في الصباح، ثم تسأله إن كان يعرف و.ه. أودن؟

إعلان

وتحبّذ دورا البقاء في حالة الاستمرار الآلي عن انهيار الواجهة التي تقدمها للعالم. فهي تخشى مشاركة نسختها الخاصة عن الواقع، مخافة أن يسخر منها الناس ويحرمونها إياها.

إنني أدرك تمامًا الخجل الذي يشعر به المرء من أصدقائه الوهميين. ففي الجامعة، وبعد أن فشلت في إقامة علاقات بالحانة، انتهى بي الأمر إلى إقامة صداقات بالمكتبة. فكنت في صحبة ت.س. إليوت، وسيلفيا بلاث، وإيميلي ديكنسون، وتشوسر، وأوسكار وايلد. وكانت صحبتهم رائعة. وتكتب جانيت وينترسون في مذكراتها بعنوان “لما الشعور بالسعادة إن كان بأمكانك أن تكون طبيعيًا؟” عن الأهمية الجوهرية للشعر في حياتها، فتقول: لم أجد أحدًا يمد يد العون لي، ولكن ت.س. إليوت ساعدني.

لذا عندما يقول البعض أنّ الشِعر شكلًا من أشكال الرفاهية أو الاختيار، أو يقتصر على الطبقات المتوسّطة المتعلّمة، أو لا ينبغي دراسته بالمدارس لأنّه لا أهمية له، وغيرها من الأشياء الغريبة والغبيّة التي تُقال حول الشِعر ومكانته في حياتنا، فإنني أظن أنّ هؤلاء أناسًا كانت حياتَهم يسيرة مُترَفة. فالحياة الصعبة بحاجة إلى لغةٍ قوية –وهذا ما يقدمه لنا الشعر. هذا ما يقدمه لنا الأدب– لغةً معبرة قادرةً على توصيف الوضع على ما هو عليه.

وتخلِّص وينترسون بقولها أنّ الشعر “لا يمثّل مخبئًا، وإنّمَا يُمثِّل مكانًا للعثور على النفس. “ومن البديهي، أنّ عمليّة العثور على شيءٍ ما تتطلّب الاستعداد لفقدِانه قبلًا. والقراءة لا تضمن بالضرورة أمانًا أو جائزة كُبرَى في نهاية الرحلة، فكانت هناك مرّاتٍ كثيرة اضطررت للتوقف عن قراءة كتاب لأنني لم أتمكن من الإبحار في المشاعر والانفعالات التي كان يلاطمها، فإلى يومنا هذا، على سبيل المثال، لم انتهٍ بعد من قراءة رواية توني موريسون “المحبوب” Beloved. كما أنّ هناك كُتُبًا لست مستعدة بعد لفتح غلافها؛ فهي قصص كاسحة، قد تُزَلّزِل القواعِد التي بُنيَت عليها واقعي، لذا أُخرِجها عن بؤرة تركيزي، لكنّها تظل في عقلي نابضةً كأنّها لعبة جومانجي في انتظار من يلعبها. وأُدرك أنّه عندما أكون مستعدة سَأعود إلى الكتب التي أخشاها الآن، وسوف تنتظرني لترحب بي عائدة. فكما قالت آن فرانك ذات مرة: فإن “الورق أكثر صبرًا عن البشر”.

وهناك آحيان في الحياة عندما تقابل كتاباً في الوقت المناسب، وكان هذا الكتاب بالنسبة لي هو “أغنية العنزة” Goat’s Song للروائي الأيرلندي ديرموت هيلي. ولا يمثل هذا كتاباً قد تجده ضمن فئة كتب الصحة النفسية، ومن النظرة الأولى لم يبد أن هناك الكثير من المشتركات بيني وبين جاك، الكاتب المسرحي السكير الذي يعيش على الساحل الغربي لأيرلندا في انتظار محبوبته كاثرين آدمز أن تعود إليه. هذا، فيما يبدو، ما يظنه جاك الذي يتأرجح دخولا وخروجاً من حالة السكر الضبابية. وفي ليلة عيد الميلاد، يدخل جاك بإرادته إلى المستشفى لتلقى العلاج، وسرعان ما يكتشف كم الحرية الذي يشعر به عندما يدوّن قصص معاناة المرضى الآخرين. ويقرر أن يحكي قصة كاثرين في محاولة لتحرير نفسه من ألم غيابها.

