ثورة الإسلام على العبودية
جاء الإسلام ليجد العبودية أمرًا واقعًا، وشائعًا في العالم كلِّه، ومقبولًا اجتماعيًّا ورائجًا اقتصاديًّا.
أمَّا الإسلام فهو بدايةً وأصالةً اعتبرَ البشر جميعًا خلْقَ الله، ومسئولين جميعًا أمام الله، وعبيدًا لله وحده، وأنَّ المقياس الوحيد للتمايز بين البشر هو التقوى. بهذا الوضوح والفصل التامِّ تعامل الإسلام.
ومن هنا كانت نظرة الإسلام إجمالًا إلى الرِّق: أنَّه حالةٌ عارضةٌ تزول، وليس حالةً طبيعيَّةً تدوم([1]).
وتفصيلًا فقد كان واقع الرِّق أشبه بنهرٍ؛ منابعه متعدِّدةٌ ومتشعِّبةٌ وتستجد رقيقًا بلا حصرٍ ولا قيد، ونهر الرِّق يملؤه تملُّكٌ للرقيق أشبه بتملُّك الحيوانات أو الآلات، ويمتدُّ نهر الرِّق بلا منتهى ولا أمل أن ينتهي؛ إلا القليل النادر الذي تنتهي عبوديته.
واجه الإسلام هذه العناصر الثلاثة:
١- سَدَّ منابع النهر: فحرَّم ومنع الاسترقاق؛ أي منع تحوُّل الأحرار إلى عبيد.
٢- وسَّعَ مصارف النهر: فوضع مصارف عِدَّة لإنهاء حالة العبودية.
٣- طَهَّر النهر: فأعاد منهجيَّة التعامل مع العبيد؛ فنقل العبد من حالة الآلة المملوكة إلى حالة الموظَّف الخادم، فصحيحٌ سيظلُّ يخدم سيِّدَه، لكنَّ له حقوقًا إنسانيَّةً واجتماعيَّةً ودينيَّةً وسياسيَّة.
وبيان ذلك:
أولًا: منْعُ الاسترقاق
حرَّمَ الإسلام ومَنَعَ وجرَّم الاسترقاق؛ أي تحوُّل الأحرار إلى عبيد، وذلك بإغلاق كلِّ مصادر العبودية.
وتنحصر مصادر الرِّق في:
الاختطاف: وهذا قد حرَّمه الإسلام.
عدم القدرة على تسديد الديون: قضت قوانين بعض البلدان قديمًا أن المَدين إذا عجز عن ردِّ ديونه، يجوز للدائن أن يستعبده. وقد حدث ذلك في الهند (قانون مانو)، وفي بابل (قانون حمورابي)، وفي اليونان. أمَّا الإسلام فقد حرَّم ذلك.
بيع الأولاد والنساء: نتيجة الفقر اضطُرَّ البعض لأن يبيع أولاده ونساءه، أمَّا الإسلام فقد حرَّم ذلك.
بيع النفس: كان موجودًا في بريطانيا حتَّى القرن الثاني، وفي فرنسا حتَّى القرن الخامس عشر، وكان معروفًا عند التتار، وقد أباحت اليهوديَّة بيع النفس نتيجة الفقر أو سداد دين. ونقل ابن بطوطة: “إنَّ أهل الصين يبيعون أنفسهم، وليس في ذلك عيبٌ عندهم”. أمَّا الإسلام فقد حرَّم ذلك.
العقاب على بعض الجرائم: قضت القوانين اليونانيَّة قديمًا بالاسترقاق على من يرتكب جرائمَ معيَّنة، وحدث مثل ذلك في الشرق، وهو ما سُمِّي بالخلع، أي يُخلَع المذنب من القبيلة، وإمَّا أن يُقتل أو أن يُتَّخذ عبدًا([2]). أمَّا الإسلام فقد حرَّم ذلك.
