الفلسفة الوضعية (مترجم)

 الوضعية: هي مجموعة من وجهات النَّظر الفلسفية، التي تتمحور حول تفضيل العُلُوم والمنهج العِلْميّ تبعًا لذلك.

إنَّ الفِكْر الوضعيّ يحتوي على دور، فإنَّ معظم الرؤى الوضعيَّة، تُفهَم بأنَّها تعترف بوجود منهجٍ عِلْميٍّ محدَّد، ويتَّسِم بكَوْنه وحدويًّا ووضعيًّا(¹).

ومما تقدَّم يمكن القول بوجود ثلاثة ادِّعاءات إلى الفلسفة الوضعية وهي: أولًا وجود منهجٍ علميٍّ، وثانيًا أن هذا المنهج هو منهج واضح، وثالثًا أنَّه المنهج الوحيد  الصحيح. وفيما بعد اتَّضحت عيوب هذا المنهج، ألا وهي تحيُّزه وكَوْنه موضع خلاف بين الفلاسفة.

وبالرَّغم من هذه العيوب، فإنَّ المدرسة الوضعيَّة أصبحت حركة فلسفيَّة مهمة في العَالَم الغَرْبيّ في نهاية القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين.

سَعَت الوضعيَّة لتطبيق المنهج الوضعيّ في الفلسفة، لكي  تصبح الفلسفة عِلْميَّة، ولإقصاء العناصر الميتافيزيقيَّة من الفلسفة.

إعلان

يقول الفيلسوف《أبانيانو-Abbagnano》 عن المدرسة الوضعية:

“إنَّ ما يُميِّز نظرية المدرسة الوضعيَّة هو الإقرار بأن المعرفة الحقيقيَّة الوحيدة هي المعرفة العِلْميَّة، وبكِوْن الواقع هو مادة المعرفة الوحيدة. وبأنَّ الفلسفة لا تملك منهجًا يختلف عن المنهج العِلْميّ، وهدف الأخيرة هو إيجاد مبادئ عامة لكل العُلُوم من أجل استخدامها لإرشاد السلوك الإنسانيّ، ولتكون أساس البُنْيَان الاجتماعيّ. وتُنْكِر المدرسة الوضعيَّة تبعًا لذلك وجود أو معقوليَّة وجود قوى أو جواهر خارج حدود الواقع والقوانين الطبيعيَّة التي أثبتتها العُلُوم.

وبذلك تقف الوضعيَّة موقفًا مُعَارضًا تجاه أي نوعٍ من الميتافيزيقا، أو أيّ منهجٍ بحثيٍّ لا يمكن أن يُختَزل ليكون في نطاق المنهج العِلْميّ” ¹. Abbagnano, “Positivism,”) 414).

كبار فلاسفة المدرسة الوضعيَّة

تمتد جذور المدرسة الوضعيَّة لأعمال الفيلسوف البريطانيّ 《فرانسيس بيكون-Francis Bacon، والفلاسفة التجريبيين البريطانيين أمثال《جون لوك-john locke》،و 《وبركلي-Barkley》،و《ديفيد هيوم-David Hume》بشكلٍ خاص.

وقد تبنَّى النفعيّون البريطانيون《جريمي بنثام-Jeremy Bentham》و《جون ستيوارت مل-John Stuart Mill》 هذه الفلسفة.

أما بالنسبة إلى الخلفيَّة الثقافيَّة للمدرسة الوضعية فهي الثورة الصناعية وما رافقها من نزعةٍ تفاؤليَّة، وكان مضمون هذه النزعة هي أنَّ العُلُوم والتكنولوجيا ستُحقِّق التقدُّم الاجتماعيّ. وما يُعَدّ أيضًا من ضمن خلفيَّتها الثقافيَّة هو أنها أعدَّت العُلُوم أساسًا أو مصدرًا للمعرفة الحقيقيَّة.

 ويعود أصل مصطلحي الوضعيَّة والمنهج الوضعيّ للفيلسوف الفرنسيّ《الكونت كلود هنري دي سان سيمون- Henri de Saint-Simon》 (1825- 1760)، واستخدمهما للإشارة إلى الرؤية العِلْميَّة للعَالَم.  تمتد هذه الرؤية إلى المجالات السياسيَّة، والدِّينيَّة، والتعليميَّة، والاجتماعيَّة. وكان هدفه هو القيام بإصلاحات في هذه المجالات.

وفيما بعد أضفى طالب ومساعد  سيمون الفيلسوف《أوغست كونت-Auguste Comte》 (1789-1858) الطابع المنهجيّ على مصطلحي الوضعيَّة والفلسفة الوضعية ورأى كونت أن المجتمعات تتقدَّم بدايةً من المرحلة اللاهُوتيَّة، ثُمَّ الميتافيزيقيَّة، وأخيرًا المرحلة العِلْميَّة، إذ يسود كلٌ من الرؤية والنهج العلميَّان. ويُعَدّ العديدون كونت بأنَّه أوَّل عَالِمٍ اجتماع حقيقيٍّ.