وقبل أن أقرأ “أغنيّة العنزة”، كنت أخجل من شعوري بالوحدة، فمثل كايكو، كنت أرتدي جلد الشخص العادي، وأُحاول تتبّع خطوات كُتيّب الحياة. ومثل دورا كنت أخفي عالمي الخيالي عن الآخرين. أمّا عندما فتحت كتاب ديرموت هيلي، فقد كان الأمر كما لو أنّ الكاتب فتح بابًا واحتضنَني. فرحّبَ بي في رِحاب وحدته، وشعرت بارتياحٍ شديد، وعلّمني أنّ الشعور بالوحدة قد يؤدّي إلى تحولات، وأدركت أنّ الكشف عن إحساسك الخاص بالغربة قد يُمثّل أعظم هبةً تقدِّمَه لشخصٍ آخر. إنّ كتاب “أغنية العنزة” هو ذلك الكتاب الذي أيقظ فيِّ الرغبة لِأصير كاتبةً، لا تهدف فقط إلى تسلية الآخرين بل للكشف عن إنسانيّتي وعيوبي وأوجُه فشلي، على أمل أن أمد يدي بالطمأنينة لشخصٍ آخر، كما مد هيلي يده لي.

في مقطع بعينه من الكتاب، يحاول معلّم أيرلندي شرح وظيفة اللغة لطلابه:

ما اللغة الجديدة إلّا تعلُّم علمًا قديمًا راسخًا، تشتاقُ إليه حواسنا التي تعبت من اللغة التي نستخدمها عادةً للتعبير عن أنفسنا. إنّ اللغة تعود أدراجها إلى مصدرها، حتى داخل رأس الشخص الغريب عنها. والبهجة الكبرى هي الاختيار من بين العديد من اللغات ما يتناسب بالشكل الأفضل للتعبير عن محتوى العقل.

جميعنا نحتاج القصص لنفهم أشكال الواقع المختلفة، ونختار الكلمات في لغة ما يخلق لوحة من الضمادات التي نُدثِّر بها آلامنا. لذا، فإن كتاب “أغنية العنزة” مثّلَ لي كتابًا يتحدث إليّ بلغتي الخاصة، وجعل ما هو قديمًا بالنسبة لي جديدًا.

لعلّ أحَد كُتبي المفضلّة مذكرات بقلم فيكتوريا ويتوورث بعنوان “السباحة مع عجل البحر” Swimming with Seals، وهي سيدة تعيش في جُزُر أوركني وتذهب كل يوم للبحر من أجل السِباحة. إن ويتوورث أستاذة جامعية، تسمح للأساطير واللغة التسرب إلى أسلوب سردها لحبها لها. وقد تعلّمت من كتاب “السباحة مع عجل البحر” أن كلمة “الترجمة” في الإنجليزية translation يرجع أصلها إلى الفعل اللاتيني الشاذ fero أي “يحمل”. وما هي القراءة إن لم تكن شكلًا من أشكالِ ترجمة –أو حمل– تجربة شخص ما في العالم إلى خيال شخصٍ آخر؟ وما هي الكتابة إن لم تكن شكلًا من أشكال ترجمة –أو حمل– الألم؟

إنّ المرض العقلي يمثل عمى مجتمعيّ أكثر من كونه مرضًا في العقل. وقراءة الأدب تٌفتِّح أعيننا كيف يرى الآخرين العالم. وباعتباري قارئة، فقد كانت لي لحظات سحريّة استشعرت خلالها أنّ روح شخص ما لم التقيه أبدًا قد رأتني. وباعتباري كاتبة، فمن واجبي البحث عن كلمات جديدة وسبل جديدة للوجود في العالم، لأحملها إلى الورق، لتراها غيري من الأرواح.

المصدر:

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ندى ناصر

اترك تعليقا