الطريق إلى حريق القاهرة

طريقًا شائكًا تسارعت فيه الأحداث وتدافعت، تشابكت عليه المواقف وتعارضت وتناطحت، فكَثُرت أعداد القتلى والجرحى حتى لحظة اشتعال العاصمة المصرية اعتراضًا على سياسات المستعمر ومعاونيه، فاحترقت القاهرة في لحظةٍ فاصلةٍ من تاريخ الأمة المصرية.. لحظةٍ غيّرت مسار البشر، ابتعادًا عن الهيمنة الاستعمارية لقوى الغرب المنصبّة على البلاد المستضعفة منذ القرن التاسع عشر، في محاولة للاقتراب من استكمال كامل تحرّر الأوطان واستقلالها، مع تطلّعها للألفية الثالثة ووعود الحداثة والتنمية… فكيف كان الطريق إلى حريق القاهرة هذا؟!

الطريق إلى حريق القاهرة

مع أحداث حرب فلسطين والنكبة التي أصابت الأمة العربية بزرع إسرائل في قلبها عام 1947-48، والخسائر المهينة لتلك الحرب، واشتعال السخط الشعبيّ في مصر، واهتزاز الحكومات وكرسيّ العرش أمام استجوابات برلمانية حول نتائج الحرب واتهامات صفقات الأسلحة الفاسدة، عاد حزبُ الوفد الأوسعُ شعبيةً في ذلك الوقت إلى الحُكم في عام 1950، مُشكّلًا حكومةً قوية، أخذت على عاتقها قضية إنهاء الاحتلال البريطانيّ لمصر والسودان. وكان جَناحَا مصطفى النحاس، رئيس الوزراء، هما فؤاد سراج الدين في وزارة الداخلية، ومحمد صلاح الدين في وزارة الخارجية.

تمّ تكليف صلاح الدين بمعاودة التفاوض مع إنجلترا لإنهاء الاحتلال عن طريق اختصار المدة المتبقية من معاهدة 1936 المتفق على انتهاءها في 1956 (والتي امتدّت لـ20 سنة)، ذلك لفقدان الثقة في أنّ إنجلترا ستُنهي المعاهدةَ بالجلاء عن مصر والسودان. فبدأت المفاوضات المكَوكية لصلاح الدين فيما سُمّي بمفاوضات “صلاح الدين – بيفين”، (وكانت قد سُمّيت في الماضي “صدقي – بيفين” عندما كانت حكومة إسماعيل صدقي بعد الحرب العالمية قد بدأت ذات المفاوضات وفقًا لرؤيةٍ بريطانية). أما “بيفين” فكان وزير خارجية حكومة حزب العمال في إنجلترا.

مع التعثّر المتوقّع لتلك المفاوضات، أَعَدّ صلاح الدين خطةً سريّةً بديلة لإلغاء المعاهدة من طرف واحد، دون الحاجة للحصول على الموافقة البريطانية، فكلّف مجموعةً قانونيةً بإعداد مراسيم الإلغاء، وكان الدكتور وحيد رأفت، الفقيه الدستوري، يرأس تلك المجموعة، بمعاونة الدكتور مصطفى الحفناوي الذي كان ينادي منذ توقيع المعاهدة في 36 بإلغائها من جانب واحد. وانتهت المجموعة فعلًا من الإعداد القانونيّ لكلّ المواثيق في نهاية سبتمبر 1951، وقت كانت مفاوضات صلاح الدين – بيفين قد تعثّرت فعلًا وتوقّفت.

في يوم 8 أكتوبر 1951 أعلن رئيس الحكومة إلغاء المعاهدة وأحالها للبرلمان للاعتماد. وتمّ ذلك فعلًا يوم 16 أكتوبر. وتمّت إضافة إعلان تنصيب الملك فاروق مَلِكًا على مصر والسودان. وهاجت البلاد فَرَحًا بهذا الإعلان (ولقد كان إعلان الوفد إلغاءَ المعاهدة شبيهًا، في عديدٍ من الأوجه، بأحداث الإعلان عن تأميم قناة السويس، سواء في تفاصيل الأعداد أو في ردّ فعل الجانب البريطانيّ، أو الردّ الفعل الشعبي).

