مراجعة كتاب: علم النفس والطبيعة الإنسانية

الأمرُ لم يعد بحاجةٍ للتغافل؛ فأنت دائمًا تجري في تفاعلاتِ المجتمع المعاصر التي لا هدف لها إلا زيادة المال، ثم فجأةً، يوقفك خطبٌ اجتماعي، فتجد نفسك لا تستطيع الجواب، فارغ الجوفِ، وأنّك مجرد آلة عمل، فيدور رأسُك بالأسئلة الوجودية: من أنا؟ حتّى ترغب في الفناء.
إذًا، يتحتّم عليك أن تفهم ما يملأ جوفك؛ لتستطيع بعد ذلك أن تحدِّدَ ما هي طبيعتك، ولتستطيع تحديد أفعالك وأفعال غيرك، وعندئذٍ، يكون لك إمكانية النظر في المواقف الاجتماعية المختلفة.
يحاول “بيتر آشوورث” في كتابه “علم النفس والطبيعة الإنسانية” الصادر ترجمةً من “المركز القومي للترجمة“، أن يعرض اتجاهاتٍ متباينة الأساس والسبيل في فَهم الطبيعة الإنسانية، وجميعها -كما يقول- ترى الطبيعة الإنسانية إما أنك من تخلق طبيعتك، أو أنها مخلوقة للمجتمع أو للبيئة. وقد أهملَ الكاتبُ التفكيرَ الدينيّ؛ لأن التفكير الديني يرى الطبيعة الإنسانية كجزءٍ من الكون، والكاتب يريد أن يبيِّن الاتجاهات التي تركِّزُ على الإنسان وحده لا غير.

البيئة اصطفتنا

منذ ظهور تطوريّة داروين وصار يُنظَر للإنسان على أنّه نوعٌ من الأنواعِ الموجودة في البيئة، وكيفما تكون البيئة يصير الإنسان. يقول التطور أنّ البيئةَ ترى المُلائم لها من الجينات البشرية فتنتخبه، وغيره تذره لينقرض. بمعنى أن البيئة في تغيُّرٍ دائمٍ، ودافع الجينات دومًا أن تبقى على قيد الحياة، ولكي تبقى، يجب أن تكون مناسبة للبيئة، كما يحصل لها تعديل عندما تُورَّث للأبناء. وهذا مع انطباقه على السمات الجسدية، يرون أنه ينطبق على السمات والأفعال النفسية والاجتماعية للبشر، فيقول التطور أنّ السمات والأفعال البشرية الكلية نتجت عن تكيُّف الإنسان القديم مع البيئة بدافع البقاء على قيد الحياة، فالثقافة عندهم هي مجرد تنوًّع تُبصِر فيه السمات النفسية البشرية الكلية المتطورة. فهذه السمات والأفعال هي الطرق التي تمشي فيها الثقافة؛ فهي التي تنظّمها، ولا يمكن لأيّ فعلٍ أو صفة أن يكونا موجودَين طالما يخالفان طبيعة هذه الصفات. يقول “إدوارد ويلسون” عالم الأحياء الاجتماعي:

إن الثقافةَ نتاجٌ بيولوجيّ بحت، لقد قيل أنه لا توجد جينات لبناء الطائرات، وذلك صحيح بالطبع، لكن الناس يبنون الطائرات لإدارة العمليات الأوليّة للكائنات الإنسانية.

ولكن المشكلة الكبيرة التي تواجه المنظور التطوري هي أنه ليس لديه تحديد لهذه السمات والأفعال الكليّة.

أنت ابن الرغبة الجنسية

دومًا عندما نسمع اسم “فرويد” أو التحليل النفسي تأتي في أذهاننا صورةٌ لمريضٍ مستلقٍ على سرير، يتكلم عن نفسه كيفما اتّفق، أمام طبيب نفسيّ يمسك بقلم ويكتب كل ما يقوله المريض. هذه الصورة كما يقول “بيتر آشوورث” هي إنجاز فرويد الأكبر، فيُعبِّرُ قائلًا:

إن إنجاز فرويد الأكبر إنّما يتمثل في تطوير التحليل النفسي كوسيلةٍ لفَهم الفرد في الموقفِ العلاجي.

قام عمل فرويد على افتراض وجود طاقة تسمى طاقة الليبيدو؛ الرغبة الجنسية. ويحاول فرويد فهم تأثير عدم تحقُّق هذه الرغبة على نفوسنا، فيقول بأنّ هذه الرغبة الجنسية في حالة صراع أبديّ مع الواقع أو “الضمير” الذي يمنع تحقيقها إلا في صورٍ معينة. فنظرية التحليل النفسي هي نظرية ترى أنّ الإنسان يتكوّن من صراع بين الرغبة الجنسية والواقع أو الضمير، وعدم تحقُّق الرغبة يُنتج محاولة النفس لتحقيقها في صورٍ أخرى. هذه الصور هي وسائل الدفاع النفسي، ومقرّ هذه الوسائل هو اللاوعي.

