الغد يَنقُصُه الخوف.

أرتجلُ من المُصفَّحة وأترك الرجال لأدخلَ الغرفة الصغيرة التي نتناوب على النوم فيها عند حاجتنا إلى الخصوصية التي تقدمها، كثيرًا ما دخلتها لأجد أحدهم يبكي كطفلٍ مهملٍ، يشهقُ ويتلفظ بعبارات مُبهمةٍ حتى يكاد نَفَسهُ ينقطع، هنا يخفي شريف كتب الشعر التي يسرقها من مكتبة والده، قال إنه لا يريد أن تَنفذ ذخيرتُه من عبارات الغزل حين يلتقي بخطيبته، سخرتُ منه كما فعلَ الجميع يومها لكنني أعلمُ أنه على حق.

في الإجازة الماضية، ركبت الحافلة وجلست بجانب شابة، كان الهواء يعبث بشعرها يجمعه وينثره في وجهي، ظنت أن الأمر يزعجني ومدت يديها الناعمتين تغلق النافذة لكنها عجزت عن ذلك، بادرت لمساعدتها ونظرت بقرب إلى وجهها البَهي، كدتُ أنطق بشيء! ربما باسمي “مرحبا أنا يوسف”. لكنني كنتُ قريبًا جدًا منها وصوتي فقد قدرته على التمييز بين الحديث مع شابة جميلة والصراخ في أرض المعركة، قد أصبح برنينٍ يحاكي صوت آلة صدئة؛ صاخب، حاد، متعب وغاضب.

أمعنتُ النظر في تفاصيلها المحببة؛ وجنتيها تدفعك للتساؤل “من العجوز التي قالت ما أحرجها؟”، عيناها البُنية الوديعة وشفتيها التي تستقر تمامًا حيث يجب أن يكون، كل ذلك التناسق والانسجام فيها يدعوك إلى الطفولة مرة أخرى، لكنني تنين كهلٌ لن أنفث إلا النار في وجهها وربما لن يخرج إلا الدخان.

أغلقُ هاتفي المحمول قبل أن يصبح رقمي مقصد أهالي من أكملت أجسادهم طريقها إلى المشرحة أما أرواحهم لا أحد يدري أي الطريقين ستسلك، ظنًا منهم أن أحبتهم لا يجيبون على هواتفهم لأنهم لم يسمعوا رنينها أو لأنهم بحاجة إلى من يؤكد الفاجعة.
أشعر بثقل جسدي وأجلس على السرير القاسي، أخلع الجزمة التي ألبسها منذ ثلاثة أيام. لا تخلو حياتي من النساء، نساءٌ بأجساد ممتلئة شهية، وصدور عارمة بإمكاني أن أغرق بينها، ورغبةٌ بتلبية كل أوامري، وغايةٌ واحدة هي إسعادي وربما من بعدها نقودي. أخشى أنهن قد أفسدن شهيتي للنساء، فقد أصبحت بسبب هذه اللقاءات المتكررة غير قادر على إطراء فتاة في حافلة وكسب ودها لأطلب لقاء آخر لم تخطط له الصدفة، أو على الأقل مجموعة أرقام عندما أهمسها لهاتفي المحمول يخرج صوتها من السماعة.

في السنة الأولى لي من الخدمة تعرفت على اللغة التي تتحدث بها الأجساد حتى تصل إلى اللذة مع سيدة لا أعرف اسمها، أو كم تبلغ من العمر، وربما قضيت معها ليالٍ أخرى لكنني لم أتعرف عليها. قد تكون اللغة واحدة لكنك لا تخاطب شخصًا كما الآخر، فبأي لغة أحدث فتاة الحافلة، وأي لهجة عليه أن يسلك جسدي معها! أعلم ما الذي يقصده شريف، أعلم تمامًا كيف يمكن أن تخذلنا أدواتنا في التواصل عندما نهمل تمرينها مع الأشخاص المناسبين.

إعلان

يدخل شريف ويسألني إذا كنت أريد الذهاب مع الرجال إلى المشفى؛ تلقيت في وقت سابق هذا الصباح ضربةً قوية في الخاصرة على يد أحد الأوغاد الذين نفذت منهم الذخيرة، فحول بندقيته إلى سلاح أبيض. كنا قد حاصرناهم وبقي بعضهم ممن قاوم الاستسلام ولم يرمِ سلاحه حتى نفذت ذخيرته، نجح هؤلاء في قتل العديد من المجموعة بما تبقى لهم من رصاص وعتاد، وإذ بهذا الفتى يأتي ويضربني بكل ما يمتلك من قوة لأسقط وأنا أتلوى من الألم، كاد يوجه ضربةً إلى رأسي تفتحه لتفرغ كل ما فيه من تعاسة وبؤس وشقاء، وبعض المعلومات الهندسية التي أحتفظ بها من أيام الجامعة، كل الذكريات والأوهام والأحلام. لكن حسام جاء في اللحظة الأخيرة، ساعدني على النهوض، ووقفت أبصق على الجثة الهامدة أمامي وأتابع المشي متكئًا على كتفه.