إعلان

تسارُع الأحداث

تسارعت الأحداث في الأيام التالية، ونلخّصها للتوضيح فيما يلي:

• 12 أكتوبر: نقل العائلات البريطانية المقيمة بمدن القنال إلى داخل معسكرات القوات البريطانية، وعلى سبيل المثال انتقلت 300 أسرة من داخل الإسماعيلية للإقامة داخل خيام “المعسكر”. في نفس اليوم أعلنت الحكومة المصرية أنه اعتبارًا من يوم تصديق البرلمان على المعاهدة سيتمّ اعتبار أيّ فرد عسكريّ بريطانيّ في منطقة القناة عدوًّا، كما سيتمّ وقف امداد القوّات العسكرية البريطانية بأيّ مواد غذائية أو مياه، ومنع المصريين من التعامل معهم. كذلك، سيتمّ إلغاء كلّ المزايا القانونية لأفراد القوات البريطانية، مثل ميزة الإعفاء من تأشيرات الدخول والإقامة بمصر.

• 16 أكتوبر: رفضت الحكومة المصرية اقتراحًا موقّعًا من أربع دول هي بريطاني، فرنسا، تركيا والولايات المتحدة بإنشاء قوة متعدّدة الجنسيات من تلك الدول لحماية الشرق الأوسط وتتمركز بمنطقة القناة بدلًا من القوّات البريطانية.
• 17 أكتوبر: فور تصديق الملك على قرار إلغاء المعاهدة، اندلعت المظاهرات المؤيدة للنحاس والمندّدة بإنجلترا، وحدثت عدة اشتباكات في كلٍّ من القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد فكانت نتائجها مقتل 6 مصريين منهم فرد شرطة ومقتل بريطانيين.

• 18 أكتوبر: قام الإنجليز بإرسال قوة من 90 جنديّ لاحتلال كوبري الفردان الذي كان مؤمّنًا من الجانب المصريّ بعدد 24 شرطيّ. وقام الإنجليز بإطلاق النيران على الشرطة لطرد أفرادها فقتلت وأصابت معظمهم حتى استسلموا. وقد أعلن قائد القوات البريطانية احتلال جميع المرافق بمدن القناة مثل محطّات السّكك الحديدية، مصالح التليفونات، ومحطات المياه… فاندلعت مظاهرات الطلبة بجامعتي القاهرة والإسكندرية، والنتيجة: 10 قتلى و89 مصاب.

• 19 أكتوبر: إنجلترا ترسل قوات إضافية قادمة من قبرص إلى منطقة القناة. بالإضافة إلى 3500 جنديّ وضابط، تمّ إرسال الفرقة رقم 16 مظلات. كلمات وزير الخارجية البريطانيّ سير موريسون، الذي يدعو فيها لتهدئة الأوضاع في مصر، وتُضعِف موقف حزب العمال أمام هجمات تشرشل استعدادًا للحملة الانتخابية في إنجلترا. رسالة جديدة موجهة للحكومة المصرية تفيد بتولّي القوات البريطانية مسئولية الدفاع عن المدنيين بمدن القناة.

• 23 أكتوبر: الحكومة تنذر بريطانيا بسحب قواتها من المواقع التي احتلّتها بمرافق مدن القناة حديثًا. إيطاليا تعلن تفهّمها للموقف المصريّ المشروع. جريدة حزب الوفد “المصريّ” تدعو لعقد اتفاقية تعاون مع الاتحاد السوفييتيّ للتخلّص من الاستعمار البريطانيّ على مصر.

• 24 أكتوبر: مصر تُصدِر تعليمات لشركة قناة السويس بوقف أيّ ملاحة بريطانية أو لصالح بريطانيا في القناة. ولكنّ الشركة يديرها مجلس أجنبيّ لا ينصاع لأوامر الحكومة المصرية.

• 29 أكتوبر: المقاومة الشعبية المصرية تشنّ العديد من الهجمات الليلية على المعسكرات البريطانية. إنجلترا تقرّر ترحيل العائلات المقيمة داخل المعسكرات.

• 2 نوفمبر: الجنرال أرسكين، قائد القوات البريطانية في مصر، يأمر بضبط وإحضار الصّاغ حسن طلعت قائد شرطة الإسماعيلية ويوجه له إنذارًا بتسليم سلاح الشرطة المصرية، مع الأمر بالرحيل خارج منطقة القناة. الحكومة المصرية تعترض وترفض تصرّفات أرسكين.