إعلان

وتفصيلًا لنظرية فرويد أن الإنسانَ هو نِتاجٌ هذا الصراع؛ فهو يرى الرضيع يحقق الرغبة الجنسية من خلال الفم وهو يرضع من ثدي أمه، وهذه تسمى بالمرحلة الفموية، وفي الثانية من عمره يحقّق الرغبةَ من خلال فتحة الشرج، وتسمّى هذه المرحلة بالشرجية، ثم يحقّق الرغبة من خلال القضيب، وتسمّى بالقضيبيّة، ثم أخيرًا مرحلة الكمون، وهي المرحلة التي يتكيَّف فيها الفرد مع الشكل الذي يفرضه المجتمع لتحقيق الرغبة.

في كلِّ مرحلةٍ من هذه المراحل يكون الصراع الشخص لتحقيق رغبته بهذا الشكل، وعدم تحقُّقها بهذا الشكل يجعلها تتحقّق بشكلٍ آخر، ويعطي للفرد سماتٍ معينة -كما أن تحقُّقها بشكلها الأصلي يعطي سماتٍ معينة أيضًا- وتكون الظروف في كلِّ مرحلةٍ مُساعِدَة في تكوين السمات.

أنت نموذج مصغَّر للعالم

كيف نستقبل الثقافة بمفهومها الواسع الذي يشمل أي معلومة؟ ما هو الطريق الذي تأخذه هذه الثقافة داخل نفوسنا حتى يصير سلوكنا مشابهًا لها؟

علم النفس المعرفي يحاول أن يعرف كيف نستقبل شيئًا من العالم المادي، كيف مثلًا حين نرى شخصًا نقول “هذا محمد”، كيف نفكر؟ كيف نستدعي خبراتنا المتراكمة خلال عملية التفكير؟ أين مكان خبراتنا؟ باختصار، يحاول هذا المنظور وضع نماذج للعمليات المترابطة التي تحصل داخلنا عند الإحساس بشيءٍ ما ليستطيع دراستنا، نماذج مشابهة لنماذج عمليات الحاسوب، وهي عمليات الإدراك والتذكر والتفكير والاستنتاج.

إذًا، عالمنا الداخلي يتكوّن من خلال مرور العالم المادي من حواسنا عبر عمليات إلى العقل. نحن بناء من العالم الخارجي، كلٌّ منا له بناء خاص يميزه، والنتيجة الطبيعية لهذه النظرة هي أنّنا للتغيير في شخصياتنا نحتاج إلى عمل تغيير في بنائنا، ونتيجةً لهذه النظرة أيضًا يمكننا تفسير مشاعرنا، فالقلق مثلًا كما يقول “جورج كيلي”:

نحن ينتابنا القلق عندما لا نستطيع إلا أن نفسر الحدث الذي نواجهه بشكلٍ جزئي، وتكون العديد من دلالاته غامضة. أي يقصد أن معنى هذا  الحدث غير موجود داخل بنائك الشخص. عندما تحس بهذا الحدث لا يستطيع عقلك أن يعطي له معنى.

أنت ابن الظرف

قد قلنا في المدرسة المعرفية أن نفوسنا تأخذ نموذجًا مصغّرًا من العالم المادي، لكن تعترض المدرسةُ السلوكية قائلةً: لا، إن العالم المادي لا يتعدّى جسدنا إلى داخلنا، لا يوجد ما يسمى بالعالم الداخلي؛ لأننا لا نستطيع دراسة ما يسمى بالعمليات المعرفية، بل لا يوجد ما يسمى بذات الإنسان، فنحن نتاج الظرف الذي نُوجَد فيه لا غير، فلا يوجد أمامنا سوى دراسة السلوك الناتج من هذا الظرف.

ولكن جاء العالم السلوكي “سكينر” وأخذ على عاتقه دراسة العمليات المعرفية -خلافًا لمدرسته- ولكن بتأويلها إلى سلوكياتٍ لا غير، فالتفكير -مثلًا- سلوك.

لنفهمَ هذا، ضرب سكينر في مذكراته مثالًا رآه، وهو لطفلٍ رضيعٍ على ذراع والده الذي ينتظر في المطار، لم يلبث الطفل أن بكى؛ فأخذ الوالد يحرّك ذراعه ليُسكته. لاحظ سكينر أن الأب كلّما حرَّك ذراعه، ازداد بكاء الطفل؛ أي أن الأب يعزز سلوك الابن.