أسرى الحروب: شهد التاريخ أنَّ بعض الملوك يتَّخذون أسرى الأعداء عبيدًا عندهم، وهو ما حرَّمه الإسلام؛ فلا يجوز لمسلمٍ أن يتَّخذ أسرى العدوِّ عبيدًا، ولم يقرر الإسلام إلَّا وضعين للأسرى: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ﴾([3])، وهو ما استقرَّت عليه الدول الحديثة الآن.
لكن تبقى حالةٌ استثنائيَّةٌ خاصَّة: ماذا لو استرقَّ العدو أسرانا، ورفض فداءهم؟
هنا نحن أمام عدوٍّ يغزو المسلمين في أوطانهم، ويذبح أبناءهم، وينتهك حرماتهم، وأعراضهم، ويسرق أموالهم، وأَسَرَ بعض جنودنا، وأَسَرنا بعض جنوده،
وحين طالبناه بتبادُل الأسرى؛ رفض!
وحين طالبناه بفداء أسراه مقابل المال، رفض!
وحين طالبناه بفداء أسرانا مقابل المال، رفض!
وأصرَّ على استعباد أسْرَانا!
هنا لم يترك العدوُّ لنا اختيارات كثيرة، فليس أمامنا سوى ثلاثة اختيارات:
١- قتل أسراهم: وهذا حرَّمه الإسلام.
٢- إطلاق سراحهم: وهذا يعني أن نترك أسراهم بلا مقابل، فيعيد العدوُّ تسليحهم، فيعيدون هجومنا، وإن فشلوا، يلقون السلاح، وعندئذٍ لن نستطيع قتلهم، فنأخذهم أسرى مرَّةً أخرى، ونطلق سراحهم مرة أخرى، ليعيدوا المحاولة مرَّةً أخرى حتَّى ينتصروا!
في هذه الحالة يصبح غزو المسلمين إغراءً؛ لأنَّه غزوٌ بلا ضريبة، إمَّا أن ينتصر علينا، أو لا ينتصر ويعود لدياره آمنًا، بلا أيِّ ضرر!
إذَن فالمطالبة بترك أسرى العدوِّ أحرارًا دون مقابل، مع استرقاقه أسرانا، هي مزايدةٌ فارغة لا تنظر للواقع، وتزيد من استخفاف العدوِّ بديار المسلمين وأعراضهم!
وما كان للمسلمين أن يجعلوا دولتهم وحياتهم وأعراضهم وأموالهم مرتعًا ومحلَّ استخفافٍ وانتهاكٍ بهذا الرخص والسهولة، ويجب أن يعلم العدوُّ أن من يتجرَّأ على أرواح الأبرياء؛ فإنَّ للمسلمين يدٌ تضرب فوق الأعناق وتسوِّي كلَّ بنان، واليد التي تُرفَع على أيِّ بريءٍ ستُقطع، والعدوُّ الذي يفكِّر في استرقاق أسرى المسلمين، فسيسترقُّ المسلمون أسراهم بالمثل، أمَّا الذي يفي بالعهد ويحفظ الأسرى، سيجد المسلمين أوفى وأحفظ.
٣- المعاملة بالمثل: لم يتبقَّ أمام المسلمين في هذه الحالة إلَّا معاملة العدوِّ بالمثل، فإن رفض العدوُّ تبادُل الأسرى، ورفض فداءهم بالمال، وأصرَّ على استرقاق أسرانا، عندئذٍ نُضطرُّ أن نعامله بالمثل ونسترقَّ أسراهم. وهي الحالة الاستثنائية الوحيدة التي سمح فيها الإسلام بالاسترقاق.
يقول العقاد: “نلخِّص ما صنعه الإسلام في هذه المسألة قبل أربعة عشر قرنًا في بضع كلمات: إنَّه حرَّم الرقَّ جميعًا، ولم يُبِحْ منه إلَّا ما هو مباحٌ إلى الآن.
وفحوى ذلك أنَّه قد صنع خير ما يُطلب منه أن يصنع، وأنَّ الأمم الإنسانيَّة لم تأتِ بجديدٍ في هذه المسألة بعد الذي تقدَّم به الإسلام قبل ألفٍ وثلاثمائة عام.
