حتّام سأعيش؟

مقال بول كولانثي (How Long Have I Got Left? By Paul Kalanithi)

بمجرد انتهاء الفحص المقطعي، بدأت بمراجعة الصور. كان التشخيص واضحًا: كُتلٌ تلوّث الرئتين وتشوّه العمود الفَقري، سرطان. في تدريبي الخاص بجراحة الأعصاب، قمت بمراجعة مئات الأشعات لزملائي الأطباء لمعرفة ما إذا كانت الجراحة قد تقدم أي أمل. كنت أخربش على الرسم البياني “المرض منتشر على نطاقٍ واسع؛ لا نفع لعملية جراحية”، وأمضي قُدمًا. لكن هذه الأشعة كانت مختلفة: لم تكن لمريضٍ ما، بل كانت لي.

لقد جلست مع عددٍ لا يُحصى من المرضى وعائلاتهم لمناقشة توقعات قاتمة: إنها واحدة من أهم مهام الأطباء.  تكون المناقشة أسهل عندما يكون المريض في الرابعة والتسعين، في المراحل الأخيرة من الخرف ولديه نزيف حاد في الدماغ. بالنسبة للشباب من أمثالي – أنا في السادسة والثلاثين- في ضوء تشخيص السرطان، لا توجد كلمات كثيرة لِتُقال.

عادةً في مثل هذه الحالات أقول : “إنه سباق ماراثون، وليس سباقًا قصيرًا، لذا استعد لراحة يومية” و “قد يؤدي المرض إلى تفرّق العائلة أو جمعها معًا، يجب أن تكونوا على دراية باحتياجات بعضكم البعض وأن توفروا دعمًا إضافيًا لبعضكم”.

القواعد الأساسية للتعامل مع المرضى

تعلّمت بعض القواعد الأساسية. كن صريحًا حول توقعاتك للمرض ولكن دائمًا دع فسحًة للأمل، كن غامضًا لكن دقيقًا: “أيام إلى بضعة أسابيع”، “من أسابيع إلى بضعة أشهر”، “من الأشهر إلى بضع سنوات”، “من سنوات إلى عقد أو أكثر”. لا نشير أبدًا إلى إحصائيات مفصلة، وننصح عادةً بعدم البحث عن معدلات النجاة على جوجل، بافتراض أن المريض العادي لا يمتلك فهمًا دقيقًا للإحصاءات.

يتفاعل الناس بشكلٍ مختلف عند سماع “معدلات النجاة بعد الإجراء س هي سبعون في المئة ” و “معدلات الوفيات بعد الإجراء ص هي ثلاثون في المئة.” بهذه الطريقة، يحتشد الناس على الإجراء س، على الرغم من أن الأرقام هي نفسها. وما زلت أثنيهم عن البحث عن الإحصائيات، قائلًا إن منحنيات البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات قد انتهت صلاحيتها منذ خمس سنوات على الأقل. بطريقةٍ ما شعرت أن الأرقام وحدها جافة للغاية، أو أن تجربة الطبيب اليومية مع المرض كانت ضرورية للسياق. غالبًا ما شعرت بهذا الدافع: حافظ على قدرٍ من الأمل.

إعلان

إن منحنيات البقاء هذه، المسمّاة منحنيات كابلان-ماير، هي إحدى الطرق التي نقيس بها التقدم في علاج السرطان، نرسم عدد المرضى على قيد الحياة بمرور الوقت. بالنسبة لبعض الأمراض، يبدو الخط وكأنه طائرة تهبط بهدوء، بالنسبة لأمراضٍ أخرى، تبدو مثل قاذفة صواريخ. يفكّر الأطباء كثيرًا حول هذه المنحنيات وشكلها وما تعنيه. في أبحاث سرطان الدماغ، على سبيل المثال، في حين أن أعداد متوسط مدة البقاء على قيد الحياة لم تتغير كثيرًا، هناك ذيل طويل متزايد على المنحنى، مما يشير إلى أن بعض المرضى يعيشون لسنوات. تكمن المشكلة في أنه لا يمكنك إخبار مريض بعينه عن مكانه على المنحنى، إنه مستحيل وتصرف غير مسؤول.

قد يظُن المرء بعد كلامي هذا أنّه عندما جلس أخصائي الأورام بجانب سريري لمقابلتي، لم أطلب على الفور معلومات عن إحصائيات النجاة. ولكن الآن بعد أن عبرت إلى الضفة الأخرى، من طبيب إلى مريض، كان لدي نفس التوق إلى الأرقام التي يطلبها جميع المرضى. كنت آمل أنها سوف تراني كشخص يفهم الإحصائيات والواقع الطبي للمرض، أنها ستعطيني الخبر اليقين، المخدر المباشر. بإمكاني تحمّل الحقيقة. رفضت بشكل قاطع: “لا بالطبع لا ” لقد عرفت جيدًا أنني قادر على الوصول -وقد فعلت- إلى الأبحاث حول هذا الموضوع. لكن سرطان الرئة لم يكن تخصصي، وهي كانت خبيرة عالمية. في كل موعد، تبدأ مباراة المصارعة بين رغبتي في معرفة رقم محدد ورفضها القاطع، وكانت تتجنب دائمًا أن تحدد أي نوع من الأرقام.

