هل شك إبراهيم؟

يعتقد كثيرون أن سيدنا إبراهيم قد شك في قدرة الله على إحياء الموتى، ويعتبرون هذا الشك حافز ومشجع للدعوة إلى الشك!

ما معنى الشك؟

العلم بقضية محددة يستلزم مرحلتين: تصور، ثم تصديق.

مثلًا حين أسألك: هل تعتقد أن النار تحرق؟

فأنت تحتاج أولًا أن تتصور ما معنى النار، وتتصور ما معنى الحرق، ثم تصدِّق/ أو تنفي العلاقة بينهما.

وموقف الإنسان تجاه التصور يتفاوت بين مستويات عدة:

إعلان

  • تصور ماهية الشيء: أي إدراك مكوناته، وأصله، وجوهره، مثل تصور الكيميائي للمياه على أنها H2O، أي يعرف تركيبها.
  • تصور صفات الشيء: مثل العامي الذي يتصور المياه على أنها سائل شفاف.

أما موقف الإنسان تجاه التصديق فيتفاوت بين مستويات عدة:

  • العلم: وهو الاعتقاد الجازم بصحة هذه القضية (100%).
  • الظن: الميل إلى صحتها، مع عدم اليقين (60- 90%).
  • الشك: عدم ترجيح تصديق أو نفي القضية (50%).

يقول الجرجاني: “الشك: هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك”(1).

ويقول الرازي: “الشك هو أن يبقى الإنسان متوقفًا بين النفي والإثبات”(2).

  • الريبة: الميل إلى إنكار القضية (10 – 40%).
  • الإنكار: الاعتقاد الجازم بعدم تصديق القضية (0%).

والشاك لا يُسمى مؤمنًا، بل هو متوقف عن إصدار أي حكم، فلا يؤمن، ولا ينكر، بل يعتبر جاهلًا، لذا إن قلنا: إن إبراهيم شك في قدرة الله على البعث، فيعني ذلك أننا لو سألناه: هل تعتقد أن الله قادر على إحياء الموتى؟ سيجيب: لا أعلم!

يقول الرازي: “قال قوم من الجهال: إن إبراهيم  كان شاكًّا في معرفة البعث، وهذا القول سخيف، بل كفر؛ وذلك لأن الجاهل بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى كافر، فمن نسب النبي المعصوم إلى ذلك، فقد كَفَّر النبي المعصوم!”(3).

من هو إبراهيم؟

إبراهيم هو رسول الله الذي أوحى إليه، وأوقع المعجزات على يديه، مثل خروجه من النار دون أذى. بل هو من أولي العزم من الرسل؛ إذ جعله الله إمامًا، (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، واتخذه خليلًا، (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، ورفع مقامه، (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

إذن فإبراهيم كان عظيمًا، وإيمانه كان عظيمًا وجليلًا، ومن لوازم هذا الإيمان اعتقاده الجازم بقدرة الله على الخلق، والإحياء، والبعث، والحساب، ولا شك أن إبراهيم نفسه دعى الناس لهذه العقيدة، فقال للنمرود وهو يناظره: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ).

فلا يُتصور أن يوحي الله إليه، ويوقع على يديه المعجزات، ويجعله رسولًا وإمامًا وخليلًا وأمَّة، ويدعو الناس للإيمان بالله والبعث والحساب، وهو نفسه غير مؤمن يقينًا بقدرة الله على الإحياء!

كما أن البعث والحساب مبعثه هو الوحي الذي يوحيه الله إلى رسوله، وليس الاستنتاج العقلي، وبالتالي لم يستنتج إبراهيم أن الله يبعث البشر، بل أوحى الله إليه ذلك صراحةً، وبالتالي فإن شك إبراهيم في ذلك، فهو شك في الوحي الذي يأتيه من الله كله، وهذا قدح في النبوة كلها!

هل شك إبراهيم؟

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

أولًا: سؤال إبراهيم لم يكن: هل أنت قادر على إحياء الموتى؟ بل كان: كيف تحيي الموتى؟

إذن هو يسأل عن الكيفية، بالضبط مثلما أسأل: “كيف بنى الفراعنة الأهرامات؟” فلا يعني السؤال إنكاري لقدرة الفراعنة على بناء الأهرامات، بل العكس، فالسؤال نفسه ينسب بنائها للفراعنة، “كيف (بنى الفراعنة الأهرامات)”؟ لكنه سؤال عن الكيفية.

كذلك في سؤال إبراهيم: “كَيْفَ (تُحْيِي الْمَوْتَى)؟”، يحمل إقرارًا منه بأن الله يحيي الموتى.

يقول ابن عطية: “الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك : كيف علم زيد؟، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحي؟، و(كيف) في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء، والإحياء متقرر”(4).

ويقول محمد رشيد رضا: “ما من أحد إلا وهو يؤمن بأمور كثيرة إيمانًا يقينيًا، وهو لا يعرف كيفيتها ويود لو يعرفها، فهذا التلغراف الذي ينقل الخبر من المشرق إلى الغرب في دقيقة واحدة، يوقن به كل الناس في كل بلد يوجد فيه، ويقل فيهم العارف بكيفية نقله للخبر بهذا السرعة، أفيقال فيمن طلب بيان هذه الكيفية إنه شاك بوجود التلغراف؟!”(5).

وإن قال أحد بأن السؤال عن الكيفية كان سؤالًا عن القدرة، لكن جاء بهذه الصيغة على سبيل الأدب، فالسؤال عن القدرة بكيف لا يعني الأدب، بل يعني التحدي والاستهزاء والإنكار، مثلما يدَّعي أحد قدرته على حمل جبل، فنقول له: سلَّمنا أنك قادر، أرنا كيف؟! على سبيل الاستهزاء والتحدي.

ثانيًا: قال تعالى: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ فكانت الإجابة الواضحة الصريحة: (بَلَى).

ثالثًا: لماذا سأل الله إبراهيم: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟

الأصل في السؤال أنه استفهامي؛ أي أن السائل يجهل الإجابة، ويطلب الفهم. وهذا محال على الله، فالله لا يجهل شيئًا ليستفهم عنه.

إذن فالسؤال لغرض مجازي، ومن أغراض السؤال المجازية: السؤال التقريري؛ مثل: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، وغرض هذه الأسئلة التقريرية أن يجيب المسئول بالإيجاب، فيعرف الجميع إقرار المسئول.

وهنا حين أجاب إبراهيم بـ(بلى) نفى الله عنه أي شبهة أو ادعاء بأن إبراهيم كان شاكًّا.

رابعًا: لماذا قال إبراهيم: (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)؟

كما قلنا العلم بالشيء ينقسم إلى تصور وتصديق، وتتفاوت الناس في التصورات، وهنا إبراهيم يؤمن أن الله يحيي الموتى، لكنه يريد كمال التصور عن هذه الكيفية، فهل تتطاير العظام في الهواء لتجتمع؟ أم كل جزء يكون حيًا وحده؟ أم فجأة ينبض قلب الميت؟ أم يعاد تكوينه كأنه جنين يتكون من جديد؟ أم تتكون صورة جديدة من العدم؟ هذا ما يحير إبراهيم، ويريد أن يطمئن قلبه للتصور الكامل عن كيفية الإحياء.

وجدير بالذكر أن الله لم يفرض علينا كمال التصور للعقيدة، فحين أمرنا بالإيمان بالملائكة، فقد فرض علينا أن نؤمن بوجودها فقط، لكن تتفاوت تصورات البشر عنها، فالبعض يتصور الملائكة كائنات نورانية، وآخرون يتصورونها بأجنحة، وآخرون يتصورونهم بيض الوجوه، الخ، كذلك لا حرج إن تفاوتت تصورات الناس عن إحياء الموتى، ولا حرج إن أراد إبراهيم كمال التصور لكيفية الإحياء، المهم أن هذا لا يقدح في الإيمان.

إذن فتقدير الآية أن الله قد سأل: أولم تؤمن بأني قادر على إحياء الموتى؟

فأجاب إبراهيم: بلى أؤمن بقدرتك على الإحياء، لكني أريد أن أرى كيف يتم الإحياء ليطمئن قلبي برؤية الكيفية وأدرك كمال التصور للإحياء.

يقول الألوسي: “معنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهَد”(6).

هل نسب النبي الشك لإبراهيم؟

روى البخاري عن النبي أنه قال: “نحن أحق بالشك من إبراهيم؛ إذ قال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ويرحم الله لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف، لأجبت الداعي”(7).

قول النبي: ” نحن أحق بالشك من إبراهيم” يحتمل معنيين:

  1. نحن أحق بالشك من إبراهيم، ونحن لا نشك، إذن إبراهيم لم يشك.
  2. نحن أحق بالشك من إبراهيم، وإبراهيم شك، إذن فيجب أن نشك.

