التحقق من الحُجج

بقلم: خوسِه انتونيو مارينا*

 لو كنتُ أصغرَ سنًا لأسَّستُ شركةً متخصّصةً في التحقق من الحجج التَّي تُستخدَم في حياتنا الاجتماعيَّة أو السّياسيّةِ. إنّ من شأنها أن تُكملَ بذلك العملَ الذّي تسعى جاهدةً للقيام به شركاتُ التحقق من الوقائع (fact-checking)، والتّي أتمنّى نجاحها بحرارةٍ نظرًا لفائدتِها العامَّةِ.

“التحقق” هو الوسيلة التَّي تسمح لنا بالقول ما إذا كانت مقولةٌ ما صحيحة، فواحدة من هاتين المقولتين -“عدد النّجوم زَوجيِّ” و”عدد النّجوم فرديِّ”- صحيحة، لكنّنا لا نعلم أيّهما هي الصَّحيحة لأنَّه لا يمكننا التحقق منهما. هناك مستوىً ثانٍ من التّحقّق لا يحيل إلى الوقائع/الحقائق، وإنَّما إلى الحُجج. في هذا القسم (من الصَّحيفة) عالجتُ بعض ما اشتهر منها، كتلك المُتعلِّقة بـ”أيديولوجيا الجندر”، و”الحقوق التَّاريخيَّة”، و”الحريَّة”، و”الإجهاض” أو بعبارات مثل “الشُّعوب دائمًا على حق” أو “صوت الأُمَّة”. الفلسفة هي المسؤولة عن تطوير التَّفكيرِ النَّقديّ الذيّ هو مهمّة متقصِّية للحقائق، وينبغي أنْ تفعل ذلك بدءًا من رياضِ الأطفالِ.

طَرَحَتْ أهميَّةُ الاتّصال في الحياة الإنسانيّة على الدّوام مشكلةَ معرفةِ ما إذا كان من الممكن الثّقة بهِ، واكتشاف الكاذب والمُتطفّل كان مشكلةً اجتماعيَّةً دائمةً. عندما كانت الجماعاتُ صغيرةً، كما في جماعاتِ الصّيادين-الجامعيّين، كان من السّهل حلّ هذه المشكلةِ لأنّ جميع الأعضاءِ يعرفون بعضهم البعضَ، لكنّها في المُجتمعاتِ المتّسعة تصبحُ أكثر تعقيدًا، لأنّ من الصّعب معرفةُ جميعِ مصادر الأخبار التّي تردُنا.

يمكننا طرحُ قانونٍ لضمانِ المعلوماتِ، و”لكي يكون مفيدًا، فإنَّ زيادة الاتّصال ينبغي أن تقترنَ بتحسّنٍ في معايير تقييم موثوقيَّته”. إذا نمت كميّة المعلومات بسرعةٍ تزيد على سرعة أنظمةِ التّحقّق، يكون ذلك سببًا لعدم اليقين، والالتباس، وضعف الحصانة. كما يجب أن نتذكّر أنّنا عندما نتكلّم عن “المعلومات information” فإنّنا نشير إلى أيّة معلومةٍ تُغيّر وضع نظامٍ ما. لا يشمل هذا مفهوم “المعرفة”، فالمعلوماتُ الكاذبة يمكن أن تُعتبر معلوماتٍ لكنّها ليست معرفة. حذّر من ذلك تي.إس. إليوت T.S. Eliot في مسرحيَّةِ “الصّخرة”:

“أينَ هي الحكمةُ التّي فقدناها في المعرفة؟

إعلان

وأين هي المعرفةُ التّي فقدناها في المعلومات؟”

للخروج من هذا الوضع، الذَّي نعلم تداعياتِهِ الاجتماعيّةِ والاقتصاديّةِ والسياسيَّةِ الوخيمةِ، علينا أن نُعزّز ما يسمَّى تقنيًا بـ”المراقبةِ المعرفيَّةِ” (Sperber, D. et alt. “Epistemic Vigilance”). في الواقع الرَّاهنِ، إنّ أنظمةَ “المراقبة المعرفيّةِ” في العلوم متقدّمةٌ جدًا؛ أيُّ اكتشافٍ جديدٍ أو نظريةٍ جديدةٍ يخضعان للفحص من قِبَلِ الخبراء وقبل نشرِهما يجب أن يمرّا عبر مرشِّحات/فلاتر دقيقة. لا يحدث الشَّيء نفسه للمعلوماتِ الموضوعةِ في خدمة الجمهور على العموم، ولا تُستوفَى الشُّروط المنصوصُ عليها في قانون ضمان المعلوماتِ، فمعايير التحقق لم تَنْمُ بالسُّرعة نفسها التّي نمَت بها المعلومات المُتاحة.

مؤشّرٌ جيّدٌ على وضعنا أنّ قاموس أكسفورد قد اختار تجاوز الحقائقِ (post-truth) كلمة العام 2016م، فيما اختار قاموس Collins الأخبارَ الكاذبة أو المزيَّفة (fake-news) كلمة للعام 2017م، بعد ذلك شاعت كلماتٌ post-politics،  و post-democracy التَّي ستكون الأسلوب الذّي تُمَارَسُ به السّياسة في حقبةِ ما بعد الحقيقةِ post-truth. القضيّةُ قديمةٌ، ففي عام 2004م عرَّف Colin Croush في كتابه Post-democracy هذه المفردةَ بأنّها “النَّموذجُ السّياسيّ الذّي تُوجَد فيه الانتخاباتُ بالتّأكيد ويمكنُها أن تُغيّر الحكومات، لكنّ النّقاش الانتخابيّ العام هو عرضٌ مُسَيطَرٌ عليه تمامًا ويُدارُ من قِبل فرقٍ مُتنافسةٍ من المهنيّين الخبراء في تقنيّات الإقناعِ، وتُؤخَذُ في الاعتبار مجموعةٌ صغيرةٌ من المواضيعِ المُنتقاة من قِبَلِ هذه الفرق”.

لكنَّ هذا التّلاعب السّياسيّ -أو الدّينيّ، في حالته- وُجِدَ دائمًا، فما هو الجديدُ؟ هل هو فَقطْ كميَّة المعلومات وتعقيد المجتمعِ الحاليّ اللّذان يزيدان من صُعوبةِ التحقق ؟ لا أظنّ ذلك. الجديدُ هو أنَّ الثّقافة الحاليّة تعتقدُ أنّ فكرةَ الحقيقةِ بحدّ ذاتها هي التّي أصبحت بالية. يتكلّم Alessandro Baricco في كتابِهِ نافذ البصيرة The Game على ما بعد التّجربة post-experience، وعلى “الحقيقةِ السّريعةِ”، وهو مفهومٌ مثيرٌ جدًا للاهتمامِ وذو علاقةِ بالمواضيعِ الشّائعةِ  “trending topics”، شيءٌ ما يمكن أن يكونَ حقيقةً لمدّة خمس عشرة ثانيةٍ. حتّى فكرةُ/مفهوم “الحقيقةِ” أصبحت بالية.

“الحقيقةُ” هي روايةٌ و”الواقعةُ” هي تأويلٌ، والمهمّ هو الاستحواذُ على كليهما: على الرّواية وعلى التّأويل. يؤكّد نيتزان زيمرمان Neetzan Zimmerman، الذّي عمل في ‘Gawker’ خبيرًا في “النّقل السّريعِ للقصص الرّائجة” (اسم مهنته ذو مغزىً بالفعل): “في يومنا هذا ليس مُهمًا أن تكونَ القّصةُ حقيقيّة، الشّيء الوحيدُ المهمُ هو أن يقوم النّاس بالضّغط على الزّرِ المُؤدّي إليها. الحقائقُ تمّ تجاوزها. إنّها من مخلّفاتِ زمن الصّحافةِ المكتوبةِ، عندما لم يكن بوسع القرّاءِ الاختيارُ. حاليًا، ما لم يشارك أحدُ الأشخاصِ خبرًا ما، فلا يوجدُ خبر”.

يعودُ ليصبحَ راهنًا مفهوم “factoid”، الذَّي ابتكره نورمان ميلر Norman Mailer في كتابه عن السّيرة الذّاتيّة لمارلين مونرو (1973)، فقد صاغ َالكلمةَ جامعًا بين “fact” (من اللاتينية factum) واللّاحقة “oide” التّي تعني “الشّبيه غير المُماثِل”.  عرَّف ميلر factoid بأنَّها “وقائعٌ لم توجد قبل الظّهور في وسيلةٍ إعلاميةٍ”، وعرّفتها صحيفة Washington Times بأنَّها “شيءٌ يبدو حقيقةً، ويمكنُ أن يكونَ حقيقةً، لكنّه في الواقعِ ليسَ حقيقةً”، إنّها تتولدُ بواسطةِ الأحكامِ المعرفيَّةِ المُسبقةِ، وتُفسحُ المجالَ أمامَ أساطيرَ شعبيّةٍ، وتعزّزُ نظريّاتِ المُؤامرة.

زادَت جائحةُ كورونا من انتشار الشَّائعاتِ، ومن الرّسائلِ الباطنيّةِ والمُناهضةِ للُّقاحاتِ، وذاتِ النّزعةِ القوميّةِ، والمُتّصلةِ بنظريّةِ المؤامرة، ما دفع Caroline Emcke إلى القولِ: “ما يخيفُ حقًا هو عودة الادّعاء بأن ليس من المُمكن التَّمييزُ بين مقولاتٍ واقعيّةٍ حقيقيّةٍ وأُخرى مُزيّفةٍ، بينَ افتراضاتٍ معقولةٍ وأُخرى مجنونةٍ” (El País, 6.6.2020).

إنَّ تاريخَ تقنيّاتِ الاتّصال يُعزّزُ مصداقيّةَ قانون ضمانِ المعلوماتِ، فمخترعو تقنيّاتِ الاتّصال الجديدةِ كانوا يثقونَ بأنّها  كفيلةٌ وحدها بزيادةِ الحريّةِ. “اعتقدتُ أنّه عندما يكون بوسعِ الجميع أنْ يتكلّموا بحريّةٍ وأن يتبادلوا المعلوماتِ والأفكارَ فإنَّ العالمَ سيتحوّلُ تلقائيًا إلى مكانٍ أفضلَ، لكنّني كنتُ مُخطئًا” قالَ إيفان ويليامس Evan Williams، أحد مؤسسيّ تويتر، في أيار/مايو 2017م: “نعرفُ السّبب الآنّ؛ زيادةُ المعلوماتِ لم تكن مُقترِنًة بارتقاءِ أنظمةِ التّحقّقِ؛ أيْ “المراقبةِ المعرفيّةِ”.

لعلاجِها، ظهرت في السّنواتِ الأخيرةِ الشّركاتُ المُتخصّصةُ في التّحقّق من الوقائع “fact-checking”، وتحاولُ الشّركاتُ الكّبرى مثل فيسبوك إدخالَ مُرشِّحات/فلاتر في شبكاتها، وليس غريبًا أنّ دونالد ترمب، الذّي استفاد بفعاليّةٍ كبيرةٍ من مفهوم post-truth، قد هاجمَها. وفي إسبانيا أعتقدُ أنّ أوّل من طبّق التّحقّق على نحوٍ منهجيِّ وعلنيّ في وسيلةٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ كانت آنا باستور Ana Pastor في برنامج “El Objetivo”. في هذا الوقت توجدُ بعضُ الشّركاتِ المُتخصّصةِ في هذه المُهمّةِ، كـ (Maldita Bulo 2014)، و(Newtral Media Audiovisual 2018)، و(Ufarte-Ruis et alt: “Plataformas independientes de fact-checking en España e Italia”, Mediterranea, 2020).

إنَّ مُهمّةَ التحقق هذه لا غنى عنها وينبغي تقديرُها ودعمُها بوصفها خدمةً عامّةً عظيمةً، ويجبُ أن تقومَ بها منظمّاتٌ لأنّها مهمّةٌ مُكلفةٌ وتتطلّبُ معارفَ ووسائِلَ.

لكنْ نحنُ المواطنين أيضًا نتحمَّلُ المسؤوليّةَ، فمن وجهةِ النّظرِ الفرديّةِ، تُسَمَّى “المراقبة المعرفيّة”: “التّفكير النّقديّ”.

لا جدوى من وجودِ عمليَّاتِ تحقّق موثوقةٍ إذا لمْ أهتمْ بها. لقد اشتكيت من أنّ بلدنا يُعاني من متلازمة نقص المناعة الاجتماعيّةِ، بما يمنعه من إنتاجِ أجسامِ مُضادّةٍ للدّفاعِ عن نفسِهِ أمامَ عوامِلَ ضارّةٍ، على سبيل المثال: الكذبُ. والأحكامُ المُسبقةُ -بما فيها الأحكامُ المُسبقةِ التّي تُحدّدُ على الدّوامِ تقريبًا الانتماءاتِ السّياسيّةِ- محصّنة ضدّ أيّ دليلٍ يتناقضُ مع اعتقاداتها.

إنَّ تطوُّرَ الفِكْرِ النّقديّ هو التّرياق الوحيدُ، والقدرةُ على الإصغاءِ إلى الحُججِ والاستعدادُ لقبولِ أقواها ضروريٌّ لقيامِ الدّيمقراطيّةِ، فالدّيمقراطيّةُ البرلمانيّةُ تقوم على القناعة بأنّ من المُمكن التّعاملُ بالعقلِ مع القضايا السِّياسيّة وبأنّ من الضّروريّ أنْ تتصارعّ الحُججُ لكي لا يكون على الأشخاصِ أن يتصارعوا. هذه النّقاشاتُ بالحجارةِ الخطابيّةِ التّي نراها في برلماننا عديمةُ الفائدة وهي مقوِّضة للدّيمقراطيّةِ.