الآن، بدلًا من التساؤل عن سبب استمرار بعض المرضى في طرح أسئلة إحصائية، بدأت أتساءل لماذا يُلغِز الأطباء عندما يكون لديهم الكثير من المعرفة والخبرة. في البداية عندما رأيت التصوير المقطعي خاصتي، عرفت أن لديّ بضعة أشهر فقط لأعيشها. بدا الفحص سيئًا. بدوتُ سيئًا. لقد فقدتُ ثلاثين رطلًا، وأُصبت بآلام الظهر الحادة وشعرت بالإرهاق أكثر كل يوم. كشفت الفحوصات التي أجريتها عن انخفاضٍ شديد في مستويات البروتين وانخفاض تعداد الدم، تزامن هذا مع جسد مرتبك، يفشل في مهمته الأساسية للحفاظ على نفسه.

لأشهر قليلة، كنت أشتبه أني مصاب بالسرطان. كنت قد رأيت الكثير من المرضى الشباب المصابين بالسرطان؛ لذلك لم أُفاجَأ. في الواقع، روّح هذا عني قليلًا. الخطوات التالية كانت واضحة: استعد للموت، أبكي، أُخبر زوجتي أنها يجب أن تتزوج مِن بعدي، وأن تعيد تمويل الرهن العقاري، كتابة الرسائل المتأخرة إلى أصدقائي الأعزاء. نعم، كان هناك الكثير من الأشياء التي كان علي أن أفعلها في الحياة، لكن في بعض الأحيان أؤجلها، لا تتضح أهمية هذه الأشياء عندما يتضمن عمل يومك علاج صدمة الرأس وسرطان الدماغ.

ولكن في أول زيارة لي مع أخصائي الأورام، ذكرت أن بإمكاني العودة إلى العمل في يوم من الأيام.أسألها ألست شبحًا في عداد الموتى؟ لا، إذن حتى متى سأعيش؟ يسود الصمت.

بالطبع، لم تستطع منعي عن قراءتي المكثفة. استمريت في البحث عن الدراسة التي ستخبرني عن رقم محدد للوقت المتبقي لي. الدراسات العامة الكبيرة  قالت أن ما بين 70 و 80 في المئة من مرضى سرطان الرئة يموتون في غضون عامين. لم يسمحوا بالكثير من الأمل. ولكن مرةً أخرى،فكرت ” كان معظم هؤلاء المرضى من المدخنين الشرهين الأكبر سنًا”. ألا توجد دراسة عن جراحي الأعصاب غير المدخنين البالغين من العمر 36 عامًا؟ ربما يجب أخذ شبابي وصحتي في الاعتبار؟ أو ربما عرفت عن مرضي في وقت متأخر، واستشرى في جسدي إلى حد أنني أصبحت أسوأ حالًا من هؤلاء المدخنين الذين يبلغون من العمر 65 عامًا.

قدّم العديد من الأصدقاء وأفراد العائلة حكايات على غرار صديق والدة صديق صديقي، أو الفتى لاعب التنس صديق ابن الحلاق الذي يقصده خالي، يعاني من نفس النوع من سرطان الرئة ولازال يعيش بعد تشخيصه منذ عشر سنوات. في البداية، تساءلت عما إذا كانت جميع القصص تشير إلى نفس الشخص، متصلًا من خلال المَثل المعروف “ست درجات من التباعد“. تجاهلت قصصهم على أنها مجرد تفكير مليء بالأمنيات، وَهْم لا أساس له من الصحة. في نهاية المطاف، وعلى الرغم من واقعيتي المدروسة، تسربت بعض تلك القصص إلى داخلي.

ثم بدأت صحتي في التحسن؛ بفضل حبة دواءٍ تستهدف طفرة جينية محددة مرتبطة بسرطاني. بدأت في المشي بدون عكاز وأقول أشياء مثل: “حسنًا، من غير المحتمل أن أكون محظوظًا بما يكفي لأعيش لمدة عشر سنوات، لكن ذلك ممكن.” قطرة ضئيلة من الأمل.

على أيّ حال، كان التيقن من الموت أسهل من هذه الحياة غير المؤكدة. ألم يُفضل الذين في المَطهر الذهاب إلى الجحيم، فقط لينتهوا من الانتظار الممض؟ هل كان من المفترض أن أقوم بترتيبات الجنازة؟ أم أكرّس نفسي لزوجتي ووالديّ وإخواني وأصدقائي وبنات أخي الرائعين؟ أم أكتب الكتاب الذي طالما أردت كتابته؟ أم كان من المفترض أن أعود للتفاوض بشأن عروض الوظائف المتعددة؟

قد يبدو المسار أمامي واضحًا، إذا عرفت فقط عدد الشهور أو السنوات التي تبقت لي؛ قُل تبقى ثلاثة أشهر، سأقضي بعض الوقت مع العائلة. قل سنة واحدة، سيكون لدي خطة (كتابة ذلك الكتاب). قل عشر سنوات، سأعود إلى مداواة الأمراض. عِش يومًا بيوم كانت نصيحة مبتذلة ولم تُقدِّم أي عزاء: ما الذي يفترض بي أن أفعل اليوم؟ كل ما قالته طبيبة الأورام كان: “لا استطيع ان أحدد لك وقتًا بعينه، يجب أن تعثر على أكثر شيء مهم بالنسبة لك”.

بدأت أدرك أن المواجهة وجهًا لوجه مع الموت، بمعنى من المعاني، قد غيّرت كل شيء رغم أنها لم تغير شيئًا. قبل تشخيص السرطان، كنت أعرف أنني في يوم من الأيام سوف أموت، لكن لم أعرف متى، بعد تشخيص السرطان، كنت أعرف أنني في يوم من الأيام سوف أموت، لكن لم أعرف متى. لكن الآن عرفت ذلك بشدة. لم تكن المشكلة حقيقة علمية، حقيقة الموت مشوَّشة، ومع ذلك، لا توجد طريقة أخرى للعيش.

بالتأكيد، إذا كانت توقعات المريض بعيدة عن حدود الاحتمال، شخص يتوقَّع أن يعيش حتى 130 عامًا، أو شخصًا يظن أن بقع الجلد الحميدة هي علامات على الموت الوشيك. يُعهد للأطباء بتخفيض توقعات ذلك الشخص إلى إمكانية معقولة.

لكن نطاق ما هو ممكن بشكلٍ معقول هو واسع للغاية؛ استنادًا إلى علاجات اليوم، قد أموت في غضون عامين، أو ربما أتمكن من الوصول إلى عشرةِ سنوات، إذا أضفت عدم اليقين استنادًا إلى علاجات جديدة متوفرة في عامين أو ثلاثة أعوام، فقد يكون هذا النطاق مختلفًا تمامًا.

 في مواجهة الموت، يمكن للمعرفة العلمية أن تقدم فقط أُوقيّة من اليقين: نعم، سوف تموت، لكن المرء يريد رطل كامل من اليقين وليس أُوقية فحسب، وهذا غير متوافر.

ما يسعى إليه المرضى ليس المعرفة العلمية التي يخفيها الأطباء، ولكن الأصالة الوجودية التي يجب أن يجدها المرء بنفسه، التعمق في الإحصائيات هو محاولة لإرواء العطش بالماء المالح، الوجع الذي تسببه مواجهة الموت لا تشفيه أي احتماليات.

أتذكر اللحظة التي أسفرت فيها عن عدم ارتياحي الشديد. سبع كلمات قالهن صموئيل بيكيت، تعلمتهن منذ فترة طويلة كطالب جامعي، بدأت تطن في رأسي، وتُخمد بحر الشك المُلتجّ:

« مستمرٌ، وإن كنت غير مستطيع.»

لقد تقدمت خطوة للأمام، أكرر العبارة مرارًا وتكرارًا: « مستمرٌ، وإن كنت غير مستطيع.»، ثم، في مرحلة ما، عبرت البحر المضطرب.

الآن مرت تقريبًا ثمانية أشهر منذ تشخيصي.  تعافت قوتي بشكلٍ كبير. بعد العلاج، تقهقر السرطان. لقد عدت تدريجيًا للعمل، أنا أنفض الغبار عن المخطوطات العلمية، أكتب أكثر، أرى أكثر، وأشعر أكثر. كل صباح الساعة الخامسة والنصف مع انطلاق المنبه يستيقظ جسدي المتهالك، زوجتي نائمة بجواري، أقول لنفسي مرة أخرى: «وإن كنت غير مستطيع.» وبعدها بقليل، أرتدي ثوبي الجراحي، متوجهًا إلى غرفة العمليات، على قيد الحياة:« سأستمر».

========

نُشر هذا المقال في فبراير 2014 في جريدة النيويورك تايمز وانتشر على نطاق واسع جدًا, وكان نواة كتابه “عندما تتحول الأنفاس إلى هواء” ,بول كالانيثي كان جراح مقيم في الجراحة العصبية في جامعة ستانفورد. توفي عام 2015 بعد صراع مع المرض, وترك لنا كتابه متتضمنًا مذكرات حياته وكفاحه مع سرطان الرئة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مريم منصور

اترك تعليقا