فالذي أباحه الإسلام من الرقِّ مباحٌ اليوم في أمم الحضارة التي تعاهدت على منع الرقيق منذ القرن الثامن عشر إلى الآن؛ لأن هذه الأمم التي اتفقت على معاهدات الرقِّ تُبيح الأسر واستبقاء الأسرى إلى أن يتمَّ الصلح بين المتحاربين على تبادُل الأسرى أو التعويض عنهم بالفداء والغرامة.
وهذا هو كلُّ ما أباحه الإسلام من الأسر، وغاية ما هنالك من فرقٍ بين الماضي قبل أربعة عشر قرنًا وبين الحاضر في القرن العشرين أنَّ الدول في عصرنا هذا تتولَّى الاتفاق على تبادُل الأسرى أو على افتداء بعضهم بالغرامة والتعويض.
أمَّا في عصر الدعوة الإسلامية؛ فلم تكن دولةٌ من الدول تشغل نفسها بهذا الواجب نحو رعاياها المأسورين؛ فمن وقع منهم في الأسر بقي فيه حتَّى يفتدي نفسه بعمله أو بماله، إذا سمح له الآسرون بالفداء.
فماذا لو أنَّ الدول العصريَّة بقيت على خطة الدول في القرن السادس للميلاد؟ ماذا لو أنَّ الحروب اليوم انتهت كما كانت تنتهي في عصر الدعوة الإسلاميَّة بغير اتّفاقٍ على تبادُل الأسرى، أو على انفكاكهم من الأسر بالتعويض والغرامة؟
كانت حالة الأسرى اليوم تشبه حالة الأسرى قبل أربعة عشر قرنًا في حقوق العمل والحريَّة، وكان كلُّ أسيرٍ يظلُّ في موطن أسره رقيقًا مسخَّرًت في الخدمة العامَّة”([4]).
إذن فقد سدَّ الإسلام وجفَّف كلَّ منبعٍ للاسترقاق، إلَّا أسرى الحرب إذا استرقَّ العدو أسرانا.
ثانيًا: تحرير الرقيق
الآن قد منع الإسلام دخول أيِّ عضوٍ جديد من جانب الحريَّة إلى العبودية، لكن ماذا عن الرقيق بالفعل؟ هل يتركهم الإسلام كما هم؟ هل يعلن في الناس: يا أيُّها العبيد، اذهبوا فأنتم أحرار من اليوم واهربوا من البيوت التي تعملون فيها؟
جاء الإسلام فوجد تجارة الرقيق تجارةً رائجةً ومنتشرةً بشدَّةٍ ومعترَفًا بها، وهنا يجب أن نفرِّق بين الحكم على الفعل والحكم على فاعله، فلا شكَّ أنَّنا نرفض العبودية في كلِّ زمان، إلَّا أنَّ من يتاجر في الرقِّ في ذلك الوقت لا يُعْتَبَرُ مجرمًا؛ لأنَّه لم يخالف قانونًا.
كما وجد الإسلام أسواقًا وقوافل ومقايضاتٍ تقوم على تجارة الرقيق، فلا يمكن أن تأمر رجلًا ادَّخر ماله كلَّه أو أغلبه في تجارة الرقيق أن يعتقهم جميعًا بلا مقابل! هنا نحن نعاقب رجلًا لم يخطئ، كأنَّنا أخذنا ماله وأحرقناه أمام عينيه، وإن كان مثل هذا الرجل آلاف، فإلغاء الرقِّ فجأةً دون عِوضٍ للمالك مستحيلٌ عمليًّا.
وبالنظر إلى العبيد أنفسهم حين يُعتقون كلّهم جملةً واحدة، أين يسكنون؟ أين يعملون؟ من أين ينفقون؟
وبذلك فالقضية هنا تجاريَّة بحتة، فالعقبة التي تقف أمام تحرير الرقيق هي المبلغ الذي دفعه سيِّدُه.
هنا وجَّه الإسلام كلَّا جهوده لتعويض هذا المبلغ حتَّى يُمَكِّن العبد من التحرير ولا يظلم المالك.
١- المكاتبة:
لم يتدرَّج الإسلام في تحرير العبيد أو أجَّل تحريرهم، بل حرَّر العبيد مرَّةً واحدة، وبكلمةٍ واحدة، لكن بشرط أن يُردَّ مبلغ شراء العبد إلى مالكه، وهو نظام (المكاتبة) الذي استحدثه الإسلام:
﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾([5]).
وهنا أعطى الإسلام الحقَّ لكلِّ عبدٍ أن يعتق نفسَه بنفسِه متى أراد. ولا يحقُّ للمالك أن يرفض هذا العرض، فواجبٌ عليه قبول المكاتبة وتحرير العبد بمجرَّد استلام المبلغ.
يرى العزُّ بن عبد السلام أنَّ هذا الاتفاق جائزٌ للعبد، ومُلزِمٌ على السيد أن يقبله، فقال: “أمَّا الكتابة فمقصودها الأعظم حصول العتق، فلو جازت من قِبل السيِّد، لأدَّى ذلك إلى أن يفسخها متى شاء بعد أن يكدح العبد، وذلك مُبطِلٌ لتحصيل مقصود الكتابة”([6]).
وهو نفس ما قال به عطاء وعمر بن الخطاب([7]).
كما أمر الإسلامُ المالكَ أن يساعد العبد ماليًّا إن لم يستطع الوفاء بالمبلغ كلِّه، ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾([8]).
٢- الزكاة:
لم يترك الإسلام العبد يعاني وحده ليجمع المال اللازم لتحريره، بل جعل أحد مصارف الزكاة تحرير العبيد، وبذلك تُنفِق السلطة من المال العام على تحرير العبيد، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾([9]).
٣- الترغيب في العتق:
ولمَّا يكتفِ الإسلام بتكريس المال العام لتحرير العبيد، بل استزاد وحثَّ المؤمنين على تحرير العبيد دون أيِّ مقابلٍ ماليّ، وأوَّل من بدأ بذلك هو خير أسوةٍ وصاحب الشريعة، رسول الله محمدٌ -صلَّى الله عليه وسلّّم-؛ فقد أعتق زيدًا بن حارثة، واقتدى به أصحابُه، فمنهم من أعتق عبيدَه وإماءَه، ومنهم من اشترى رقيقًا ليحرِّرَهم.
وجعل الله تعالى من البرِّ تحرير الرقاب، فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾([10]).
وقال تعالي: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾([11]).
وقال رسول الله: أيّما رجلٍ أعتق امرءًا مسلمًا، استنقذ الله بكلِّ عضوٍ منه عضوًا منه من النار”([12]).
وقال: “أيّما رجلٍ كانت له جارية، أدَّبها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، وأعتقها وتزوَّجها فله أجران”([13]).
وعن الرقيق غير المسلمين يقول الشيخ محمد رشيد رضا: “اتفق العلماء على شرعيَّة عتق الكفَّار وأنَّه قُربَة”([14]).
ونتاج ذلك يقول د. محمد السيد الوكيل: “عدد ما أُحصي ممن أعتقهم الرسول وأصحابه من الأرقاء، من غير عتقاء أبي بكر، بلغ ٣١٣٢٢ عبدًا قد حُرِّروا في صدر الإسلام”([15]).
٤- عتق أُمَّها الأولاد:
جعل النبيُّ الجارية التي تلد من سيِّدها حُرَّة، فقال النبي: “أيّما وليدةٍ ولدت من سيِّدها، فإنَّه لا يبيعها، ولا يهبها، ولا يورثها، وهو يستمتع منها، فإذا مات فهي حرة”([16]).
٥- تحرير الرقاب كفّارةٌ للذنوب:
وجعل الإسلام تحرير الرقاب كفارةً لبعض الذنوب، مثل القتل الخطأ، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ﴾([17]).
وهو كفّارٌ للظِهَار([18])، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾([19]).
وهو كفّارةٌ لليمين، قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ﴾([20]).
ثالثًا: الإحسان إلى الرقيق
قوام العبوديَّة ومصدر قبحها هو التملك؛ فالسيِّد يملك عبده، وبذلك له أن يفعل به ما يشاء، من إهانة، واستغلالٍ جنسيّ، وعمل سخرة، وتعذيب، وقتل!
أمَّا الإسلام فقد واجه قلب المشكلة وزرع في العقول أن الناس سواسية، وكلُّهم أبناء آدم، وكلُّهم عبادٌ للرحمن، وكلُّهم يستوون في صفٍّ واحدٍ ولا يسجدون إلَّا للرحمن، ورُبَّ عبدٍ أفضل عند الله من سيد، وما كان لأحدٍ أن يملك أحدًا ويستعمله كالآلة، وإنَّما حق التملُّك لا يعطي للسيِّد أكثر من حقِّ استخدام العبد في العمل، كأنَّه عقد عمالةٍ لا تملُّك، وفي مقابل هذا العمل من حقِّ العبد على سيِّده مراعاة حقوقه الإنسانيَّة والقضائيَّة والاجتماعيَّة والماليَّة والسياسيَّة.
يقول طه حسين: “قد يقال: إنَّ الإسلام لم يلغِ الرق، ولم يمنع الناس من أن يملك بعضهم بعضًا! ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حقَّ معرفته لا يُنكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوَّى بين الحرِّ والعبد أمام الله كانت وحدها حدثًا خطيرًا في تاريخ الناس، وحدثًا خطيرًا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب؛ فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يُخلصوا قلوبهم له؛ والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء؛ والله قد شرع دينه واحدًا لأولئك وهؤلاء، لم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليقٌ لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرقَّ محوًا ويحرِّمه تحريمًا”([21]).
لذا نَصَّ الإسلام على حقوق الرقيق وأكَّد عليها، ومنها:
١- حرمة النفس: قال النبي: “مَنْ قَتَلَ عبده قتلناه، ومن جَدَعَ عبده جدعناه([22])“([23]).
٢- عدم الإيذاء الجسديّ: قال النبي: “من لَطَمَ مملوكه، أو ضربه، فكفّارته أن يعتقه”([24]).
٣- عدم الإهانة: قال النبيّ: “لا يقولنَّ أحدكم: عبدي، فكلكم عبيد الله، ولكن ليقل: فتاي، ولا يقل العبد: ربِّي، ولكن ليقل: سيِّدي”([25]).
٤- المكانة الاجتماعيَّة والحقوق السياسيَّة: قال النبيّ: “اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأنّ رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله تبارك وتعالى”([26]).
٥- يتساوى مع مالكه في المأكل والمشرب: قال النبيّ: “هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس”([27]).
٦- ألا يُكلَّف بأعمال شاقة: قال النبيّ: “هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده، فلا يكلِّفه من العمل ما يغلبه، فإن كَلَّفه ما يغلبه فليعِنْهُ عليه”([28]).
وقد دخل جماعةٌ على سلمان الفارسي، وهو أميرٌ على المدائن، فوجدوه يعجن عجين أهله، فقالوا له: ألا تترك الجارية تعجن؟ فقال: “إنَّا أرسلناها في عملٍ فكرهنا أن نجمع عليها عملًا آخر”([29]).
٧- المعاملة بإحسان: قال تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾([30]).
وبذلك قد أفرغ الإسلام العبوديَّة من مضمونها، فحين نتحدَّث عن عبدٍ في الدولة الإسلاميَّة فهو موظَّفٌ يعمل بحقوقٍ إنسانيَّة، ودينيَّة، واجتماعيَّة، وسياسيَّة، وقانونيَّة، وهو يعمل طبق ضوابط وشروط.
***
تلك هي تجربة الإسلام للقضاء على الرقِّ وتحرير البشر، تتَّسم بالواقعيَّة والأخلاقيَّة؛ فقد راعت استقرار المجتمع، فحصَّنته من حروبٍ أهليَّةٍ وانهياراتٍ اقتصاديَّة، كما راعت حقَّ المالك، فلم تعاقبه، لأنَّه لم يرتكب جريمةً بمفهوم زمنه، كما راعت حقَّ العبد، فأعطته حقَّ التخلُّص من عبوديَّته، وساعدته بأموال الزكاة، ورغّبت المؤمنين في عتقه، وضمنت حُسْنَ معاملته، وضمنت حقوقه الاجتماعيَّة والسياسيَّة والإنسانيَّة.
تلك التجربة أدَّت إلى أن “يذكر التاريخ أنَّ عددًا ضخمًا من الأرقَّاء قد حُرِّر بطريق العتق، وأنَّ هذا العدد الضخم لا مثيل له في تاريخ الأمم الأخرى، لا قبل الإسلام، ولا بعده بقرونٍ عدَّةٍ حتَّى مطلع العصر الحديث. كما أنَّ عوامل عتقهم كانت إنسانيَّةً بحتة، تنبع من ضمائر الناس ابتغاء مرضاة الله، ولا شيء غير مرضاة الله”([31]).
يقول غوستاف لوبون: “أمور الزراعة هي أكثر ما يمارسه هؤلاء الخدم الذين يصبحون بذلك من المزارعين والذين يتقاضون ربع الغلة غالبًا في مقابل أعمالهم، ثم يُعَدُّ هؤلاء الخدم من الأسرة ويأكلون من طعامها، وليس من القليل أن يتزوَّج خادمٌ من إحدى بناتها”([32]).
تلك التجربة التي جعلت من المماليك حُكَّامًا، ولم يجد المجتمع غضاضةً في ذلك.
تلك التجربة التي جعلت من بلال بن رباح من خير صحابة رسول الله، وينال شرف مؤذِّن رسول الله، وكلُّ مسلمٍ يعتبره قدوةً ونجمًا يُهتدى به.
اعتراض: إن كانت منهجيَّة الإسلام تستهدف إلغاء الرقّ، لماذا لم تتحقَّق هذه النتيجة وظلَّ الرقُّ لعقود؟
كالعادة حين نتحرَّى الأسباب العميقة لكلِّ كارثةٍ نجد الاستبداد السياسي هو الجاني الأول؛ فالإسلام بالفعل قد وضع منهجيَّةً مثاليَّةً للقضاء على الرقِّ تدريجيًّا، وقد اتّبعها النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- والخلفاء الراشدون من بعده، وبالفعل تحرَّر عددٌ هائلٌ من العبيد في تلك الحقبة، رغم أنَّها كانت حقبة البدايات العسرة الصعبة، وكنَّا ننتظر كلما ازداد وضع الدولة الإسلاميَّة استقرارًا وثراءً أن يقلَّ عدد العبيد، لكن المفاجأة أنَّ عددهم قد زاد!
وذلك لأنَّ الخلافة بعد الخلفاء الراشدين تحوَّلت إلى ملكٍ وإمبراطوريَّة، فلم تعد تهتمُّ بتحقيق مقاصد الدين وتسعى للتحرُّر، بل اهتمَّت بتوسيع الإمبراطوريَّة، وزيادة الخراج، حتَّى أنَّ كثيرًا من الحروب لم يكن لها أيُّ مبرِّرٍ دفاعيٍّ ولا حتَّى دَعَوِيّ، وكان مبرِّرها الأول: اتساع الملك، وإشغال الناس عن الحكم، حتَّى كانت أحد مطالب ثورة زيد بن عليّ: عودة الجنود من الثغور، لعدم توفّر الداعي لهذه الحروب.
ومن توابع هذا التوسُّع والرفاهية وبناء القصور، هو زيادة عبيد القصر والخدم، وزيادة العبيد الجنود، وزيادة إماء القصر ليتراقصن أمام الوالي والخليفة في قصره، وزيادة الإماء للهداية بين الملوك والولاة!
فكان للرشيد ألفا جاريةٍ من المغنيات والخَدَمَة في الشراب([33])!
وكان حول المتوكِّل أربعة آلاف جارية([34])!
وفي قصر المُعِزِّ احتفظ بعبيده وجواريه البالغ عددهم ١٨-٣٠ ألف([35])!
وتمتع ابن كلِّس بـ ٨٠٠ جارية، وبلغ حُرَّاسه أربعة آلاف شاب([36])!
يقول محمد الغزالي: “الأمور لو سارت على ما يشتهي هذا الدين لبطل الرقُّ من قرون.
فإذا حدث أنَّ قضيَّة الرقِّ تعقدَّت فمَرَدُّ تعقُّدها إلى الاستبداد الأعمى الذي جار على حقوق الأحرار أنفسهم فاغتالتها.
والحكومات التي تبني وجودها من استلاب الآخرين لا يُنتظر أن تؤدِّي ما عليها من حقوق، ومن العبث أن تنتظر من مستعبَدي الأحرار أن يحرروا العبيد!”([37])
ويضيف: “إنَّنا مُكرَهون على الاعتراف بأنَّ تعاليم الإسلام سارت في اتجاه وأعمال المسلمين سارت في اتجاهٍ آخر، ووِزْرُ ذلك يقع على رأس الاستبداد السياسيّ”([38]).
[1]. (الديمقراطية في الإسلام) ص٩٦
[2]. (الرق .. ماضيه وحاضره) ص٣٧
[3]. محمد: ٤
[4]. (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) ص٢٢٩
[5]. النور :٣٣
[6]. (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) ج٢ ص٢٢٣
[7]. (صحيح البخاري) ج٣ ص١٥١
[8]. النور :٣٣
[9]. التوبة :٦٠
[10]. البقرة :١٧٧
[11]. البلد: ١٢-١٣
[12]. (صحيح البخاري) ج٣ ص١٤٤ رقم (٢٥١٧)
[13]. (صحيح البخاري) ج١ ص٣١ رقم (٩٧)
[14]. (الوحي المحمدي) ص٣٤٧
[15]. (المدينة المنورة عاصمة الإسلام الأولى) ص٦٦
[16]. (الموطأ) ج٥ ص١١٢٧ رقم (٢٨٧١)
[17]. النساء :٩٢
[18]. الظِهار: تشبيه الرجل زوجته بأمِّه.
[19]. المجادلة :٣
[20]. المائدة :٨٩
[21]. (الفتنة الكبرى) ج١ ص١١
[22]. جدع: قطع أنفه أو طرف من أطرافه.
[23]. جدع: قطع أنفه أو طرف من أطرافه.
[24]. (المستدرك على الصحيحين) ج٤ ص٤٠٨ رقم (٨٠٩٨)
[25].(صحيح مسلم) ج٤ ص١٧٦٤ رقم (٢٢٤٩)
[26]. (صحيح البخاري) ج٩ ص٦٢ رقم (٧١٤٢)
[27]. (صحيح البخاري) ج٨ ص١٦ رقم (٦٠٥٠)، (سنن أبي داود) ج٤ ص٣٤٠ رقم (٥١٥٨)
[28]. (صحيح البخاري) ج٨ ص١٦ رقم (٦٠٥٠)، (سنن أبي داود) ج٤ ص٣٤٠ رقم (٥١٥٨)
[29]. (الدر المنثور) ج٢ ص٥٣٥
[30]. النساء :٣٦
[31]. (شبهات حول الإسلام) ص٤٥
[32]. (حضارة العرب) ص٣٥٠
[33]. (ضحى الإسلام) ص٢٢، نقله عن (الأغاني) ج٩ ص٨٨
[34]. (ضحى الإسلام) ص٢٢، نقله عن (المسعودي) ج٣ ص٣٠٨
[35]. (تاريخ مصر في العصور الوسطى) ص٢٢٩
[36]. (تاريخ مصر في العصور الوسطى) ص٢٥٢
[37]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص١٥٢
[38]. (الإسلام والاستبداد السياسي) ص١٦٠