تحدَّثتُ في هذا القسم (من الجريدة) عن الحاجة إلى “التّرجيح” بين الحُلول المختلفة للخروجِ من النّزاعاتِ، فالتَّفكيرُ النّقديّ ليس طبيعيًا، الطّبيعيّ هو الحُكمُ المُسبقُ، والسّذاجة، والمَحسوبيّة، والتّشويه العاطفيّ. التّفكير النّقدي هو عادةٌ يتمُّ تعلُّمها، ومن الملائِمِ القيامُ بذلك في أبكرِ وقتٍ ممكنٍ. بتعليمِهِ، انْشغلتِ الفلسفةُ على الدّوامِ، إلى أنْ تخلّت عن الاعتقادِ بالحقيقةِ، ولجأت إلى ما هو مثيرٌ للاهتمامِ. يبدو لي أمرًا مُلِحًا المطالبةُ بإمكانيَّةِ ذلك- تعليم التّفكير النّقدي- وضرورتِهِ.

نشرت جمعيَّاتُ الفلسفةِ للأطفالِ بيانًا للمطالبةِ بإدخالِ الفلسفةِ في برامجنا التَّعليميّةِ بدءًا من رياض الأطفال. بالنِّسبة لكثيرين بدت هذه المُطالبةُ سخيفًة، لأنّهم يفكّرون بأنّ دراسةَ الفلسفَةِ هي قراءةُ إيمانويل كانط، وأنَّ ذلك زيادةٌ عن اللّزومِ بالنّسبةِ لتعليمِ الأطفال، لكنّ جوهرَ الفلسفةِ هو تحويلُ التّفكيرِ النّقديّ إلى عادةٍ، وهذا يستلزِمُ تعلُّم الاستماعِ إلى الحُججِ، والتّفكيرِ، ومعرفةِ تمييزِ الأهواء عن الأسبابِ، وهو ما يتعلّمُه الأطفالُ منذ نعومةِ أظفارهم.

أوصيكم بمشاهدة الفيلم الوثائقيّ الجميل “Ce n’est qu’un début – Just a Beginning”، لـJean-Pierre Pozzi  و Pierre Barougier، حول ورشةِ عملٍ فلسفيّة عن الفلسفة في رياض الأطفال.

في البرامج التّي أعددْتُها لجامعة الآباء Universidad de Padres وفرّتُ وسائلَ لتطويرِ هذا “الجهاز المناعيّ ضدّ التّلقين”، وسأُقدّم لكم بعض الأمثلة لكي تتحقّقوا من إمكانيّة تطبيقها قريبًا:

أ – لتوجيه التّفكيرِ للبحث عن المعايير.

١ – شجِّع الأطفال على تقديم الأسباب:

لماذا تقول ذلك؟

ما الذّي يحمِلُك على التّفكيرِ بذلك؟

أعطني سببًا يحملُني على الاقتناع؟

٢ – شجّعهم على تقييم ما إذا كان السّبب الذّي قدّموه مُقنعًا:

هل تعتقد أنّ هذا سببٌ مُقنِعٌ؟

لماذا تعتقد أنّ وجهةَ نظرك صحيحة؟

٣ – شجّع الأطفال على تعريف المُفردات التّي يستخدمونها:

عندما تستخدم هذه الكلمة فماذا تريد أن تقول؟

إذا كان شيء ما هو ….. فما هي سماته الأساسية؟

بماذا يختلف عن الأشياء الأُخرى؟

٤ – شجّع الأطفال على استخلاص عواقب ما قالوه:

ما الذّي يستتبعه قولك هذا؟

إذا قلتَ هذا، فهل يمكنك أن تقول أيضًا إن….؟

إذا فعلتَ ذلك، فما الذّي تعتقد أنه سيحدث؟

لو أنَّهم تعلّموا هذه العاداتِ شديدة البساطة وهمٌ أطفال، فلربّما لم يكن على ساستنا أنْ يتعلّمُوها عندما صاروا كبارًا.

رابط الأصل الإسباني:
  *خوسه انتونيو مارينا: فيلسوف وكاتب وأستاذ جامعي من إسبانيا.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

ترجمة: زياد الأتاسي

اترك تعليقا