المعادل الموضوعي في شعر أمل دنقل (1)

الجزء الأول: الرمزية التراثية

نبذة عن حياة أمل دنقل:

محمد أمل فهيم أبو القاسم محارب دنقل، الملقّب بـ”الجنوبي”. هو شاعرٌ مصريٌّ وُلِد بقرية القلعة، بمركز قفط بمحافظة قنا في صعيد مصر عام 1940م من أسرةٍ مثقّفة، فوالده كان عالماً من علماء الأزهر الشريف قبل أن يرحل مبكرًا ويترك أمل طفلًا لم يتجاوز العاشرة من عمره، لكنّه ترك له ميراثًا عظيمًا متمثّلًا في موهبة الشعر. فقد كان يكتب الشعر العمودي، وقد ورث عنه أمل هذه الموهبة، وترك له أيضًا مكتبةً ضخمةً، تضمُّ كتب الفقه والشريعة والتفسير، وذخائر التراث العربي؛ ممّا أثرى عقلية أمل دنقل ثراءً واضحًا، وساهم في ثقل موهبته الشعرية. سُميَ أمل بهذا الاسم لأنّه وُلِد بنفس السنة التي حصل فيها والده على الإجازة العالمية؛ فسمّاه أمل تيمنًا بالنجاح الذي حققه.

صُدرَت لأمل دنقل ستة دواوين شعريّة، كان آخرها ديوان “أوراق الغرفة 8″، وقد كتبه وهو طريح الفراش عام 1983، بالغرفة رقم ثمانية، بالمعهد القومي للأورام، قبل وفاته بفترةٍ وجيزة.
توفي أمل دنقل في 21 مايو عام 1983م بعد صراعٍ طويلٍ مع مرض السرطان، عن عمرٍ يناهز الثلاثة والأربعين عامًا.

مقدمة: 

لا ريب أنّ القيمة الرمزية في شعر أمل دنقل تجعله في مصاف شعراء العصر الحديث في استخدام هذه الأداة الأدبية الفعالة، فكانت تعبيرًا عمّا تأصَّل بوجدانه، وما جال بخاطره، وما فرضَه عليه ضميرُه، وما ارتأت له قناعاته. وقد تميز أمل بتكثيف معانيه من خلال استخدامه لهذا الأسلوب الشعريّ الذي أثرى به الأدب العربي في وقتٍ مرّت به الأمة العربية بأحداث جِسَام، متمثلةً في نكسة عام 1967م، ثم الشقّ الواسع التي أحدثته اتفاقية كامب ديفيد في نسيج الوحدة العربية -المهترئ- بعد حرب أكتوبر عام 1973م، فاستحوذت هذه الأحداث -التي تركت في وجدان أمل دنقل بالغَ الأثر- على إنتاجه الشعري الذي كان انعكاسًا لما أعتراه من شجون وآمال نتيجة لهذا الواقع السياسي والاجتماعي المضطرب.

نستطيع أن نصف بنية الخطاب الشعري العام لأمل دنقل بأنه كان مُسخَّرًا لخدمة قضايا وطنه، فموقفه الشعري متمحوِرٌ حول قضيتين أساسيتين، هما: علاقته المتوترة مع السلطة، وموقفه الرافض لأي مهادنة مع إسرائيل. وقد عبّر عن ذلك في أغلب دواوينه، كديوان “تعليق على ما حدث”؛ لذلك يصنَّف كأحد أقوى أصوات الرفض في المجتمع الثقافي العربي في هذه الحقبة. وقد استخدمَ أمل دنقل أدواتَه الرمزية بتمكنٍ شديد، حيث أتاحت له التعبير بدقّةٍ وجلاء عن أحاسيسه وانفعالاته، وجعلته يتفاعل مع تجربته ويعبر عنها مستوحيًا أشعاره من عدة مصادر، نستطيع أن نختصرَ أهمها هنا في ثلاثة مصادر، هي: التراث، والدين، والأسطورة. وسنتناول -بإيجازٍ- مظاهر استدعائه للتراث في هذا المقال، على أن نتناول استخدامه للتناص الديني والأسطورة “الميثولوجيا” في الجزء الثاني من المقال.

لكن في البداية أودُّ أن أنوِّه إلى أنني لستُ بصدد تقديم دراسةٍ أسلوبيةٍ أو نقدٍ أدبيٍّ لأعمال الشاعر، فأنا لست متخصصًا في الأدب بطبيعة الحال، ولكنني متذوقٌ له، وما أقدِّمه هنا هو مجرد عرض لفَهمي وانطباعي الشخصي عن استخدام الشاعر لهذه الأداة الأدبية التي تَمَيَّزَ بها وكانت أحد أسباب شغفي به.

إعلان

الرمزية التراثيّة

التراث التاريخي والشعبي في شعر أمل دنقل

يعدُّ التراثُ في شعر أمل دنقل ظاهرة أسلوبية لافتة، إن لم تكن أكثر الظواهر الأسلوبية في شعره بروزًا وانتشارًا، فهو يقف من التراث موقفًا حداثيًا تقدميًّا، لا رجعيًا باليًا، بحيث يوظّف إشاراته التاريخية تكثيفًا للمعنى وثراءً للمغزى، فيشكِّل لنا لوحةً متجانسةً يمتزج فيها الحاضر بالماضي في استبصارٍ واعٍ ودقيق. فنراه في قصيدة “لا تصالح” التي نظّمها عام 1976م رفضًا منه لقبول الرئيس الراحل أنور السادات للسلام مع إسرائيل -يقول:

لا تصالح
ولو توَّجوك بتاجِ الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ؟
وكيف تصير المليكَ
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك
فلا تبصر الدم في كل كف؟
إنَّ سهمًا أتاني من الخلف،
سوف يجيئك من ألف خلف!

هنا يقدّم لنا الشاعر صورةً رمزيةً تاريخية، حيث يُلقي القصيدة على لسان كليب بن ربيعة وهو سيد بني تغلب من قبيلة معد، وهي إحدى قبائل شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام بحوالي قرن ونصف. كليب الذي أدى مقتله إلى نشوب واحدة من أطول حروب العرب وأكثرها ضراوةً في العصر الجاهلي وهي “حرب البسوس”، والتي دارت بين قبيلة تغلب وقبيلة بكر. ويُروى عنها أن كليب أصيب بسهمٍ غادرٍ من غريم له يسمى “جساس” بعد قتل كليب لناقةٍ كانت لجيران خالة جساس، والتي كانت تسمى “البسوس”، فغضب جساس لغضب خالته البسوس، وقام بقتل كليب بعد حوارٍ مقتضب بينهما، لكن قبل وفاته، خطَّ كليب بدمهِ على صخرةٍ وهو يحتضر وصايا من عدة أبيات إلى أخيه المهلهل عدي بن ربيعة، الشهير بـ”الزير سالم”، يطالبه فيها بالثأر. وكان ما كان من حربٍ استمرّت بضع وعشرين عامًا على أقل تقدير، وبضع وأربعين عامًا على أقصى تقدير.

يقول أمل دنقل في قصيدته أيضًا:

لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.

ويقول:

سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع
قليلًا من الحق..
في هذه السنوات القليلة.

ويظهر في هذه الأبيات بوضوح إشارة الشاعر إلى قضية السلام ونقد مسوغات الداعين له، فيرفض تبرير السلام بحجة عدم قدرة الاقتصاد المصري على تحمل أعباء الحرب. ويرفض أيضًا الدعوات القائلة بالحصول على جزء من الأرض المحتلة مؤقتًا، وانتزاع البقية مستقبلًا، وهي النظرية التي تبناها السادات حينها.

وبالانتقال إلى قصيدة “الأرض والجرح الذي لا ينفتح”، نجده يقول في حديثه عن الأرض:

لا النيل يغسل عارها القاسي..
و لا ماء الفرات!
حتّى لزوجة نهرها الدموي،
والأموي يقعى في طريق النبع.
دون الماء رأسك يا حسين!

وهنا يربط الشاعر بين موقف الحسين بن علي ضد الأمويين بقيمة رمزية نضالية، باعتباره صاحب الحق في الخلافة. وقد أفرد الشاعر لهذه القضية مساحةً واسعةً في أشعارِه في أكثر من موضع، فنجده يقول في قصيدة “من أوراق أبو نواس”:

كنت في كربلاء
عندما قال لي الشيخ: أن الحسين
ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءْ!
و تساءلت كيف السيوف استباحت بني الأكرمين!

ويتضح من هذه الأبيات تأثُّر الشاعرُ بالقضايا التراثية بحكم إطّلاعه على التاريخ العربي من أمهات الكتب التراثية، وهذا ما أكدته زوجته عبلة الرويني، حيث تقول: “إنه قرأ العديد من كتب التراث، والملامح، والسير الشعبية، ثم أعاد قراءتها مرات عديدة، وفي طبعاتها المختلفة. يحرّكه حسٌّ تاريخيّ لاكتشاف الطبقات المتراكمة وراء الحكايات والمعلومات”.
ومن أشعاره حول هذه القضية نستطيع أن نلاحظ بأنه قد تفاعل معها، وانحاز إلى إحدى وجهتي النظر في الصراع الذي نشب بين الأمويين و”العلويين”. ليس هذا فحسب، بل تجاوز القضايا السياسية، ليشير إلى القضايا الفكرية أيضًا، فنجده يقول في نفس القصيدة “من أوراق أبو نواس”:

لا تسألْني إن كانَ القُرآنْ
مخلوقاً أو أزَليّ،
بل سَلْني إن كان السُّلطانْ
لِصّاً أو نصفَ نبيّ!

وهنا يتناول النقاش اللاهوتي والقضية الفكرية الشهيرة والمعروفة في أدبيات الفلسفة الإسلامية وفي كتب التراث باسم “المحنة” أو “فتنة خلق القرآن” منتقدًا التمسُّك بمثل هذه التفاصيل الفرعية، بينما نتغافل عن القضايا الجوهرية التي تمسُّ عصب الأزمة التاريخية للأمة، فيقارنها بالموقف المتخاذل من الحاكم في مراقبته ومحاسبته على أفعاله. وهذا يعيدنا إلى نزعته وموقفه المعارض للسلطة.

وفي رائعته “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” التي نظّمها أمل بعد أيام قليلة من نكسة سنة 1967م، والتي تعبِّر تعبيرًا عميقًا وصادقًا عمّا جال في نفسه من أحزانٍ في هذه الفترة، نراه يوظف الشخصيات التراثية كزرقاء اليمامة وعنترة بن شداد في انتقاد الأوضاع السياسي التي رافقت النكسة، فألقى القصيدة على لسان عنترة تمثيلًا لدور المقاتل المكتوي بنيران الهزيمة والخذلان.

فيقول على لسان عنترة:

أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان،
أدعى إلى الموت.. ولم أدع الى المجالسة!

هنا نستطيع القول بأن الشاعر أراد أن يتّخذ من عنترة بن شداد معادلًا موضوعيًا للجندي المصري المهمش اجتماعيًا، الذي يعاني من الحرمان، لكنه وقت الحرب يكون في الصفوف الأولى، ويكون أول من يدفع ثمن الهزيمة.

وبالعودة إلى شخصية زرقاء اليمامة، فقصتها قد لا يتسع المقام هنا لذكرها، لكن نستطيع أن نختصر القول فيها على أنها امرأةٌ نجدية من قبيلة جديس من أهل اليمامة، تميزت واشتهرت بحدةِ بصرٍ لا مثيل لها، فيقال أنها كانت تُبصر الشَعرةَ البيضاء في اللبن، وترى الشخص من على مسيرة يوم وليلة، وسميت بزرقاء اليمامة لزرقة عينيها.

يقول عنها  أبو الفرج الإصفهاني في كتابه الشهير “الأغاني”:إنّ قومًا من العرب غزوا اليمامة -موطنها-، فلما اقتربوا من مسافة نظرها خشوا أن تكتشف الزرقاء أمرهم، فاجتمع رأيهم على أن يقتلعوا شجرات، تستر كل شجرة منها الفارس إذا حملها. فأشرفت الزرقاء كما كانت تفعل، فقال قومها: “ما ترين يا زرقاء؟” فقالت: “أرى شجرًا يسير!”، فقالوا: “كذبت أو كذّبتك عينك”، واستهانوا بقولها. فلما أصبحوا، صبّحهم القوم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأخذوا الزرقاء فقلعوا عينيها، وماتت بعد أيام“.

وفي القصيدة نجد أمل دنقل يتناص مع هذا السرد، فيقول:

أيتها العَّرافة المقدسة،
ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار!
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار،
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار!
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف: قايضوا بنا..
والتمسوا النجاةَ والفرار!

نرى بوضوح أن الشاعر يتخذ من زرقاء اليمامة رمزًا لمن تنبَّه لخطر الهزيمة قبل وقوعها، في إشارة لتيار المعارضة المصري قبل النكسة. ويرى بعض النقاد والمفكرين كالدكتور لويس عوض أن أمل دنقل قصد مصر نفسها باستدعاءه شخصية زرقاء اليمامة، وربما كان يقصد بذلك تمثيلها في الكتّاب والمثقفين الذين حذّروا من وقوع الكارثة قبل حدوثها، فكان جزاؤهم السجنَ والتنكيل.

إن توظيف أمل دنقل للتراث لم يعتمد على التراث العربي فحسب، بل تجاوزه للتراث الغربي أيضًا، فنجد في قصيدته “كلمات سبارتاكوس الأخيرة” وكما يتضح من عنوان القصيدة فهو يُلقيها على لسان “سبارتاكوس“، وهو مصارعٌ كان أحد قادة ثورة العبيد في حرب الرقيق الثالثة، وهي إحدى كبرى الانتفاضات التي قام بها رقيق الامبراطورية الرومانية، وذلك قبل نيفٍ وسبعين عامًا من الميلاد، وسارت سيرته مضرب الأمثال في الشجاعة والنضال، وتم عرضها في العديد من الأعمال السينمائية والفنية والأدبية.

فيقول أمل في مطلع قصيدته على لسان سبارتاكوس:

المجد للشيطان معبود الرياح
من قال “لا” في وَجْه مَن قالوا “نعمْ”
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
من قال “لا” فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ


لم يقصد الشاعر بمطلع هذه القصيدة تحطيم تابوهٍ أو إعلان موقفٍ مناصرٍ للشيطان في عصيانه لله كما يتخيل البعض، لكن بالنظر إلى سياق القصيدة يتضح أنه أراد أن يمجد رمزية الرفض على لسان سبارتاكوس ممثل العبيد المضطهدين في بلاط القيصر.
فنجده يقول في موضع آخر من القصيدة مخاطبًا القيصر:

يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ.. إني أعترِفْ
دعني -على مِشنقتي- ألْثُمُ يَدَكْ
ها أنا ذا أقبِّل الحبلَ الذي في عُنقي يلتفُّ
فهو يداكَ، وهو مجدُك الذي يجِبرُنا أن نعبُدَكْ.

هنا يتضح أن الشاعر أراد أن يرفع معارضة قيصر المتغطرس إلى مستوى العصيان الإلهي، فالقيصر يرى نفسه إلهًا على الأرض يتحكم في مصائر العبيد، هنا كان لزامًا على سبارتاكوس إعلانه للعصيان والتمرد حتى إذا قاده ذلك العصيان إلى حبل المشنقة.

لنا تكملة مع الجزء الثاني من المقال، وسنتحدث فيه بمشيئة الله عن توظيف التناص والميثولوجيا في شعر أمل دنقل.

نرشح لك: أمل دنقل.. الجنوبي بين زرقاء اليمامة والعهد الآتي

إعلان

مصدر أدوات البناء الفني في شعر أمل دنقل
فريق الإعداد

إعداد: ٍسيد محمد

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا