متعة الجنس: قراءة في كتاب “تطور الحياة الجنسية عند البشر” لجاريد دايموند
“متعة الجنس” كتاب بهذه الكلمات في عنوانه لم أكن لأقرأه أبدًا لولا مؤلِّفه الكبير الدكتور “جاريد دايموند” أستاذ الفسيولوجي في جامعة كاليفورنيا، وصاحب كتابيْ “الشمبانزي الثالث” و”الأسلحة والجراثيم والفولاذ”، و”انهيار المجتمعات“، والحقيقة أنني واحدُُ من الناس الذين يقرأون الكتاب اعتمادًا على اسم مؤلِّفه.
يبحث كتاب “لماذا متعة الجنس؟ (تطوُّر الحياة الجنسية عند البشر) why is sex fun? (The evolution of human (sexuality” بخفة الظل المعهودة من “جاريد دايموند” في تطور الحياة الجنسية موضحًا أسباب اختلافنا الكبير عن بقية الحيوانات.
والظاهر أنّ البشر يختلفون اختلافًا شديدًا في حياتهم الجنسيّة عن أسلافهم على شجرة التطور، و متناقضًا مع العديد من خيارات التطور المعروفة.
اشتمل الكتاب ( ١٦٥ صفحة) على سبعة فصول غير المقدمة والنهاية:
1- الحيوان صاحب أغرب حياة جنسية.
2- معركة الجنسين.
3- لماذا لا يُرضع الرجال الأطفال؟
4- الزمن الخطأ للحب: تطور الجنس الترفيهي.
5- ما فائدة الرجال: تطور دور الرجل.
6- أنتج أقل تملك أكثر: تطور انقطاع الطمث عند المرأة.
7- الحقيقة في الإعلان: تطور العلامات الجسدية.
في الفصل الأوَّل من الكتاب ستحدث للقارئ نوبة كبيرة من الضحك، وذلك بسبب وجود شخصية “الكلب” الذي يتحدَّث عن متعة الجنس عند الانسان.
1- حكايتنا الجنسية من وجهة نظر كلب:
تخيَّلوا معي كلبًا -على سبيل المثال- يُحدّث رفيقه في البيت المجاور عن متعة الجنس عند البشر وحياتهم الجنسية:
“تخيل يا عنتر أنٌَ الست تريد النوم مع زوجها حتى وهي على يقين تام بأنَّها ليست “جاهزة للتخصيب” لأنها في أعقاب انتهاء الدورة الشهرية! تخيَّل أن الرجل يرغب في الجنس مع زوجته كل يوم دون أن يهتم بأن حيواناته المنوية قد تضيع هباءً لأنها ليست في فترة الخصوبة!
و يرد عليه الكلب الثاني قائلًا:
الشيء المقزِّر أنهما يمارسان الجنس والمرأة حامل! بل والأكثر من ذلك بعد انقطاع الطمث. والغريب أيضًا أنهما يمارسان الجنس في غرفة مغلقة وليس في العلن كبقية خلق الله”.
هكذا بدأ العالم الموسوعي جاريد دايموند حديثه عن الحياة الجنسية عند البشر في كتابه اللطيف هذا عن متعة الجنس، والنمو التطوُّري للحياة الجنسية عند البشر، متنقلًا برشاقة بين تفاصيل علم الأحياء والتطور، وبين طرائف حياته اليومية بينه وبين زوجته.
وقد قدَّم الكاتب بعض التفسيرات اللطيفة التي تحلُّ التناقضات بين السلوك البشري و عددًا من المفاهيم التطورية المعتادة، كما تفسر السمات الغريبة للحياة الجنسية عند البشر مقارنةً بمعظم الثدييات الأُخرى مثل:
١- شراكة جنسية طويلة الأجل ( شريك واحد يكفي).
٢- مشاركة الأب والأم في رعاية الأولاد.
٣- عدم علانية الممارسة الجنسية.
٤- عدم وجود مظاهر واضحة للتبويض عند المرأة “concealed ovulation”.
٥- استعداد المرأة لممارسة الجنس بغض النظر عن حملها أو عدم استعدادها للإنجاب أو عقمها.
٦- الجنس للمتعة وليس لغرض التناسل فقط.
٧- انقطاع الطمث عند المرأة “menopause”.
2- اختفاء علامات التبويض الظاهرة أدى لظهور نظام الزواج بواحدة:
على عكس بقية الثدييات فإنَّ الأنثى من البشر لا تبدو عليها علامات ظاهرة واضحة على أنَّها “جاهزة للتخصيب”، قرود البابون -مثلًا- تظهر عليها علامات يمكنك أن ترصدها من على بعد أميال وهي المؤخرة الحمراء، وتطلق الغربان صفيرًا في زمن التزاوج. لهذا يمارس البشر الجنس في أي وقت حتى لا تضيع فرصة الإخصاب والحمل.
