مراجعة كتاب “بحثي عن المُطلقات” للفيلسوف بول تيليش

كتاببحثي عن المُطلقات” هو في الأصل محاضراتٌ كان قد ألقاها بول تيليش، – مُفكِّر وفيلسوف ولاهوتي ألماني أمريكي بجامعة شيكاغو بكلية القانون – ، وهو، كما يظهر من العنوان، يحاول البحث عن مجموعة من المطُلَّقات التي تجعل للحياة معنى، ويحاول أن يَدحَض في نَفسِ الوقت فكرة القائلين بالنسبيَّة أو مُستعمِلي مُصطلَح “النسبيَّة المُطلَقة”، حيثُ يُبيِّن “بول تيليش” أنَّ هذا الأخير مُصطلح مُتناقِض مع نفسهِ، وأنَّه من الضروري في خَضم النسبيات التي نعيش فيها وبها، من وجود مُطْلَقات تُشكِّل مَرجِعَاً للحياة.

سيرة متفرِّدة للحياة..

يعرض لنا “بول تيليش” سَببَ اهتمامَهُ بهذا الموضوع في الفصل الأول حيثُ يُقدِّم جانِبًا من سيرته؛ لنَجِد أنَّ هذا الاهتمام قد بَدأ منذُ الصِّغَر، إذ أحسَّ بأن لديه اتجاهاً عاطفياً وفكرياً رومانتيكياً “وهو مُعَبَّرٌ عنهُ أساسًا في موقفٍ جمالي تأملي تُجَاه الطبيعة، مُمتازًا عن الموقف التحليلي العلمي أو التكنولوجي الهادف إلى الهيمنة”.

هذه النظرة للطَّبيعة والتعلُّق بها جمَاليًا خَلَقَ عندَهُ حُضُورًا للمُقدَّس قبلَ الربوبيّ: أي أنًَ فكرة وجود أشياء مُقدَّسة في هذا الكون، ووجود ترابُطٍ وتناغُمٍ وراءَه قوة خارقة/إله كانت حاضرة عنده قبل أن يعي هاته الأمور من منظور ديني.

وهذا كما يبدو للقارِئ، دَأبُ كل الأنبياء والمُصلِحين، ولا شكَّ نستحضر هنا قصَّة النبيّ إبراهيم عليه السلام في تأمُّلهِ الَّليلي للسَّماء ومن ثَمَّ دلالتهِ على الإلَه.

تربيةُ “بول تيليش” في بيتِ خادِمٍ كَنَسي كان لها دور في اتجاهه لدراسة الَّلاهوت وتأثّـُره بهذه المواضيع، لكنٌَ الانتقَالات الكثيرة التي طَرَأت في حياتهِ، مُنذُ مَولدهِ بقريةٍ حدوديَّةٍ شكَّلَتْ نِزاعًا على مَدى سنواتٍ كثيرةٍ من أواخِر القرن التَّاسع عَشَر وبداية القرن العشرين، وكونه عاصَرَ الحَربين العَالميتين وتَعرَّض للطَّرد على يَدِ “هتلر” ومن ثَمَّ هَاجَرَ لأمريكا، كل هذا كان سَببًا في جَعلِهِ مُنفَتِحًا روحيًّا وفِكريًا، ودفعه لدراسة المشكلات الوجوديَّة في ظلِّ الفكر اللاهوتي، خاصَّةً في ظلِّ المُجتمَع الأمريكي والحُريَّة الكبيرة والفُرَص التي يَمنحُها للعيش واكتشاف الذات والآخر على السَّوَاء رُغمَ الخَطَرِ الكَامِن في هذه التجربة.

إعلان

المُطلَق في المعرِفة الإنسيَّة ..

يَتحدَّثُ “بول تيليش”عن مصطلح المُطلَق أي “المُتحرِّر من أي علاقة خاصَّة بل المُتحرِّر من الأساس الَّذي تَقوم عليه العلاقات الخاصَّة جميعها”.

وهو هُنا يُوضِّح كذلك أن المقصود بـ “المُطلق” ليسَ الرَّب مُباشَرة بل تَختلِف دلالتَهُ باختلاف المَجَال موضوع الحديث: فالمُطلق هو مثلًا اللامشروط في المجال الأخلاقي، وهو الأقصَى في مجال الانشغالات الوجوديَّة، واللانهائي في المجال الديني.

على هذا الأساس، يُحدِّد “بول تيليش” “مُطلقات” للمعرفة الإنسانيَّة (أو الإنسيَّة، وهو اختيارٌ مُصطلحِيٌّ للمترجم). فـالمعرِفة كما يقول: “تنطوي على فصل ووصل بين الذات والموضوع” (أي الانسان كـ”ذات” في مواجهةٍ مع موضوع معيَّن أو الإنسان في مواجهة نفسه)، وما يُصعِّب إذن عملية الوصول إلى الحقيقة هو هذا الفصل الذي يجب أن يتمّ في كل مرة بين الذات والموضوع لتمييز المُطلَق عن النسبي، خاصَّةً في ثلاث حالات تُشكِّل مُـطلقات للمعرِفة:

– الانطباعات الحسيَّة: انطباعات الشخص كذَات عن الأشياء هي تجربة مُطلَقة، فلا يُمكِن أن يُجادلك شخصٌ آخر فيما تراه (رؤية عينية أو نتيجة هلوسة أو غيرها) أو ما تحسّ به.

بنية العقل الدلاليَّة والمنطقيَّة: العقل هو مُنطلَق عملية التفكير التي تَعتمِد على المَنطِق والدَّلالة، وبالتَّالي يَفترضُ (العقل) مَسبَقًا مُطلَقِيَّة هذه البُنية (فلا يمكنُكَ الدُّخول في أي نقاش دونَ اعتبار مُسبَق لمُطلقيَّة منطقكَ ودلالتكَ.

هُنا يذكر تيليش: “مفهوم المعرفة بحدّ ذاته يَستلزِم بُنية مُطلَقة في ثنايا تَدفق المعرفة النسبية، إذ لا يستطيع العقل البشري أن يُحافِظ على تمركزهِ ووعيه بذاتهِ دونَ حضُور شيء ما يَظلُّ مُطلقًا داخل تيار المعرفة النسبيَّة المُتدفِّق”.

 – القُدرة على التَّساؤل: هو ثالث مُطلَق في عملية التفكير وفي العملية المعرفية كلَّها: فالتساؤل يكون عن أشياء نصف مجهولة أي أنَّ “الذَّات السائِلة تمتلكُ شيئًا من الموضوع الَّذي تسأل عنهُ وإلَّا استحالَ عليها طرح السؤال، لكنَّها تَظلَّ منُفصلةً عن موضوع فكرها، وتتعطَّشُ للاتِّحادِ به، وهو ما يعني تعطُّشها نحو الحقيقة” .

هذا فيما يَخُص مُطلَقات المعرفة، فهل الواقع المُعَاش هو الآخر به مُطلَقات؟ الجواب نعم، حيثُ يُميِّز “تيليش” بين ثلاث مجموعات تُشكَّل مُطلَقًا في التَّجارب المعيشيَّة أو الواقع المُعَاش عامَّةً .

– الجواهِر: أي جوهر الكائنات (كل الكائنات)، فهذه الأخيرة “مغمورة بسيل النسبيَّات، فهي تأتي وتذهب وتتغير وتظلّ كامِنة ثُمَّ تظهر لتختفي من جديد، فهي تكون، غير أن كينونتها تأخذ شكل صيرورة“.

جوهر الأشياء نكتشفه بواسطة قوّة التَّجرِيد التي نملكَها كبَشَر ونُعبِّر عَنْها بواسطة الُّلغة (التواصليَّة والدلاليَّة) التي تُنتِجَها، بحيث أنَّنا نتصوَّر الشيء بمُجرّد الحديث عنهُ .

–  البُنَى الأنطُولوجيَّة: أو بُنَى الوجود الإنساني، ونَقصِدُ بِهَا البُنَى التي تُشَكِّل العَالَم، مثل النوع والكَمّ، الزَّمان والمَكان، الحُريَّة والقَدَر، الفردانية والمُشاركة، التعدديَّة والواحديَّة …. هذهِ كلَّها مُطلَقَات كما يُقرِّر “بول تيليش”، حيثُ يُمكِن أَن نتخيَّل كل بُنية في شَكلِ حبلٍ ذي طرفين يُشكِّلان المُطلَق (مَثَلًا الحُريَّة والقَدَر)، فيما بَقيَّة الحَبْل تُمَثِّل الأوضاع النِسبيَّة التي يكون عليها الوجود في لَحظةٍ مُعيَّنة (مَثَلًا اتِّخاذ قَرار بكامل الحُريَّة ثُمَّّ حُدُوث مُصيبة من مَصائِب القَدَر، أو عَدَم اتِّخاذ أي قرار مِنَ الأسَاس ومع ذلك بسبب القَدَر تَستَمِر الأمُور في الطَّريق الصَّحيح).

وبالتَّالي لا يُمكِن أن نَنكُرَ أي واحِد مِن هذهِ الأطرَاف بَلْ هيَ “ ثُنائيَّات قُطبيَّة مُتضمَّنة داخِل نِسبيَّات المُواجَهة الإدراكيَّة مع الواقِع”.