يسمّي سكينر بكاء الطفل هذا مثير، وتحريك الأب استجابة، وسبب سلوك الأب هي الظروف “البيئة”، وهي وجود الطفل على ذراعه، وأنه ينتظر في المطار، واستجابة الأب والظروف التي أنتجت الاستجابة هي معزّز السلوك. بهذه المفاهيم الأربعة يمكننا فهم أي شيء يفعله الإنسان، وأيضًا فَهم العمليات العقلية. التفكير مثلًا، يقول سكينر عن نفسه أنّه لم يكتب كتابه “الحرية والكرامة”، فيشرح “بيتر آشوورث” ذلك قائلًا: “قد أدّت العملية شديدة التعقيد للبيئة إلى أشكالٍ متباينة من السلوك المعزز الذي يصل لذروته في نهاية الأمر في هذا الكتاب”.

باختصار: هو إنّما يدرس سلوك الإنسان في ظرف معين، كذلك العمليات المعرفية؛ فطبيعي ألّا يرى لذات الإنسان وجودًا.

أنت عدم

في كل الاتجاهات السابقة، كان مفترَض وجود طبيعة للإنسان، طبيعة اجتماعية بيولوجية، فحتّى المدرسة المعرفية تدرس شخصًا ذا طبيعة. لكن ماذا لو أغفلنا الطبيعة؟ ماذا نرى؟ ماذا يكون الإنسان لحظتها؟ هذا ما كان يحاول الفيلسوف “جون بول سارتر” الذي يعارض علم النفس الإجابة عليه.

هو يرى أنّ هناك شيء يسمّى “وعيًا“، وشيء يسمّى “موضوعات الوعي“، فالوعي هو “أناك مجردة من كل شيء” قائمة بإعطاء المعاني للأشياء، أما الموضوعات فهي الأشياء بلا معانٍ. وهذا الوعي “أنت” يندفع إلى إعطاء معنى للموضوعات؛ لأنه قلق من أن يكون بلا معنى. فشخصيتك هي “شيء” بلا معنى؛ أي بلا طبيعة، فأنت أيها الواعي -خوفًا من العدم- تُعطي معنى أي سمات وصفات تقرّر شخصيتك؛ أي أنه لا شخصية ثابتة لك، والطبيعة أمر نسبي.

نحن أولاد المجتمع

منذ لحظة ولادتنا ونحن نتفاعل مع أناسٍ وكتبٍ وطبيعة، وكل هذا يعطينا المعلومات التي تكوّن ذاتنا. المدرسة المعرفية تدرس هذه المعلومات وهي تسري فينا، والتطورية تدرس هذه التفاعلات من حيث أنها تعبِّر عن تفاعلاتٍ كليّة توارثناها جينيًّا من العصر القديم، وفرويد يدرس التفاعلات من حيث أنها محل فهم كيف تتحقق الرغبة الجنسية، والسلوكية تدرس الظرف الذي كوّن التفاعل. أمّا هنا، فعلم النفس الخطابي يترك الأحداث الداخلية، ويترك التاريخ، ويترك الظروف، ليبحث فيما تعبّر عنه هذه التفاعلات حاليًا، فمن خلال تحليلنا لكلامك نستطيع معرفة تكوين شخصك، وكذلك بتحلينا للتفاعلات بين البشر في مجتمع ما نستطيع فهم القواعد التي تجري فيها هذه التفاعلات.

فهو يدرس العمليات المعرفية من حيث ما يوجد فيها، والذي هو نتاج المجتمع، كما يهتمّ بدراسة مشاعرك ودوافعك. أي هو يرى ذاتك وعقلك على أنّهما نتاج المجتمع.

المنسي في علم النفس

كما رأينا في كل الاتجاهات السابقة أنه يٌنظَر إلى ذات الإنسان كما يقول “بيتر آشوورث” باعتبارها بنية بيولوجية أو اجتماعية. أمّا ماهية هذه الذات مجردةً من بنيتها، فهذا ما لم يتصدى له إلّا “سارتر”، وهذا ما يضعه بيتر آشوورث في نهاية الكتاب أساسًا لوجهة نظره في الطبيعة الإنسانية. فالذات يجب أن تكون شيئًا قائمًا بذاته نراه عندما ندرس البنية التي تتكلم بها هذه الاتجاهات. وينهي كتابه بقول “سارتر”:

كان كياني هو هذا الواقع الذاتي العميق الذي يتجاوز كل ما يمكن قوله عنه، وهو ما لا يمكن تصنيفه؛ فما هو موجود هناك، في ذاته وقبل ذاته، هو واقع كلي عميق، واقع ذو طبيعة لا نهائية مؤكدة. إنه الكينونة، كينونة الشخص.

معرفة ما يكوّن طبيعتك لا يجعلك فقط تحدِّد طبيعةً لك ترى العالم من خلالها، بل ويجعلك أيضًا ترى حقيقة الخطابات الموجودة على الساحة، ما هو الاتجاه الذي تبني عليه خطابها لتحاول فرضه على المجتمع.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد جمال الصياد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا