حين ينتشرُ الوباء.. تنتشرُ الشائعات.

اعتقد البعض أن الفيروس كان سلاحاً بيولوجياً، بينما كان آخرون أكيدين أن الأمر برمته خدعة وقصة انتشرت، كما قال أحد الكُتّاب، حتّى تقبل الجماهير “بالقيود التي ستحدُ من حريتها”. وفي رواية أخرى، دعمَها في بعض الأوقات الحزب الشيوعي الصيني، فإن تفشي المرض لم يبدأ في الصين بل في الولايات المتحدة. أما في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها كان على المطاعم الآسيوية نفي الشائعات المُتاهمسة الواحدة تلو الأخرى، القائلة بأن أحد العاملين فيها هو المسؤول عن نقل المرض.

إذا كنت تعتقد أن هذه السيناريوهات تشبه تلك التّي تمَّ تداولها منذ ظهور COVID-19 لأول مرة في العام الماضي، فأنت على حق. لكن جميعها يعودُ إلى مرحلة تفشي السارس بين عامي 2002 و 2003، و هي مقتبسة من كتاب صدر عام 2014  عنوانه “وباء الشائعات” كتبه الفلكلوري “جون د. لي. لي” والذي خصّه لمقارنة هذه الروايات بأخرى واكبت أزمة الإيدز و ازدهرت خلالها.

ومع تكرار هذه القصص يتمُّ تحويرها لتعكس تفاصيل كل أزمة. يلاحظُ لي، على سبيل المثال، أن فيروس H1N1 (المعروف بانفلونزا الخنازير) الذي انتشر عام 2009 ألهم نظريات مؤامرة حول اللقاح المضاد أكثر بكثير مما فعل السارس، ربما لأن لقاح H1N1 تم إنتاجه بسرعة كبيرة. لكن “طبيعة المرض في حد ذاته هي اعتبار ثانوي”. ويخلص لي إلى الاستنتاج بأنه “يتم إعادة تدوير الروايات من تفشي إلى آخر، ولا يتمُ تعديلها ككل إنما ما يتم تعديله هو تفاصيل محددة لازمة لربط السرد بالأوضاع المُرافقة لها”.

تعودُ جذور بعض هذه الروايات إلى قرونٍ مضت، قبل ظهور الطب الحديث بفترة طويلة، حين كانت السلطات في العصور الوسطى تُرجع أسباب تفشي الأوبئة إلى مكائد من صنع اليهود أو المسلمين أو حتّى المرضى أنفسهم في أحيان أخرى. ففي عام 1321 في فرنسا، تمَّ اتهام المصابين بالجذام في البلاد بالتآمر لإصابة الأصحاء الآخرين. وفقاً للمؤرخ كارلو جينزبرج، الذي نقل رواية المحقق الدومينيكي برنارد غوي، فإن المتآمرين المزعومين “أحرقوا مساحيق سامة في النوافير والآبار والأنهار، وذلك لنقل الجذام إلى الأصحاء والتسبب في تفشي المرض أو الموت.” ومع انتشار القصة، تمَّ القبض على المصابين بالجذام وسجنهم وإرغامهم على الاعتراف قسراً ومن ثم حرقهم.

كذلك يعود التضليل المُتَعَمد إلى قرونٍ سابقة. فربما كانت السلطات هي من أطلق أسطورة المؤامرة الجذامية، مثيرةً الخوف بمجرد أن ترسخت قصتُها في الأذهان، وأثمرت هذه الجهود عندما تمَّ حجز عائدات مصحات الجذام للخزانة الملكية.

إعلان

لا ينبغي الاستغراب من انتشار روايات مماثلة، ترافق انتشار أمراض فتاكة أو ذات آثار مشوهة، ففي أيّ فترة يتزايد فيها القلق العام ستُنتجُ شائعاتٍ مُخيفة. بعض هذه الشائعات ستكون سخيفة، لكن البعض الآخر سيبدو مقبولاً. وفي بعض الأحيان كما سنرى أدناه، ستتضمن بعضاً من الحقيقة.

وحين تنحسر تلك المخاوف، غالباً ما تختفي القصص التّي أثارتها من ذاكرة العامة. وهكذا، عندما تتولد موجة أخرى من القلق تعود القصص القديمة مرة أخرى في “قالب جديد” ويُنظر إليها على نطاق واسع على أنها شيء جديد. ولأن الشائعات اليوم تنتقلُ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يُعتقد بالخطأ أنها منتج هذه الوسائل، لكن من الواضح أنها أقدم من ذلك بكثير.