مُطلَقِيَّة الوجود ذاته: من البديهيّ أنَّهُ يُمكِن إنكار كُل عِبارَة إلَّا عِبارة الوجُود أو “أنا موجُود”.

 فالإنسان في نهايةِ المَطَاف واعٍ تَمامَ الوعي بأنَّه مَوجُود، ويُمكِن اختبار هذهِ التَّجرُبة بنقيضها أي العَدَم والمَوت، وحَتميَّة المَوت، لَكِن يُمكِن كَذلِك اختبار تَجربة الوجود – حسب تيليش – بطريقةٍ إيجابيَّة عن طريق حب الوجود بما هو وجود، أو استشعار قداسة الوجود، وهذا هو ما يُشكِّل الأرضيَّة التي تقوم عليها الأوامر الأخلاقيَّة؛ ففي حالَةِ انعدَام الشُّعور بالقَدَاسَة نَحْوَ الموجودات كُلَّها، نَحْوَ العَالَم والآخَر والذَّات والأجْيَال القَادِمة أيضًا، تَسقُط المَعايير التي تنبني عليها الأوامر الأخلاقيَّة وتَفقدُ أسَاسَها.

المُطلَق والنِّسبي في القَرارات الأخلاقيَّة

عِندَ الحَديث عن الأخلاق، مِنَ الواجِب استحضار الأخلاق الواجِبة كما تَحدَّثَ عَنها كانط، حيثُ يَقول “مِن غير المُمكِن استخلاص الواجِب الأخلاقي من مَصدَرٍ آخَر سِوى طَبيعته الجَوهريَّة ذَاتِها”؛ أي أنَّ الواجِب الأخلاقيّ لا يَجِبُ أن يَتأسَّس على العِقَاب والثَّواب، ولا على مَدَى نَفْعهِ، ولا على مصدريَّتهِ (أرضِيَّة أو سَمَاوِيَّة) وإلَّا فَقَدَ لامشروطيتهُ ومُطلقيَّتهُ.

وهُنَا يُصبِح مِنَ الضَّروري الحَدِيث عن “الضَّمير” الَّذي يتشكَّل ويتطوَّر مع تطوُّر البَشريَّة ومع الثَّورات المُختلِفة، حيثُ أنَّه المَسْؤول عن اختياراتِنا الأخلاقيَّة، مع الأخِذ بِعَينِ الاعتبار حُرمة الأشخاص الآخرين بما هم أيضا “مُطْلَقات” لا يُمكِن تجاوزَهُم ولا استعمالَهُم كغايات ولا التَّسبُّب لهم في الأذَى، لكن يَجِب التَّمييز هُنا بين الواجِب الاخلاقي المُطلَق، وبين المحتويات الأخلاقيَّة النِّسبيَّة؛ لأنَّ: 

– كل وضع يَتطَلَّب قرارًا أخلاقيًا مُغَايرًا .

– الزَّمن هو الآخر مُتَغيِّر .

– والمَكَان مُتغيِّر أيضًا، حيثُ تَختلِفُ البُلدان والثَّقافات والجَّمَاعات والدِّيانَات. 

وبالتَّالي تَظهَر هُنَا أهميَّة القرارات الأخلاقيَّة (ليسَ بين الخير والشر بل بين الإمكانات الجيِّدة أخلاقيًا)، سواء بالبقاء بالمنطقة الآمنة أي الاعتماد على الأعراف والتَّقاليد والدِّين، أو المُجَازَفة ومُحاولَة اتِّخاذ قَرار ضِمنَ ما هوَ جَيِّد أخلاقيًا باعتبَار أنَّ كُل قَرار يُتَّخذ يُأثِّر على المَدَى البَعيد أيضًا أي على الأجيال القادِمة. على أنَّ اتِّخاذ القرارات ينبغي أن يَخضَع لما يُسمِّيه” تيلتش” المبَادِئ المُطلَقة للقرار الأخلاقي:

– العَدَالة (ليسَت فَقَط إعطاء كل واحِد ما يستحق، ولا المُساواة)، بمعنى الاستقامة او “العَدالة الخلَّاقة” لأنَّها تُقدٌّم خيرًا مَا إلى الشَّخصِ الآخَر وتُغيّر حالَهُ وهي تَرفَع مَن وُهِبَت لَهُ إلى حالةٍ عَلِيَّة”.

في ثنايا هذهِ العَدَالة كما يُعرِّفها” تيليتش” نَجِد:

– المَحبَّة أو الحُب الَّلامشرُوط: أي شُمُول المَحبَّة حتَّى للمُختلِفين مَعَنَا بَلْ على الرُّغم مِن وجُود عِدائيَّة للشخصِ الآخَر، هذهِ المَحبَّة يُمكِن أن تتحوَّل إلى مَحبَّة مُنصِتَة، تَسمَع للآخَر وتنصحَهُ وتُرشِدَهُ في قراراتهِ الأخلاقيَّة، وتُصبِح طَريقًا يجتمعُ فيها النسبيّ مع المُطلَق حَسْبَ كُل وَضِع مُعيَّن. 