3- ما الذي يدفع الرجل إلى البقاء مع المرأة حتى بعد تلقيحها مضحيًا بفرصة نشر حيواناته المنوية ومن ثم جيناته على عدد أكثر من النساء الأخريات؟
ما الذي يدعو إلى الاستمرار في علاقة طويلة الأمد مع امرأة ومشاركتها في رعاية حملها وأولادها؟! بل يختار امرأة واحدة يعيش معها في صورة أقرب إلى الزواج بواحدة “monogamy” (وهي العلاقة الأكثر شيوعًا حتى في مجتمعات تعدد الزوجات).
يرى المؤلف أن أحد العوامل التي تدعم التزام وارتباط الأب والأم بالطفل هو حماية استثمار فعلي تم في البويضة المخصبة؛ فمن السذاجة التخلي عن مشروع قائم بحثًا لأجل مشروع آخر لا تضمن نجاحه.
وعادة ما تكون الأنثى التي أنتجت البويضة أكثر ارتباطًا بالأولاد من الذكر الذي قدم فقط الحيوان المنوي.
والواقع أن البويضة تحتاج إلى موارد جسدية كبيرة لإنتاجها، فضلًا عن عددها المحدود على مدار حياة الأنثى مقارنة بالحيوانات المنوية. أما الرجل فلا يحتاج إلا لأيام قليلة لإعادة تكوين مخزونه من الحيوانات المنوية.
4- المشاركة في رعاية الأولاد:
على عكس الخيار التطوري التقليدي اختار الرجل من بني البشر أفضل استراتيجية للحفاظ على جيناته، وهي رعاية الأم وحملها وأطفاله أيضًا، لأن خروجه لممارسة الجنس مع أُخريات يعني التضحية بالمضمون (الحمل والطفل) مقابل علاقة قد لا ينتج عنها حمل.
وعلى عكس بقية الحيوانات التي لها مواسم للتزاوج تظهر فيها علامات على الأنثى المستعدة للتلقيح والحمل، فإن المرأة لا تتمتع بمثل هذه الخاصية. ومن ثم فإنه بتركه لشريكته والخروج لأُخرى يُلقي بحيواناته دون مقابل، مهملًا تلك التي حملت منه، والتي قد تلقى حتفها أو يخطف طفله أحد الوحوش الكاسرة.
(والمبدأ هنا: عصفورُُ في اليد أفضل من عشرة عصافير على الشجرة).
ربما يكون هذا المبدأ هو أصل النظام الاجتماعي في الزواج والارتباط لفترة طويلة ومستمرة؛ لأن التعاون في رعاية الأطفال في صالح استمرار جينات الطرفين معًا.
5- الجنس للمتعة وليس للإنجاب:
نتيجة لعدم ظهور علامات واضحة للتبويض عند الأنثى كان على الرجل أن يستمر في ممارسة الجنس مع شريكته طوال الوقت؛ وذلك ليضمن أن تصادف حيواناته المنوية بويضتها عند الجماع ومن ثم ظهرت فكرة متعة الجنس أو الجماع من أجل المتعة. وفي نفس الوقت يستدعي الرجل استعداد المرأة إلى ممارسة الجنس في أي وقت بغض النظر عن أنها حامل أو غير مستعدة للإنجاب أو حتى انقطع عنها الطمث ولم تعد قادرة على الإنجاب أصلًا.
6- انقطاع الطمث عند النساء:
أشار المؤلف إلى أن انقطاع الطمث عند المرأة يعدّ من أغرب سمات الحياة الجنسية عند البشر، ويعني انقطاع الطمث توقف المرأة عن إنتاج البويضات فتصبح عقيمة، وهي عملية لا تتسِّق بشكل كبير مع النمط المعتاد في عالم الحيوان. خاصةً وأن التطور يُحبّذ نشر جينات النوع لرفع احتمالات إنتاج نسل جديد.
والشاهد أنَّ أغلب الحيوانات تظل خصبة وصالحة للإنجاب حتى تموت. واختلف الإنسان في ذلك حتى عن القردة العليا.
والحقيقة أن هذه الظاهرة ساعدت الأم على عدم استهلاك طاقتها الجسدية في مزيد من الانتاج، ومن ثم توفير رعاية أفضل للأطفال، كما ساعدتها أيضًا على الحياة لفترة أطول وأتاحت لها فرصة نقل الخبرات والتعلم إلى الأجيال الأصغر منها.
يمكننا القول أنَّ الاكتفاء بعددٍ أقل من النسل كان الأفضل تطوريًا عن التناسل بأعداد كبيرة قد يهلك أغلبها نتيجة عدم توافر الرعاية الأسرية، وبهذا تحسَّنت فرص الإنسان في البقاء واعتلاء عرش المملكة الحيوانية.
وقد تناول الكتاب موضوعات أخرى تُلقي الضوء على أجزاء عديدة من مسيرة التطور البشري دون أن يخلو من تسلية ومتعة للقارئ.
Why_Is_Sex_Fun_The_Evolution_of_Human_Sexuality
هذا فيلم تسجيلي لطيف عن تطور الجنس:
https://m.youtube.com/watch?v=zIi7hXPw1mo