وكان كلٌ من الفيلسوف والنَّاقد الفرنسيّ 《أيبوليت تين-Hippolyte Taine》، والفيلسوف وعَالِم اللُّغة《أميلي ليتري-Émile Littré》”الناطقان باسم الوضعيَّة الكونتيَّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر” ². Reese,) “Positivism,” 596).

وفي الأرجنتين طبَّق الفيلسوف الأرجنتينيّ《إليخاندرو كورن-Alejandro Korn》 (1860-1936)  الوضعيَّة في الأرجنتين، ورأى بأنَّ تجربة بلاده في فترة ما بعد الاستقلال ستتمثَّل في الوضعيَّة الأرجنتينيَّة.

وفيما بعد كان الشعار الوطنيّ البرازيليّ Ordem e》 Progresso -النظام والتقدُّم》اسْتُوحِيّ من وضعيَّة كونت، وكان لوضعيَّة كونت أثرًا في بولندا كذلك.

كذلك فإن الوضعيَّة أكثر المراحل تقدُّمًا للمجتمعات، وذلك حسب الأنثربولوجيا التطوُّريَّة، التي لم يَعُدّ لها وجود الآن. فهي المرحلة التي يتطوَّر فيها التَّفسير العلميّ والعقلانيّ للظواهر العلميَّة.

وكان أكثر الوضعيين تأثيرًا في أواخر القرن التاسع عشر هو 《إرنست ماخ-Ernst Mach》، إذ أثَّر في كلٍ من جمعيَّة تجريبي فيينا والوضعيَّة المنطقيَّة. وأن التطوُّر المُؤثِّر في المدرسة الوضعية الذي أثَّرَ في الفلسفة الغربيَّة كان من قِبَل تجريبي فيينا《والمنطقيين الوضعيين-Logical Positivists》، ( ويعرفون أيضًا باسم 《المنطقيين التجريبيين-Logical Positivism》

ويشير اليوم مصطلح الوضعيَّة إلى الوضعيَّة المنطقيَّة، أو أي عملٍ تحليليٍّ وضعيٍّ نَتَجَ عن تجريبي فيينا أو الوضعيَّة المنطقيَّة.

الوضعيَّة في خمسينيَّات القرن الماضي

أصبحت رؤى تجريبي فيينا وفلاسفة الوضعيَّة المنطقيَّة مُهَيْمِنَة في أمريكا ومعظم العَالَم الغربيّ خلال الخمسينيَّات، واكتسبت شعبيَّتها من خلال كتاب 《آلفريد أير-A.J. Ayer》الذي كان من بين الكُتُب الأكثر قراءة، وعُنْوَانه《اللغة، المنطق، والحقيقة-book, Language, Truth , and Logic》.

كما طوَّر العديد من الفلاسفة الفلسفة الوضعية فيما بعد، ومن بينهم 《هامبل-Hempel》《وكارناب-Carnap》، لتصبح ما يعرف لدى نقادها باسم《الرأي المُتلقى -received view》، وقدَّمَ هذا المصطلح الفيلسوف《هيلاري بوتنام-Hilary Putnam》.

وقد وضَّح الفيلسوف《 آيان هاكينج -ian hacking》 خصائصها الجديدة الرئيسة وهي:

1. ليست العُلُوم إلَّا عبارات إنتاجيَّة، ولغُويَّة، وعدديَّة.

2. الاهتمام بالبديهيَّات، مع بيان بنيانها المنطقيّ، ومدى تلاحم هذه البيانات.

3. التشديد على كَوْن بعض هذه العبارات قابلة للاختبار، أي قابلة للتحقُّق منها، توثيقها، أو تكذيبها. بواسطة الدراسة التجريبيَّة للواقع.

4. وجود عبارات تُعَدّ بحكم طبيعتها غير قابلةٍ للاختبار كما هو الحال في العبارات الثيولوجيَّة، وبهذا تنكر الوضعيَّة الميتافيزيقا التقليديَّة.

5. الاعتقاد بأنَّ العُلُوم هي لدرجةٍ كبيرة خبرة تراكميَّة.

6. الاعتقاد بكَوْن العُلُوم عابرة للثقافات.

7. الاعتقاد بأنَّ العُلُوم مستقِّلة عن شخصيَّة ومركز الباحث الاجتماعيّ.

9. الاعتقاد بأنَّ للعُلُوم تقاليد نظريَّة وبحثيَّة، 《يمكن قياسها -commensurable》.

9. الاعتقاد بأنَّ العُلُوم قد تحتوي على أفكارٍ جديدة ربَّما تكون مستقِّلةً عن القديمة.

10. الاعتقاد بتضمُّن العُلُوم لفِكْرة «وحدة العلوم-the unity of science»، وذلك على الرَّغم من تعدُّد فروع العُلُوم، فإنه توجد حقيقة علميَّة واحدة عن عَالَمٍ حقيقيٍّ واحد.

