موت الإنسان في العلوم الإنسانية والإجتماعية/ لـ سمير بلكفيف

إنَّ الحديث عن العلوم الإنسانية والإجتماعية هو حديث عن الإنسان في حدّ ذاته فردا أو جماعة، ومن ثمة سيكون البحث في تلك الظواهر بما هي فردية أو إجتماعية هو بحث في الإنسان أو بحث عن الإنسان في الإنسان، هذا الذي قال عنه “أبو حيان التوحيدي” ( 922-1023م) “الإنسان الذي أشكل عليه الإنسان”، وقد جعله “كانط” محور فلسفته النقدية حينما ختم به أسئلته الفلسفية الكبرى، والتي بدأت ابستيمولوجيًا وانتهت أنثربولوجيًا، أي من سؤال: ماذا يمكني أن أعرف؟ إلى سؤال: ماهو الإنسان؟

غير أنَّ جدلية الحضور والغياب وفق عبارات فيلسوف التفكيك “جاك دريدا” (2004-1930) حالت دون تقديم صورة عن الإنسان في ميدان الدراسات الإنسانية الإجتماعية، فالإنسان الحاضر كظاهرة هو الغائب أيضا كجوهر وحقيقة، ومن ثمة يبدو أن العلوم الإنسانية والإجتماعية تشتغل في حضور ظاهرة الإنسان وفي غيابه ككينونة، وهذا ما يعدُّ إخفاقا ابستيمولوجيًا يستوجب انخراط التصوُّر الانطولوجي للإنسان في الدراسات الإجتماعية والإنسانية، محملا بثقل فلسفي لوجود الإنسان وكينونته، لقد أعلن “نيتشه”(1900-1844) موت الإله على يد الإنسان، وهاهو ذا “ميشال فوكو”(1984-1926) بعده بقرن يعلن موت الإنسان في ميدان الدراسات الإنسانية والإجتماعية على يد مقصلة العلم، “إنَّ العلم لا يفكِّر” مثلما يقول “هيدغر” (1976-1889)، حينئذ سيكون لزامًا على الفلسفة انتشال الإنسان.

يمكننا أن نعيد الاعتبار لمقولة الإنسان في صميم الدراسات الإنسانية والإجتماعية انطلاقًا من رؤى فلسفية متعددة، أهمها الفينومينولوجيا بماهي مقاربة مزدوجة بين الذات والموضوع وإحالة قصدية مستدامة بينهما، فالباحث أو العالم الإنسان – سيتجه إلى الظواهر الإنسانية والإجتماعية محمّلًا بثقل الفهم الإنساني اكثر منه دلالة التفسير العلمي الصارم، إذ سيحاول تفهُّم الظاهرة وتعقُّبها لا تفسيرها وتثبيتها، يبدو إذا أنه من الضروري للعلوم الإنسانية والإجتماعية أن تتسلح بأسلحة النقد والتأويل والتفكيك والفينومينولوجيا بما هي مناهج فلسفية، حينئذ ستصبح مقاربة الظواهر تأخذ طابع الفهم لا التفسير، فقد أكَّد “غدمير”(1900-2002) في كتابه “الحقيقة والمنهج” على ضرورةِ فكِّ الارتباط بين مقولتي الحقيقة والمنهج، وأنَّ حرف “الواو” يحمل من دلالة الفصل أكثر منها الوصل.

من هذا المنطلق، نهدف من خلال عبارة -وفي أصلها فوكوية – “موت الإنسان في العلوم الإنسانية والإجتماعية ” إلى نقيض عنوانها تماما، وهو “إحياء الإنسان في الدراسات الإنسانية والإجتماعية”، وبيان أهمية ذلك الحضور القصدي لمقولة “الإنسان” في دائرة الدراسات الإنسانية والإجتماعية، حتى تتمكن من مجاوزة أزمتها الابستيمولوجية بماهي أزمة موت الإنسان.

إنَّ الهدف أيضًا هو إبراز الدور الذي يختفي في السؤال عن العلوم الإنسانية والإجتماعية ، إنَّنا لا نعثر على الإنسان إلَّا وهو متعيّن انطلاقًا من ماهية الظواهر الإنسانية والإجتماعية ، وإنَّنا من ثمة لا نعثر على ماهية الإنسان إلَّا انطلاقًا من ماهية تلك الظواهر، والسؤال عن الماهية رهان فلسفي، إنَّنا نوجد ههنا ضمن منطقة حركة الدور، هذا الدور ليس حاجز يمكن إزالته، بل هو نمط من الدوار الأصيل يميِّز فينومينولوجيّا العلوم الإنسانية والإجتماعية ، رب دوار لا مخرج منه إلَّا بقدر ما أفلح في العثور على الوضع الصحيح للأسئلة اللاحقة.

إعلان

وهو ما يمكن أن نستجمعه في ضرورة الانتقال من العلوم الإنسانية والإجتماعية إلى علوم الإنسان والمجتمع، وهو انتقال من سؤال: ماهي العلوم الإنسانية والإجتماعية ؟ إلى سؤال: أين هي العلوم الإنسانية والإجتماعية؟، ولكن بأيِّ وجه قد يتسنى لنا الاستغناء عن سؤال “ما هي… ؟” نحو سؤال “أين هي…؟”، وإلى أيِّ مدى يمكننا أن نتفلسف دون لا تعيّن ماهوي للمفكر فيه؟ كيف يمكننا إعادة ترتيب علاقة الإنسان -الباحث- بالإنسان -الظاهرة- ؟، وكيف يمكن ترميم الهوة العميقة بينهما والتي أرستها ايديولوجيا التفسير؟، هل هو ترميم على مستوى الموضوع أم المنهج أم الغاية؟ أم على كل المستويات؟، حينئذ نتسائل كيف يمكن ربط الفلسفة بـ العلوم الإنسانية والإجتماعية ؟، أو ما حاجة تلك العلوم للفلسفة اليوم؟.

إعلان

اترك تعليقا