والمعنى الثاني لا يصح لأنه يعارض سياق الحديث؛ فالنبي يشير إلى حادثة مطاردة قوم لوط على ضيوفه، إذ قال: (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، أي لو كان معي قوة لهاجمتكم، أو احتميت بعشيرة منكم. وهنا ثارت شبهة بأن لوط لم يستعن بالله، فنزه النبي لوطًا من هذه التهمة بقوله: “لقد آوى إلى ركن شديد”؛ أي لجأ إلى الله في باطنه، مع طلبه للقوة في ظاهره.

وأشار النبي إلى يوسف لما جاءه رسول الملك ليفرج عنه، فرفض الخروج، إلا بعد إثبات براءته، (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)، وهذه قدرة عظيمة على تحمُّل السجن، لو كنت أنا مكانه، لما استطعت الصبر على السجن وأجبت الداعي.

إذن فسياق الحديث هو تنزيه لهؤلاء الرسل الثلاثة، فالمعنى الذي يتسق مع الحديث: نحن أحق بالشك من إبراهيم، ونحن لا نشك، إذن إبراهيم لم يشك، وبذلك فقد نزَّه نبينا إبراهيم عن شبهة الشك.

ويقول محمد رشيد رضا: “فَهِمَ بعض الناس من هذا السؤال أن إبراهيم كان قلقًا مضطربًا في اعتقاده بالبعث، وذلك شك فيه، وما أبلد أذهانهم وأبعد أفهامهم عن إصابة المرمى، وقد ورد في حديث الصحيحين: “نحن أولى بالشك من إبراهيم”؛ أي أننا نقطع بعدم شكه، كما نقطع بعدم شكنا أو أشد قطعًا”(8).

هل الشك فضيلة؟

راجت صيحات تنادي بالشك، وتدعو الناس إليه، وتعتبره فضيلة، حتى قال الجبَّائي: “أول واجب على المُكلَّف: الشك”!

وهنا يجب التفريق بين معنيين للشك:

  1. الشك كمذهب:

ينكر السفسطائية مصادر المعرفة: الحس، والخبر المتواتر، والعقل. وبالتالي يعتبرون الإنسان غير مؤهل للوصول إلى حقائق يقينية، وموقف البشر من كل قضية يجب أن يكون: الشك؛ أي لا نثبت ولا ننفي، فنحن لا نعلم، ولن نعلم!

وقد راج هذا المذهب مؤخرًا مع رواج الإلحاد، فهو يسعى لجعل العلوم كلها مائعة وسائلة، فلا يوجد يقين، وكل المعارف ظنية، والتاريخ أوهام، والأديان خرافات، والفلسفات تكهنات، والعلوم متغيرة، والأخلاق نسبية، والعقول متفاوتة، والبشر لا تعرف شيئًا، ولن تعرف شيئًا، ولا يوجد حقائق مطلقة، بل كل شيئ نسبي، والصواب عندك خطأ عند غيرك!

وهذه الحالة تنتهي إلى العبثية، وإنكار كل شيء، ويصبح كل شيء وعكسه مباحًا!

  1. الشك كمنهج:

أما الشك المنهجي فهو دعوة للتحرر من التقليد، وإعادة التفكير فيما ورثناه، بعرض أدلة الإثبات وأدلة النفي، ليبحث الإنسان كل جانب ورأي ومذهب في القضية دون انحياز مسبق، ليصل إلى الحقيقة اليقينية بنفسه.

إذن فالشك ليس هدفًا لذاته، فلا نسعى للشك، ولا نبقى في الشك، بل الهدف هو الخروج من التقليد والاتباع، والعودة إلى طريق البحث والنظر، للبحث عن الحقيقة اليقينية.

لذلك اتفق علماء الكلام على أن أول واجب على المكلَّف: البحث والنظر.

يقول طه حسين: “يُحبَّبُ إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبًا للبحث عن الجديد، لكن الله لم يرزقنا هذا النوع من الكسل؛ فنحن نؤثِر عليه تعب الشك ومشقة البحث”.

ويقول الغزالي: “الشكوك هى الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقى فى العمى والضلالة”(9).

ويقول النظَّام: “لم يكنْ يقينٌ قط حتى كان قبله شكّ، ولم ينتقل أحدٌ عن اعتقادٍ إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حال شك” (10).

 

المصادر: 
1. (التعريفات) ص128
2. (التفسير الكبير) ج18 ص368
3. (التفسير الكبير) ج7 ص35
4. (تفسير القرطبي) ج3 ص272
5. (تفسير المنار) ج3 ص46
6. (تفسير الألوسي) ج3 ص27
7. (صحيح البخاري) ج4 ص147 رقم (3372)
8. (تفسير المنار) ج3 ص46
9. (ميزان العمل) ص409
10. (الحيوان) ج6 ص335

 

 

إعلان

اترك تعليقا