المُقَدَّس: المُطلَق والنِّسبي في الدِّين ..

تحدَّثَ “بول تيليتش” في الفَصل الثَّاني عن الوجُود وعن كَونه المُطلَق الَّذي يُشكِّل مَصدر المُطْلَقات كلِّها، أي أنَّه في جميع الحُقول التي يُمكِن الحَديث عَنهَا في سياق مواجهتنا للواقع هُناك مُطلَقَات/ مِثل الحقل الفنِّي والجَمَالِي، والحقل الاجتماعي- السياسي (قَداسة القانون مثلًا) أو إرث الآبَاء في الحَقل الميثولوجي، أو الحقل الإدراكي وغيرَها.

هذا الوجود هو مُطلَق في حدّ ذاتِهِ وهو ما ذَكرنَا أنَّنا نستشعِر تُجَاهه قدسيةً. 

هذهِ المُواجَهة مع الواقِع المُطلَق أي مع المُقدَّس تَنطوي حَسْبَ” رودلوف أوتو “(كما يقتبس منه تيليش) على علاقة قائمة على الرَّجفة والخَشيَة، وكَذا الافتتان والرَّغبة.

ففي كل الدِّيانات، هُناك رَهبة من/رغبة في المُقدَّس، لَكِن المُقدَّس يَختلِف مِن شخص لآخر، و“هُناك شيئًا مُقدَّسًا بالنِّسبة لكل شخص، حتَّى بالنِّسبة لأولئك الَّذين يُنكرُون اختبارهم للمُقدَّس”. 

هذا الاختبار للمُقدَّس هو ما يُعطِي تصوُّرًا مُعيَّنًا للدِّين سواء من حيث هو دينٌ به عبادات ورموز وجماعة دينيَّة تشترِك في طُقُوسٍ أو كِتاب، أو من حيث هو دِينٌ بمعنى فكرة يُؤمِن بِهَا الإنسان ويُكرِّس حياتَه لتحقيقه، وهذا الفهم لهذين التَّصورين المُختلِفين للدِّين هو ما يؤهِّلنا لفهم تصوُّر العلمانيين للبُنى الدِّينيَّة وتصوُّر الجَّماعات الدِّينيَّة للعلمانيين، بل فهم أيضًا أساليب شيطنة الدِّين واستغلاله من طرف الدُّول أو الجمَاعات مثل مَحاكِم التفتيش أو النازيين مَثلًا، وفهم أسباب الصراعات الدِّينية التي من بين أبرز أسبابها حَسْبَ” تيليتش” هو الزَّعم بالمُطلَقيَّة الَّذي يفترضهُ كل دِين خاصّةً الأديان الثَّلاثة المسيحيَّة واليهودية والإسلام.

على أنَّ المُشكِل الأساسي يَبقى في النَّظرة للمُطلَق داخِل كل دِين والَّتي تَختلِف جذريًا من اليَهوديَّة التي تربُط اسمها باسم الله “شعب الله المختار” والمسيحية التي نجد بها فهماً مُختلِفًا للمُطلَق (المسيح أو الأب أو اتحادها معا)، أو حتَّى في الإسلام وطوائفهُ المُختلِفة كالصوفيَّة والبهائيَّة وغيرِهَا.

غيرَ أنَّ أهَمّ الأسبَاب فكرةً يؤكِّدُ عليها” تيليش” أنَّه من المُمكِن لدِينٍ مُعيَّنٍ أن ينسبَ لنفسه المُطلقيَّة انطلاقًا من المضامين التي جَاءَ بِهَا، لَكِن تَعامُل كُل دِينٍ مع الآخَر “لا يُمكِن أن تنطوي على رغبة في تحوُّل النَّاس من دِين إلى آخَر، بل ينبغي أن تَقوم على رغبةٍ في التَّبُادُل والأخذ والعَطَاء”.

بل حتَّى التَّعامُل مع البُنى العِلمانيَّة يجبُ أن يكونَ مَسرَحًا لفهمٍ مُتبَادَل مِنَ الطَّرفين، لأنَّ الأمر في النِّهاية يتعلَّق ببحث الإنسان، كل إنسان، عن معنى الحياة وعن أُسسٍ تجعلهُ يأخذ أشياء معينة بجديَّة ويكرِّس حياتَه لها ويجِد فيها المعنى والمُطلَق بالنِّسبةِ إليه. 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: إنصاف بحنيني

اترك تعليقا