في كل مرة لا أستطيع إلا والاندهاش من السرعة التي كاد ينتهي بها كل شيء، المخاض يأخذ عدة ساعات، وأحيانًا أيامًا كاملة، لكن الموت يتم في لحظات تبدأ وتنتهي قبل أن تستوعب حلولها، لطالما كانت هذه السرعة مصدرًا للراحة، فبهذا أعلم أن حتفي سيأتي سريعًا قبل أن أدرك أن لحظة النهاية قد حانت. لا أسوأ من الموت البطيء، أن تتمدد على الفراش والآخرون يحيطون بك وينظرون برعب إلى تعابيرك، النساء تجبر أطفالها الخائفين على تقبيلك والحديث معك. هل أخدع نفسي لأواسيها، لأنها لن تحظى بخاتمة مشابهة، هل يمكن أن يشعر المرء في لحظات كهذه بالسلام ويكون شاكرًا لكل من حوله، حتى لتلك القبلات الخائفة والأحاديث الدامعة؟!

شريف ذكرني بألمي، شعرت بخاصرتي تقتلع من مكانها ومعدتي تصاب بالعدوى وتتشنج هي الأخرى مُؤازرةً، وأصابني إعياء شديد. ربما غدًا أذهب إلى المشفى بمفردي بعد قليل من النوم.
أذكر جدتي كلما ضاق السبيل. لا لأنها كانت تضمد ركبتي النازفة، بل لأنها رمز القوة الوحيد في عالمي، بعد أن خطفت -الحرب السابقةُ لهذه- زوجها، وتركتها وحيدة مع خمسة أطفال، كانت كالجبال بصمودها وكبريائها. لم تدع عقبةً تقف في طريقها، واليوم أصبح كل طفل من أطفالها جامعي، وربٌّ لأسرة ميسورة الحال. كلما اكتشفت كم الحياة التي تسرقها الحرب مني، أفكر في فرص الحياة التي كان عليها أن ترفضها الواحدة تلو الأخرى، كي تُخلِصَ لأطفالها، أفكر بقدرتها على العطاء بطريقة القديسين. كلما شعرت بظهري ينحني أذكر الخيبات التي لاقتها في طريقها وانتَصب. إنها ملهمة حقيقية، أجدها أقرب إلى عزائي في الشدائد من أي رجل آخر.

يزدادُ الألم، فتعود صورة ذاك الفتى لرأسي، لمحت كل تفاصيله الغريبة، كان حزينًا وخائفًا وغاضبًا، يصرّ على أسنانه بتوتر، عيناه مبللة بالدموع ومرتبكة،  ووجهه النحيل يوحي بالحزن الشديد، كفأرٍ محاصر في الزاوية. أصابه حسام من الخلف فسقط إلى جانبي، ورأسه يواجه الأرض، وهكذا مرةً أخرى وقف الموت طرفًا ثالثًا لمشهد يجمعني مع رجل آخر، على حلبة نتقاتل فيها لحياة واحدة تذهب لأحدنا، ويحصد الموت روح الآخر. كثيرًا ما وصلت إلى هذه اللحظة السينمائية دون أن أعلم كيف نجوت فيها من فك القرش، بعد أن أصبح نصف جسدي داخل فمه.
الألم يصاحبه شعورٌ غريب، ضيفان ثقيلان هذه الليلة، أنظر من حولي ولا أرى إلا الظلام والخط الأحمر الذي تتركه الأضواء الخلفية للسيارات على الحائط المقابل لتلك الفتحة التي نسميها نافذة، عارضها الجميع في البداية لأن النوافذ في الحروب بوابات للموت، لكن أي تابوت ستبدو هذه العلبة الحجرية دون فتحة في أحد جدرانها!! توصلنا إلى حل “تبقى النافذة لكن دون زجاج يغطيها”. يبدو لي لوهلة أن انعكاس الضوء الأحمر هذا مؤشرٌ لضربات قلبي التي راحت تتسارع.

نخشى الموت ونعمل لحسابه، فننهي حياة الآخرين عبثًا وكاتفاق مع لص؛ تعلمُ أن عنوان منزلك في قائمة الأماكن التي سيزورها. اعتقدت أن مبادئ المرء ستعفيه من عذاب القاتل، وأن ما أؤمن به سيعفيني من الكوابيس التي تلاحقني بعد كل معركة واشتباك، أنها ستضع ساترًا يحمي إنسانيتي من التشوه الذي أصابها، أن شعاراتي ستحتضن ذلك الطفل في داخلي، وتغطي عينيه كيلا يرى ما أرتكبهُ من جرائم، لكن لا صلاحية للمبادئ والشعارات في قتل إنسان آخر. أتساءل ما حجم الشروخ التي أحدثتها في روحي وأنا عالق في هذه الحرب؟ هل سلبتها كل طهارتها التي ولدت بها؟

أمسك بخاصرتي وأرى ذاك الشاب يجلس القرفصاء في زاوية الغرفة ويبكي. تراه لا يعلم كيف يضحك! أخاطبه:
سأعلمك أنا، إن الخدعة تكمن في الأسنان، عليك أن تسمح لأكبر جزء منها بالظهور، أحاول أن أبتسم لكنني أفشل: “انتظر سأجرب مرة أخرى”. أضحك وأكشف عن كل أسناني وأقهقه، يرتعب ويهرب من الغرفة طالبًا النجدة: ممن تخاف أيها الغرّ؟ لا يُعقل أن من يسكنه الرعب مثلي يخيفك!

يصرخ شريف: تضحك لوحدك! هل جننت يا يوسف؟
أجيبه منذ مدة طويلة وإذ بدموع حارّة تنساب على وجنتَي. لا مانع لدي في الجنون والألم، لكن الخوف هو مالا أطيق. أكره كيف يعشش في أعماق روحي، يتملك كل ذرة في جسدي، ويصبغ كل ممتلكاتي بلونه. كيف سمحت له بالتسرب عميقًا كالمياه التي تجري وتتجمع في باطن الأرض عبر ثقوبٍ صغيرة، لتتفجر بعدها ينابيعًا إلى سطح الأرض. كذلك الخوف تجمع في باطني، وأشعر به الآن يتفجر خارج جسدي سائلاً لزجًا حارًا.
أسمعُ صوت صراخ جدتي في أذني: ما بكِ يا حبيبة؟

تتابع الصراخ وتلطم وجهها بيديها، يقول والدي أن العنف هو الحاضر الأبدي في كل التغييرات المصيرية في عمر الأرض، وإذ كان لابد لبعض العنف والألم لأتخلص من الخوف في داخلي، لا بأس أنني مثلك قوي وأحتمل. تمسكُ بوجهي وتهمس في أذني: اطلب المساعدة يا يوسف.

أنادي شريف لكن صوتي يخذلني، تظهر فتاة الحافلة من الزاوية التي جلس فيها ذاك الشاب المرتعب، وتقول: للمرة الثانية يخذلك صوتك، وتعجز عن الكلام المفيد. ما نفعك يا رجل! وتنقض إلى عنقي، تمسكه بيديها وتصرخ: ما نفع رجل لا ينطق؟
أحاول أن أستنجد بشريف للمرة الثانية، لكن قبضتها التي تعجز عن إغلاق نافذة حافلة صدئة، تكاد اليوم تقطع أنفاسي.

أشعر بأعضائي تنفصل عن إرادتي الواحدة تلو الأخرى، يملؤني سلامٌ وألم يعادله. أشعر بخوفي يتبخر وأنظر إلى الحائط المقابل لنافذتي، لا خطوط حمراء، إنه قلبي يتحرر من نبضه أيضًا. تشرقُ الشمس الدافئة في الغرفة المظلمة،  كيف لا يلمح الرفاق الضوء المنبعث؟ عبثًا أحاول استدعاءهم. إنهم في بعدٍ آخر. لكنني لست وحيدًا هنا!! جدتي تبتسم وفتاة الحافلة تلوح لي بمنديل أبيض مطرز باسمها، لكنني لا أتمكن من قراءته. أرى أبي وأمي وأخوتي يحيطون بالسرير وينظرون إليّ بامتنان. أين هو ذلك الشاب؟ أتمنى لو يحضر أيضًا، لقد سامحته.
أغمض عيناي على ذلك المشهد، إنه آخر ما أريد رؤيته في هذه الليلة. أعلنُ جسدي منطقة محررة من الخوف، من رعب الماضي ورهبة المستقبل، وأغرق في نشوةٍ سببها الألم الشديد، استسلم للسكينة التي تنتشر في جسدي.

الغدُ سينقصه الخوف.

في الصباح أخرج الرجال جثةً ملوثةً بدماء متجمدة لشاب في الخامسة والعشرين من عمره، يظهر من وجهه المرتعب أن شيطانًا رافقه في آخر لحظات حياته، أخبرهم الطبيب أن نزيفًا داخليًا مهملًا أنهى حياته خلال بضع ساعات، إنه يوسف.

نرشح لك: البيت المسكون لـ فرجينيا وولف.. قصة قصيرة

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: علا ماشفج

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

اترك تعليقا