اعترافات “سوسيوباث” 1

إنها أستاذة قانون ناجحة محاطة بالعديد من الأصدقاء والأقارب، كما وأنها معلمة في مدرسة الأحد. إلا أنّ نظام تواصلها مع الآخرين يرتكز على كيفية التلاعب بهم والتغلب عليهم ببراعتها. أهلاً بكم في عالمٍ من السحر وهوس العظمة وتحليل عنيفٍ لنسبة التكاليف إلى المنافع

ملاحظة المترجمة: السوسيوباث (Sociopath) أو ما يُعرف باسم “المعتل الاجتماعي”، هو شخصٌ مصابٌ باضطراب الشّخصيةِ المعاديةِ للمجتمع. يَفتقرُ “السوسيوباث” للحسِّ الأخلاقيّ؛ فمفهومَيَ الصّواب والخطأ لا يعنيانه، ويتسمُ بالعنفِ والقسوةِ ولا يُبدي أيّ ندمٍ على أفعالِه.

لم يسبق أن قتلتُ أحدَهم، إلا أنّ رغبةَ القتلِ سبقَ أن اجتاحتني، ربما أعاني من اضطرابٍ ما لكنني لستُ مجنونةً، ففي عالمٍ يقطنُهُ أشخاصٌ فارغونَ كئيبونَ يرضونَ بالقليلِ ويقضونَ حياتَهُم في سباقِ فئرانٍ لا وُجهَةَ لَهُ، يَنجذبُ النّاسُ إلى استثنائيَّتِي كما يَنجذبُ العَثّ لشعلةٍ منَ اللّهبِ؛ هذه هي قصتي.

في إحدى المرّاتِ أثناءَ زيارتِي للعاصمةِ واشنطنَ، استخدمْتُ دَرجاً مُتحركاً يُمنعُ استخدامُهُ، وحاولَ العاملُ في المحطَّةِ أنْ يُحرِجَني حيالَ ذلك.

العاملُ: “ألمْ تري الحاجزَ الأصفرَ؟”

أنا: ” الحاجزُ الأصفرُ!”

إعلان

العاملُ: “لقد وَضعتُه للتّو، كانَ من المُفترضِ أنْ تسيري مِنْ حولِهِ.”

اعتراني الصَّمتُ، وعَلَتِ وجهِي نظرةٌ فارغةٌ.

العاملُ: “هذا تعدٍّ على الممتلكاتِ، من الخطأ القيامُ بذلِك. الدَّرجُ المُتحرّكُ مغلقٌ، لقدْ خرقْتِي القانونَ!”

حدّقْتُ بهِ بِصمتٍ

العاملُ وقد انزعجَ لأنّني لمْ أُبدِ أيّ ردَّةَ فعلٍ: “حسناً، لا تقومي بذلك في المرّةِ القادمةِ. اتفقنا؟”

كلاّ، لمْ يكنِ الأمرُ على ما يرام. غالباً ما يَقولُ النَّاسُ -في محاولةٍ منهُمُ لتفسيرِ تصرّفاتِهم الشّنيعة- أنّهم “فقدوا أعصابَهُمُ”، أعرفُ هذا الشّعورَ. وقفْتُ في مكانِيَ للحظةٍ منَ الزّمنِ، وسَمحْتُ للغضبِ أنْ يَتصاعدَ بِداخلِي إلى أنْ وصلَ للجزءِ الذّي يَتّخِذُ القراراتِ في دماغِيَ؛ وفجأةً ملأَنِي الإحساسُ بالهدوءِ الذّي يَعتري المرءَ عندَ مُلاحقتِهِ لهدفٍ ما، رَمشْتُ عينيَّ وأَطبقْتُ فَكّيَّ عازمةً على تحقيقِ مُبتغاي. بدأْتُ ألاحقَهُ، وأخذَ الأدرينالينُ يَتدفّقُ في عُروقِيَ، أَحسسْتُ بطعمٍ معدنيّ في فمِيَ، وعانيْتُ في محاولةٍ لِتركيزِ رُؤيَتِي المُحيطيّةِ على ما حولي -إذْ كنْتُ ألاحظُ بشكلٍ مُفرطٍ كلَّ شيءٍ أراهُ حولي- في محاولةٍ مني للتنبؤ بأيّ حركةٍ تَصدرُ منَ الحُشود الموجودةِ حولي، لقد تَمنّيتُ أنْ يَدخلَ زُقاقًا منعزلًا ليمشيَ وحيداً فيهِ، كنتُ واثقةً من نفسِيَ أشدَّ الثّقةِ، وصَببْتُ جُلَّ اهتمامِيَ على الشّيءِ الذّي يَتعيَّنُ عليَّ القيامُ بِهِ، تَبادرَتْ إلى ذهنِيَ صورةٌ ما؛ يداي تلتفانِ حولَ رقبَتِهِ، وإبهاماي يغوصانِ عميقاً في حلقِهِ، وروحُه تنساب من بين قبضتي يديّي المُتصلبتين، آهٍ كم بدا ذلك رائعا! لكنّي عرفْتُ أنّني كنتُ عالقةً في خيالٍ ناجمٍ عن جنونِ العظمةِ، وفي نهايةِ المطافِ لمْ يَكنِ الأمرُ مهماً؛ إذ أضعْتُ العاملَ بينَ الحُشودِ.

أنا “سوسيوباث”

النّدمُ غائبٌ عنْ قاموسِ حياتِي وأَميلُ نَحو الخِداعِ، لا أشعرُ بالمشاعرِ المُتَداخِلةِ واللاَّمنطقيَّةِ؛ فأنا إنسانةٌ ذكيةٌ وواثقةٌٌ من نفسِها تُفكّرُ باستراتيجيَّةٍ ودهاءٍ، إلاَّ أنَّني أُعاني منْ صعوبةٍ في التَّفاعُلِ معَ الإشاراتِ الاجتماعيّةِ الصَّادرةِ عمّنْ حولي، بِحُكمِ أنّها محيّرةٌ وتسيطرُ عليها المشاعرُ. لمْ أَكُنْ ضحيَّةً لإساءةِ المعاملةِ في طفولتِي، كما أنَّني لستُ بقاتلةٍ أو مجرمةٍ، ولمْ يسبقْ لي التَّسللُ خلفَ جٌدرانِ السُّجونِ، إذ أفضلُّ أنْ تكونَ الجُدرانُ المحيطةُ بي مغطاةً بنباتِ اللّبلابِ المٌتسلّقِ.

إنَّني محاميَّةٌ ناجحةٌ وأستاذةُ قانون، فضلًا عن كوني أكاديميَّةٌ في ريعانِ شبابي أحظى بالاحترامِ وأكتبُ في مجلاَتِ القانون وأساهمُ في تطويرِ النَّظرياتِ القانونيَّةِ، أتبرّعُ بما نسبتُهُ 10% من راتبي للجمعيَّاتِ الخيريَّةِ، وأُدرِّسُ في مدرسةِ الأحد التابعةِ للكنيسةِ المورمونيّةِ، ومحاطةٌ بدائرةٍ اجتماعيَّةٍ تضمُّ المقربينَ مني، من أفرادِ العائلةِ والأصدقاءِ الذَّينَ أحبُّهم ويحبونَني، هل رأيتَ نفسَكَ في كلماتِي؟

نرشح لك: أربعة اضطرابات غير الاكتئاب نتعامل معها يوميًا دون علم!

تُشيرُ التَّقديراتُ الأخيرةُ إلى أنّ شخصاً من كل 25 شخصٍ هو “سوسيوباث”، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّكَ قاتلٌ متسلسلٌ؛ فمعظمُنا ليس كذلك، إذ لم يسبقْ لَكَ أن سُجنْتَ، أليسَ كذلك؟ فما نسبتُه عشرون بالمئةِ فقط منْ نُزلاءِ السُّجونِ -الذُّكورِ والإناثِ على حدَّ سواء- مصابونَ باضطرابِ الشَّخصيَّةِ المُعاديةِ للمجتمعِ؛  على الرَّغم  من أننا لربما نتحمّلُ مسؤوليَّةَ نصفِ الجرائمِ الخطرةِ التَّي تمّ ارتكابُها، كما وأنَّ معظمَ المصابينَ باضطرابِ الشَّخصيَّةِ المعاديةِ للمجتمعِ لا يقطنونَ خلفَ قضبانِ السُّجونِ، ففي واقعِ الأمرِ، تعيشُ الأغلبيًّةُ الصَّامتةُ من “السوسيوباثيين” بحريّةٍ تامَّةٍ دونَ الكشفِ عن هويَّاتِهُم؛ فهُم يشغلونَ الوظائفَ ويتزوجونَ وينجِبونَ الأطفالَ، فَنحنُ جمعٌ كبيرٌ ونتّسمُ بالتَّنوعِ.

سوفَ تُعجَبُ بي إنْ قابلتني حالًا،  إذْ إنَّني أمتلكُ ابتسامةً ساحرةً تراها على وجوهِ شخصيَّاتِ البرامجِ التلفزيونيَّةِ، ونادراً ما تراها في الحياةِ الواقعيَّةِ، فابتسامتي مثاليَّةٌ بأبعادِها اللَّامعةِ وقدرتُها على التَّعبيرِ عن ترحابٍ دافئ، فأنا من نوعيَّةِ النّساءِ التَّي تَرغبُ أنْ ترافقَكَ إلى حفلِ زفافِ زوجتِكَ السَّابقةِ -فأنا مرِحةٌ وذاتُ أسلوبٍ حماسيّ وأنا الشَّخصُ المثاليُّ لتصطحِبَهُ إلى حفلٍ مكتبيّ، وإنّني ناجحةٌ بالقدرِِ الذَّي سيُبهِجُ والديْكَ عندما يقابلونني، ولربما أكثرُ مظاهرِ ثقتِي وضوحاً يتمثَّلُ في الطَّريقةِ التي أواصلُ بها النَّظرَ بشكلٍ مباشرٍ في عينيِّ الشَّخصِ الذَّي أحادثُهُ؛ وهو ما يُطلِقُ البعضُ عليهِ “حملقةَ المفترسِ”، إذْ لا يرتَبِكُ “السوسيوباثيون” من التَّواصلِ البصريِّ غيرِ المنقطعِ، ولذلكَ يبدو انعدامُ قدرتِنا على النَّظرِ بعيداً على أنَّهُ سلوكٌ عدوانيٌّ أو مغوٍّ؛ وهو ما يربكُ الجميعَ، ولكنْ غالباً ما يرتبكون بطريقةٍ تثيرُ الاهتمامَ وتشبهُ الارتباكَ الذَّي يُباغِتُ المرءَ عندَ شعورهِ بالافتتانِ والإعجابِ الشّديدينِ.

هل تجدُ نفسك تلجأ لاستخدامِ سحرِ شخصيَّتكَ وثقتِكَ بنفسِكَ لتجعلَ النَّاسَ يقومونَ بما قدْ لا يقومونَ بهِ عادةً لأجلِكَ؟ قدْ يقولُ البعضُ: إنّ هذا تلاعبٌ نفسيّ، إلَّا أنّني أؤمنُ بأنني أُوظِّفُ المَهارةَ التَّي وَهبَنِي اللهُ إيَّاها.

كنتُ طفلةً حادَّةَ المُلاحظةِ وشديدةَ الذَّكاءِ، ولكنَّي لمْ أتمكَّنْ منْ تَكوينِ رابطٍ عاطفيِّ مع النَّاسِ  حولِي عدا عن تسليتِهم؛ وكنتُ أَعتَبرُ تسليةَ منْ حولِي طريقةً تمكنّني منْ جعلِهم يفعلونَ ما أُريدُهُ وليتصرّفُوا وفقَ رغبَتِي، لمْ أحبْ أنْ يَلمسَني أحدُهُم، ورفضْتُ العاطفةَ، فعادةً ما انطوى الاتصالُ الجسديُّ الوحيدُ الذَّي سعيْتُ لهُ على العنفِ؛ ففي إحدى المرَّاتِ، اضطرَ أبو زميلةِ لي في المدرسةِ إلى أن يُحادثَني على انفرادٍ ليطلبَ مني بحزمٍ أنْ أتوقَّفَ عن ضربِ ابنتِهِ، وكانَتِ الفتاةُ نحيلةً بشدةٍ وطويلةَ القامةِ ذاتَ ضحكةٍ غريبةٍ؛ فكانَت تبدو لي كأنَّها تطلبُ التَّعرضَ للصفعِ، لمْ أعلمْ وقتَها أنّ سلوكي كانَ خاطئاً، ولمْ يخطرْ بِبَالِي أنَّ سُلوكِي سيؤذيها أو أنَّهُ لنْ يُعجِبَها.

كانَتْ تربيتِي ذاتَ طبيعةٍ فوضويَّةٍ

كُنتُ أوسطَ إخوتِي، وكانَ أبي عنيفاً وأميّ لامباليةً -وفي بعضِ الأحيانِ كانْت تتصرَّفُ بهستيريَّةٍ، كرِهتُ أبي أشدَّ الكُرهِ؛ فلمْ يكنْ يُعتَمَدُ عليهِ كمعيلٍ للأُسرةِ، فغالباً ما كنّا نجدُ التَّيارَ الكهربائِيَّ مقطوعاً عنِ المنزلِ لتأخرِنا عنْ دفعِ الفواتيرِ المستحقَّةِ علينا، وكانَ يَصرِفُ آلافَ الدُّولاراتِ على هواياتٍ مُكلِفةٍ، بينما كنَّا نقطفُ البرتقالَ من ساحةِ المنزلِ الخلفيَّةِ لنتناولَهُ  في فسحةِ الغداءِ في المدرسةِ؛ كان َأولُّ حُلُمٍ أذكرُ أنَّهُ راودني مراراً وتكراراً يتمحورُ حولَ قتلي إيَّاهُ بيدييَّ العاريتين، وكانَ العنفُ الذَّي أُمارسَهُ في الحلمِ جذاباً ومثيراً للاهتمامِ؛ إذ كنْتُ أحطِّمُ البابَ على رأسِه مرارً وتكراراً وابتسامةً صفراءَ تعلو محيّاه أثناءَ وقوعِه على الأرضِ بلا حراكٍ. لم أكنْ أمانِعُ الجدالَ معَهُ، إذْ أصررتُ على عدمِ الانسحابِ منْ أيّ مواجهةٍ تطرأُ بيننا؛ فمرةً خلالَ سنواتِ مراهقتِي المُبكِّرَةِ، تجادلْنا حولَ معنى فيلمٍ كنَّا قد شاهدْنَاهُ معاً، أخبرتُه: “أنتَ تُصدّقُ ما تريدُ تصديقَهُ”، ثمَّ صَعدْتُ الطَّابقَ العلويَّ، دخلْتُ إلى الحمَّامِ وأغلقْتُ البابَ خلفِيَ بِإِحكامٍ،  كنْتُ أعلمُ أنَّهُ يكرَهُ الأبوابَ المقفلةَ وأنّهُ يَبغضُ العبارةَ التَّي وَجَّهْتُها لَهْ -إذْ كانَتْ أُمّي تَقولُها سابقاً- وأنّ تكراري لها جلبَ أشباحَ جيلٍ ماضٍ منَ النّساءِ اللَّواتي كُنَّ يَقطنَّ في منزلِهِ ولمْ يَكُنَّ يحترِمْنَهُ أو يقدّرْنَهُ، بل كُنَّ يبغضْنَهُ،  كنْتُ أعرفُ أنّ هذهِ السُّلوكيَّاتِ سوفَ تُدمّرُهُ، وهو ما كنتُ أسعى لتحقيقهِ، أخذَ يَصرخُ قائلًا: “افتحي البابَ! افتحي البابَ!”، وأخذَ يضربُ البابَ بيدهِ إلى أنْ  فتحَ حفرةً فيهِ، رأيْتُ يدَهُ مُضَرَّجةً بالدِّماءِ ومتورمةً، ولمْ أكترثْ بذلك،  ولكني لمْ أكنْ سعيدةً أنّه أصيبَ هكذا؛ لأنّي كنتُ أعلمُ أنَّه يشعرُ بالرضى عندَ تعرضِهِ للأذى إثرَ مشاعرِهِ الجيَّاشةِ لدرجةِ أنّه يتجاهلُ آلامَهُ ومعاناتَهُ، استمرَّ أبي بضربِ ثُقبِ البابِ ذي الحوافِ المُدبّبَةِ إلى أنْ أمسى كبيراً ما فيه الكفاية ليُدخِلَ رأسَهُ منْهُ مبتسماً ابتسامةً واسعةً.

تجاهَلَ والداي محاولاتِي الصَّارخَةَ والمُحرِجَةَ للتَّلاعُبِ بالآخرينَ وخِداعِهم وتضليلِهم،  ولمْ يلاحظوا أيضاً أنَني تعاملْتُ معَ معارفِي في طفولتِي دونَ أنْ أُكوِّنَ روابطَ عاطفيَّةٍ معهم؛ فلم يكونوا أكثرَ من أشياءَ متحركةٍ بالنّسبةِ لي، كذبْتُ طوالَ الوقتِ، وسرقْتُ بعضَ الأغراضِ منَ الأطفالِ -ولكني غالباً ما كنْتُ أخدعُهم ليعطوني إيَّاها، تراءى لي أنّ الناسَ من حولِي هُم روبوتاتٌ تتوقَّفُ عنْ العملِ عندما لا أتواصلُ معًهم بشكلِ مباشِرٍ، تسلّلتُ إلى منازلِ الغيرِ وقمْتُ بإعادةِ ترتيبِ مُمتلكاتِهم، كسْرتُ بعضَ الأشياءِ وحرقْتُ بعضَها الآخرَ، وتسبَّبتُ بظهورِ الكدماتِ على أجسادِ النَّاسِ، بذلْتُ أدنى الجهودِ اللَّازمةِ لأتسلَّلَ وأستغلَّ إحسانَ الآخرين بُغيَةَ الحُصولِ على مُرادِي؛ بما في ذلك: الحصولُ على الطَّعام عندما تفرغُ حُجرَةُ المؤنِ في المنزلِ، وسيَّارةٍ يوصلُني صاحبُها للمنزلِ أو لنشاطاتٍ خارجَ المنزلِ إنْ كانَ والداي في عدادِ المفقودين، أو دعواتٍ إلى الحفلاتِ،  والشَّيءُ الوحيدُ الذَّي رَغبتُ به هو رؤيةُ الخوفِ الذّي زرعْتُهُ في نفوسِ الآخرين،  كنْتُ أعلمُ أنني أتولَّى زمامَ السَّيطرةِ.

إنّ العدوانيَّةَ والمجازفةَ وعدمَ اهتمامِ المرءِ بصحَّتِهِ أو صحَّةِ الآخرين هي العلاماتُ المميزَةُ لاضطرابِ الشَّخصيَّةِ المُعاديةِ للمجتمعِ. عندما كنْتُ في الثَّامنةِ منْ عُمريَ، كِدْتُ أنْ أغرقَ في المحيطِ، أخبرَتْني أمّي أنَّ ردَّ فعلِي الأوَّلَ عندما انتشلَنِي المنقِذُ منَ المياهِ وأعادَ لي أنفاسِي تمثَّلَ بالضَّحكِ، أدركْتُ أنَّ الموتَ قدْ يُباغتُنِي في أيّة لحظةٍ، لكني لمْ أشعرْ بالخوفِ منه بتاتاً. وفي حادثةٍ أخرى، مَرضْتُ مرضاً شديداً قبلَ عيدِ ميلادي السَّادس عشر، غالباً ما كنتُ أُخفي مرضي عمّن حولي؛ إذ إنّني لمْ أحبْ أنْ أُشرِكَ الآخرينَ في شؤوني الخاصَّةِ، لأنّ ذلك بمثابةِ دعوةٍ لهُم ليتدخَّلوا بحياتي، لكني أخبرْتُ أمّي وقتَها عن الألمِ الحادِّ الذَّي شعرْتُ بهِ في منطقةِ عظمِ القَصِّ، وبعد أنْ عبّرَت أمّي عنْ سَخْطِها المُعتادِ، أعطتني أدويةً عشبيَّةً وأخبرَتْني أنْ ألتزمَ الرّاحةَ، ذهبتُ إلى المدرسةِ على  الرغم من مرضي، كانَ لدى والديَّ علاجٌ جديدٌ كلَّ يومٍ؛ لذلكَ كنتُ أحملُ حقيبةَ أدويةٍ صغيرةٍ تحتوي على حبوبِ  Tums (دواءٌ مضادٌ للحموضةِ) وحبوبِ Advil (دواءٌ مسكّنٌ ومضادٌ للالتهابِ) وأدويةِ الطّب التّجانسي التّي تعالجُ كلَّ الأمراضِ (شكلٌ من أشكالِ الطُّبِ البديلِ)،  لكنّ الألمَ لمْ يُبارحنِي على الرَّغم منْ ذلك؛ إذْ سيطرَ على جُلِّ الطَّاقةِ التَّي اعتدْتُ تَوظيفَها للانسجامِ معَ الآخرينَ وجذبِهُمُ لشخصيَّتِي، فتوقَّفْتُ عنِ الإيماءِ برأسِي موافَقةً على كلامِهُمُ والابتسامِ لأحاديثُهُم؛ وبدلًا من ذلك أخذْتُ أحدّقُ بهمُ بنظراتٍ ميتةٍ، إذْ لمْ أَكنْ قادرةً على الاحتفاظِ بأفكاري السّريّةِ لنفسِي؛ أخبرْتُ أصدقائِي كمْ يبدونَ قبيحين وأنَّهم يستحقونَ الأمورَ السَّيئةَ التَّي يمرونَ بها، فَدونَ قدرةِ التَّحملِ التَّي مكّنتني سابقاً منَ التَّحكمِ بتأثيري على النَّاسِ، تقبَّلتُ اللّؤمَ القابعَ في داخلي وارتحْتُ للتَّعبيرِ عنهُ، انتقلَ الألمُ منْ بطنِي إلى ظهري، لدرجةِ أنَّني قضيْتُ إحدى فتراتِ ما بعدَ الظَّهيرةِ نائمةً في سيَّارةِ أخي، تفحّصَ أبي لاحقاً جذعِي -المنطقةَ التَّي تتوسطُ جسمَ الإنسانِ، يتفرَّعُ منْ هذهِ المنطقةِ الرّقبةُ وأطرافُ الجسمِ- ولاحظَ وجودَ خطبٍ ما، وأخبرني على مضضٍ: “سنذهبُ للطَّبيبِ غداً”.

في اليومِ التَّالي ونحنُ في مكتبِ الطَّبيبِ، تحدَّثَ الطَّبيبُ المُختصُّ بنبرةٍ حانقةٍ، وانسحبَتْ أمّي إلى حالةٍ من الإنكارِ الصَّامتِ وشبهِ الكاتاتوني  -وهي الحالةُ التَّي تَتقهقرُ إليها عندما يوجّهُ أبي اللّكماتِ لما حولَهُ. تساءل الطَّبيبُ قائلاً: “إنْ كنتِ تَشعريْنَ بالألمِ، فما الذَّي كنتِ تفعليْنَهُ في الأيَّامِ العشرةِ الماضيةِ؟”. أُغميَ عليّ بعدَها، وعندَ استيقاظي سمعْتُ صُراخاً وسمعْتُ أبي يقنعُ الطَّبيبَ بعدمِ طلبِ سيارة إسعافٍ؛ وشَعرْتُ عندها بأنّ والديّ لا يثقانِ بهِ، رأيْتُ ذُعراً جيّاشاً في عينيّ أبي؛ إذْ أنَّهُ وأمّي تركاني وحيدةً مع آلامي ومعاناتِي لأسبوعٍ كاملٍ لأنّ -وكما اكتشفْتُ لاحقاً- التَّأمينَ الصّحيّ الخاصَ بنا قد انتهت صلاحيتُهُ، وعندما استيقظْتُ لاحقاً من العمليَّةِ الجراحيَّةِ، رأيْتُ أبي واقفاً بجانبي والغضبُ النَّاجمُ عن الإرهاقِ  يَلوحُ على محيّاهُ، تبيّنَ أنّ الزائدةَ الدوديَّةَ قد تمزَّقَت؛ مما أدَّى إلى انفجارِ السُّمومِ في أمعائِي، وأُصبْتُ بتعفُّنِ الدَّمِ النَّاتجِ عن العدوى، وأُصيبَتْ عضلاتُ ظهري بالغرغرينا.

قالَ والدي بأسلوبٍ يوحي أنّه يتوجَّبُ عليَّ الاعتذارُ للجميعِ: “كانَ من الممكنِ أنْ تَموتِي، إنَّ الأطباءَ غاضبون جداً”. أعتقدً أنَّ اعتلالِي الاجتماعيّ يَرجعُ إلى حدٍ كبيرٍ لحقيقةِ أنّني لمْ أَتعلَّمْ مُطلقاً أن أثِقَ بالغير.

إعلان

مصدر المقال باللغة الانجليزية
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ديما الخطيب

ترجمة: راما ياسين المقوسي

اترك تعليقا