وقد تعرَّضت هذه الادِّعاءات أو الاعتقادات لانتقادٍ حاد أو وُضِعَت موضع تساؤل، وذلك في نهاية القرن العشرين.

وأما اليوم تُعَدّ وجهات النَّظر السابقة واهية لدرجة أنَّها باتت تحتاج إلى تحفُّظات وتفسيرات عديدة.

وكما وُصِفَت الوضعيَّة بأنَّها “وجهة النَّظر القائلة بإن كل المعرفة الحقيقيَّة هي المعرفة العلميَّة”،(Bullock & Trombley) وأنَّ كل الأشياء يمكن قياسها. ولكَوْن الوضعيَّة ذات صلةٍ قوية 《بالاختزاليَّة-reductionism》، كلاهما يتضمَّنان رأيًا مشتركًا، وهو “الوحدة من نوعٍ معين. يمكن اختزالها لوحدةٍ من نوعٍ آخر”.(ibid) على سبيل المثال، يُمكن اختزال المجتمعات إلى أرقام، والعمليَّات العقليَّة إلى عمليَّاتٍ كيميائيَّة، (ibid) وحتى العمليَّات الاجتماعيَّة يمُكن اختزالها إلى عَلاقاتٍ وأحداثٍ بين الأفراد.(ibid)

ولهذا السبب عارض العديد من المُفكِّرين الاجتماعيين والبيئيين، وعلماء التاريخ والبيئة، والفلاسفة، والنِّسْويَّات البيئيَّات، الذين يُعَارِضون العُلُوم جزئيًّا،  فِكْرة أن تتخذ العُلُوم نهجًا سهلًا غير متلائمٍ مع تطبيقاتٍ اجتماعيَّة أكثر تعقيدًا. وباتخاذهم موقفًا كهذا، فقد اتخذوا موقفًا مُعَارِضًا للعُلُوم.

رَفْض ونَقْد الوضعيَّة

أما اليوم، فقد انتهت الفلسفة الوضعية بين الفلاسفة، أو على الأقل انتهت كحركةٍ أو موقفٍ فلسفيٍّ. ولكنها ما زالت حيَّةً بين العلماء ومن هم ليسوا على درايةٍ أو عِلْمٍ بما حَلَّ بالفلسفة التقنيَّة منذ عام 1950. وقد وقع مَوْت الوضعيَّة لأسبابٍ عديدة، منها على سبيل المثال، أنَّ أيَّ من المبادئ التي أكَّدتها الوضعيَّة لم يَصمُد في مواجهة النَّقد. وبسبب عدم وجود منهجٍ علميٍّ محدَّد، وعلى الأرجح لا يوجد منهجٌ علميٌّ محدَّد صارم على الإطلاق. وأضِفْ إلى ذلك، أنَّ فِكْرة وحدة العُلُوم قد تعرَّضت لنقدٍ شديد.

ولا يعني هلاك الوضعيَّة أنَّ كل شيءٍ يمكن أن يُعَدّ علمًا، أو يدخل ضمن نطاق المعرفة البشريَّة أو الاستقصاء، وذلك على العكس من ادِّعاءات 《فيربيند- Feyerabend》، ولا يعني اندثار التمييز بين العُلُوم الحقيقيَّة《والعلوم المزيفة- pseudoscience》، وإنما  يعني عدم وجود أساسٍ فلسفيٍّ، علميٍّ منطقيٍّ دقيق لبناء خطٍ فاصل كهذا.

وأخيرًا، قد أوضح الكثيرون عدم إمكانية إقصاء الميتافيزيقا من العُلُوم- مثل 《كارل بوبر-Karl Popper》 وغيرهم.


مصدر الترجمة: 

https://www.newworldencyclopedia.org/entry/Positivism_(philosophy)


المصادر:

1. Abbagnano, Nicola, trans. by Nino Langiulli. “Positivism,” pp. 414-419 in The Encyclopedia of Philosophy. Paul Edwards, ed., Vol. 6. MacMillan Publishing Company, 1973. ISBN 978-0028949505.

2. Reese, William. “Positivism,” pp. 596, 597 in Dictionary of Philosophy and Religion: Eastern and Western Thought. Prometheus Books, 1996. ISBN 978-1573926218

• Bell, Wendell. Foundations of Futures Studies: Human Science for a New Era: History, Purposes, Knowledge. New Brunswick, NJ: Transaction Publishers, 2003. ISBN 978-0765805393

• Bullock, Alan, Stephen Trombley, and Oliver Stallybrass. The Fontana Dictionary of Modern Thought. Fontana Press, 2000. ISBN 978-0006863830

• Hacking, Ian. Scientific Revolutions. New York: Oxford Univ. Press, 1981. ISBN 978-0198750512

• Suppe, Frederick (1977). The Structure of Scientific Theories. University of Illinois Press, 1977. ISBN 978-0252006555


(ملاحظة المترجم: ساهم بتدقيق الترجمة، حيدر رسول)

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

تدقيق علمي: هبة الله الجماع

اترك تعليقا