من الجدير بالذكر أن فيسبوك وتويتر والمنصات الأخرى تحاول محاصرة المعلومات الخاطئة المرتبطة بوباء COVID-19 و منع انتشارها. لكن اتضح أن الطرق الأخرى للتواصل لم تختفِ، ولا يزال بإلإمكان إعادة توجيه رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية. لذا، فإن الأطراف المُهتمة بمكافحة التضليل يساورهم القلق بشأن “الفيروسات الخفية” التّي تعملُ في الشبكات الخاصة التّي لا يمكنهم رؤيتها، وتحذرنا شبكة NBC من أنه “لا يمكن التنبأ بمدى انتشار الشائعات، مما يصعب مهمة كبح جماحها.” ففي كشمير، قيدت الحكومة الهندية الوصول إلى الإنترنت منذ الصيف الماضي، وأدى عدم قدرة الأفراد على الاتصال بالإنترنت إلى جعل بيئة المعلومات أقل موثوقية، يقول كارل بود في TechDirt أن “الشائعات والتضليل والمعلومات الخاطئة تنتشر بسرعة عبر تطبيق الواتس آب والتواصل الشفهي، مع عدم قدرة المواطنين على البحث وتأكيد الادعاءات “. بعد كل شيء، ربما لم تكن الشائعات والمخاوف التآمرية أكثر شيوعاً في عصر وسائل الإعلام الاجتماعية؛ لكن سيكون من الأسهل ملاحظتها و عزلها!

على أي حال، لا ينبغي أن نولي القصص التّي تنبثق من القواعد الشعبية اهتماماً مبالغاً فيه، لأن أفضل شيء يمكن أن تفعله الحكومات ووسائل الإعلام لوقف انتشار المعلومات الخاطئة المرتبطة بوباء COVID-19   هو محاولة تجنب نشر المعلومات الخاطئة من قبلها. إن بعض حالات عدم الدقة في المعلومات أمرٌ لا مفر منه خاصةً في الأيام الأولى الضبابية للوباء، لكن الإخفاقات هذه المرة كانت مذهلة. هذا صحيح خصوصًا في الصين، حيث حاولت السلطات التستر على تفشي المرض في حين كان يجب عليهم مشاركة ما يعرفونه، لكن حتّى في المجتمعات الأكثر انفتاحاً حصل ذات الأمر. ففي الولايات المتحدة، ربما كانت اللحظة الأكثر سخافة حول المعلومات الرسمية هي عندما أخطأ الرئيس ترامب في وضع سياساته الخاصة في خطاب 11 مارس، وما ترتب على ذلك من عواقب وخيمة. وهناك الكثير من الأمثلة المحزنة الأخرى التّي أنتجتها آلة الخداع في المكتب البيضاوي.

كتب آدم إلكوس ، طالب الدكتوراه في العلوم الاجتماعية الحاسوبية في جامعة جورج ميسون: “من الصعب التعبير عن مدى سوء أداء جميع “النظم الخبيرة” المعنية بشكل متزامن خلال المراحل الأولى من الأزمة. ويضيف في الوقت نفسه “لقد اعتمدت استجابة COVID-19 العالمية على كمية هائلة من المعلومات التّي تمَّ تطويرها وتبادلها في كثير من الأحيان في تحدٍ لوسائل الإعلام التقليدية”. إذا كنت لا تستطيع دائماً الوثوق بالمصادر الرسمية فإنك لن ترفض الشائعات أيضاً، لأنها في بعض الأحيان تعرفُ أشياء لا تعرفها المصادر الرسمية.

ولقد كان هذا صحيح لفترة طويلة أيضاً.

ففي مايو عام 1981 أعلن سكان نيويورك عن “شائعات انتشرت الأسبوع الماضي بأن مرضاً جديداً غريباً أصاب مجتمع المثليين في نيويورك” كانت هذه الجملة الأولى من أول تقرير صحفي معروف عن المرض الذي سيسمى فيما بعد الإيدز. لم يتنبأ المقال بالطاعون الآتي، بل أجرى مقابلة مع مسؤول من مركز السيطرة على الأمراض cdc والرأي الذي أعلنه آنذاك أنه أكد للجميع أن هذه القصص كانت “في معظمها لا أساس لها من الصحة”.

لكن سرعان ما أدرك مركز السيطرة على الأمراض أن تصريحه كان خطأ، وفي غضون أسابيع قليلة قدم قصة مختلفة إلى حد ما وحذت الصحافة حذوه. أي أن الشائعات التّي أنتجها الشارع حين شعر بشيء يحدث وثقت الحدث قبل وسائل الإعلام الرئيسية، وقبل مركز السيطرة على الأمراض وحتّى قبل صحيفة المثليّين تلك.

مصدر الترجمة

نرشح لك: التسلسل الزمني لأكاذيب الصين حول فيروس كورونا

إعلان

مصدر When an Epidemic Spreads, So Do Rumors
فريق الإعداد

ترجمة: علا ماشفج

اترك تعليقا