• 21 نوفمبر: يوم “هادئ” في الإسماعيلية حيث لم يزد عدد القتلى عن 4 من الجانب الإنجليزيّ و8 من الجانب المصريّ. الجنرال أرسكين يتّفق مع محافظ القناة إبراهيم عبد الهادي الشاذلي على نزع سلاح الشرطة المصرية بمعرفة القيادة المصرية.

• 20 ديسمبر: فشلٌ جديد للمفاوضات بين أنتوني أيدن ومحمد صلاح الدين، بناء على إصرارِ بريطانيا على الربط بين جلاء قوّاتها عن مصر ودخول مصر في تحالف إقليمي (مثل حلف بغداد)، وإصرار الجانب المصريّ على عدم الرّبط مع قبول دراسة فكرة الدخول في أحلاف إقليمية بعد جلاء القوات اكلإنجليزية.

• 26 ديسمبر: إعلان نتائج الأحداث من جانب فؤاد سراج الدين، حيث أعلن استشهاد 93 مصريًا منذ 16 أكتوبر، وإصابة 328 شخص.. وأعلن أنّ مصر تطالب بالإفراج عن 145 معتقل بمعسكرات الإنجليز من ضمن عدد 349 شخص قد اختفوا. ومن جهة أخرى وجّهت الحكومة مطالبة لبريطانيا بسداد قيمة رسوم جمركية بمبلغ 4 مليون ونصف جنيه إسترليني عن معدّات عسكرية استوردتها إنجلترا إلى مصر خلال الأسابع المنقضية.

• 14 يناير: معركة حديثة في التلّ الكبير. القوات البريطانية تواجه مفاجأة عند تصدّيها للمقاومة الشعبية المنظمة بأسلوب عسكريّ دقيق. واستمرار الاشتباكات لمدة 24 ساعة بلا انقطاع. 12 قتيل من الجانب المصريّ و15 مصاب… بريطانيا تطلب مساعدة النرويج لضمان استمرار الملاحة بالقناة بعد إضراب العمالة المصرية.

• 15 يناير: المملكة السعودية تعرض خدماتها للوساطة بين مصر وإنجلترا.

• 17 يناير: تقرير بريطانيّ داخليّ يكشف ضعف الموقف السياسيّ للملك فاروق رغم اعتماده على مساعدين مثل حافظ باشا عفيفي وعمرو باشا في إدارة المكتب الملكي بالقصر، ويقرّ بقوة وشجاعة موقف محمد صلاح الدين وزير الخارجية الذي يدافع عن المواقف الوطنية لمصر. لذلك يبدي كاتب التقرير قلقه لعدم تمكّن الملك من الخلاص من حكومة الوفد وخاصة من صلاح الدين.. أحد اقتراحات التقرير الاعتراف بفاروق ملكًا على مصر والسودان مقابل التخلّص من الوفد والإبقاء على القوات البريطانية في القنال.

• 24 يناير: بعد المعارك الشرسة بين الانجليز والمصريين طوال الشهور السابقة، المجاعات تصيب مدن القناة، وافتقار عام للخدمات والأمن.. محاولات ابن سعود للوساطة تقابل بكلمة صلاح الدين: “مصر تقبل أى وساطة تؤدى إلى جلاء بريطانيا عن مصر والسودان”.

• 25 يناير: معركة دامية بين قوات الجنرال أرسكين بمدرعاتها ودباباتها ضد قوات الشرطة بقيادة الصاغ مصطفى رفعت. المقاومة الباسلة للشرطة بأسلحتها الخفيفة تبهر العالم من خلال تقارير وكالات الأنباء، فينقلب الرأى العام ضد الانجليز… بريطانيا تستمر فى عنادها وترسل قوات بحرية جديدة من مالطا… بريطانيا تعد خطة سرية للتخلص من التيار الوطنى المصرى وحكومة الوفد.

• 26 يناير: حريق القاهرة بمعرفة مجموعات صغيرة منظمة اندست وسط الطلبة المتظاهرين إلى جانب جنود بلوكات النظام… احتراق 200 موقع للمصالح الأجنبية في القاهرة.. إقالة حكومة الوفد في المساء.. تعيين حكومة علي ماهر.

• 26 يوليو: بعد تغيير عدّة حكومات منذ يناير، سقوط الملك وتخلّيه عن العرش وتولّي محمد نجيب. أما ما يلي هذا التاريخ، فهو موضوع آخر…

إعلان

اترك تعليقا