في حضرة الخباز .. حافظ الشيرازي
يُحكَى أنه قديمًا فى شيراز -جنوب غرب إيران- وبالتحديد فى النصف الأول من القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي. وُلِد مولودٌ صغيرٌ جميلٌ لأسرةٍ من التجار ميسورى الحال اسمه شمس الدين محمد بن بهاء الدين. الشهير ب “حافظ الشيرازي” كان يعيش فى رغدٍ فى ظل رعاية أسرته، ولكن سرعان ما بغاتَتِ الحياةُ ذلك المولودَ الصغيرَ بعثراتِها فمات الأب وتفرَّقَ الإخوة واستحال رغدُ العيش إلى ضيقٍ أجبرَ الأمَّ أنْ تُودِعَ صغيرَها عند أحدِ الأقرباء ليرعاه، ولكنَّ ذلك القريب لم يكن أحنَّ من الحياة فعامَلَ الصغير بسوءٍ شديدٍ هرب على إثره الصغيرُ ليعمل خمير ﮔير (خبازًا).
وتستمر الحكاية لتخبرنَا أن محمدًا لم يكن كغيره، فالولد الصغير الذى يكدحُ ليعيلَ نفسَه كان شغوفًا مُحبًّا للعلم للحدِّ الذى جعلَه يقطع من أجره اليوميِّ ليذهبَ إلى المدرسة، وهناك حفظ القرآن بقراءاتِه الأربع عشرة، ما منحه لقبَه الذى ظل حيًّا معه على الدوام «حافظ». وكذلك تعلمَ الفقه واللغة، وبدأ يقرض الشعر، فكانت بدايةَ فيضِ «حافظ» الذى لم يتوقف.
الرجل الذي توقف لأجله التاريخ
إنَّ للتاريخ سننًا، ومن سنن التاريخ أنه لا يتوقفُ كثيرًا فى فترات الاضمحلال والأفول فيمرُّ عليها عابرًا، ولكنْ عندما مرَّ التاريخُ على «شيراز» فى زمن حافظ حيث عصر أفول، وأسرةٌ -كما قال عنها الدكتور الشواربى- «نكدة الحال مفككة الأوصال» تحكمُ وتجثُمُ على أنفاسِ تلك المدينة الجميلة، لم يملكِ التاريخُ أنْ يمرَّ فقط، فقد توقَّفَ طويلًا فثمة إنسان قال ما لم يقلْه غيره وبقيَتْ أشعارُه تؤنس الوحشةَ وتكفكف الدمعَ وتروي الأملَ فى نفوس البشر وتحلِّق بهم إلى سماء جميلةٍ هادئةٍ ينعموا فيها بقسطٍ من الأمن والراحة، لذا توقَّفَ التاريخ فذكر واستفاض فى ذكر اضطرابات ذلك العصر فى شيراز ومعاناة حافظ فى خضمِّ تلك الاضطرابات، وكيف خرج ذلك الإبداعُ اللامتناهي من رحم تلك الفترة البائسة.
جنة ملأى بالشياطين
شيراز.. لمَن لا يعرفُ شيراز: هى إحدى جنان الله في أرضه، هى مدينة البساتين ذات الأنهار الجميلة والهواء العليل. مدينة الكرماء والأولياء الصالحين؛ قال عنها ابن بطوطة:
«مدينة أصيلة البناء، فسيحة الأرجاء، شهيرة الذكر، منيفة القدر، لها البساتين المونقة، والأنهار المتدفقة، والأسواق البديعة، وأهلها حِسانُ الصور، نظاف الملابس، وهي في بسيط الأرض، تحفُّ فيها البساتين من جميع الجهات، وتشقُّها خمسة أنهار، أحدها النهر المعروف بركن آباد، وهو عذب الماء شديد البرودة فى الصيف ساخن فى الشتاء»، وقال عنها المستوفى فى كتابه «نزهة القلوب» أنها «مدينةٌ جميلةٌ هواؤها معتدل، ولا تخلو أسواقها من الرياحين، وماؤها من القنوات، وخيرها قناة ركن آباد… وفيها تنمو أشجار السرو بصورةٍ جميلةٍ محببة».
لكنَّ تلك المدينة الجميلة التى عُرِفت بمدينة الأولياء لكثرة الصُلَحاء بها تحوَّلَ أمرُها فى زمن حافظ، فحكمها جُهَّال غلظاء منافقون من الأسرة المظفرية، ضيقوا على الناس معايشَهم وجبلوهم على النفاق، فكتب المستوفى يقول إنها «أصبحت مَكمنًا للأشقياء بعد أن كانت برج الأولياء».
أحب حافظ شيراز حبًّا عظيمًا، ورغم ما عاناه فيها لم يقْوَ على فراقِها وتغنَّى بها كمعشوقته وتغزَّلَ بها قائلًا:
لا تُعِبْ شيراز ونهر ركناباد وهذا النسيم العليل
ولا تُحقِّرْ من أمرها فهْي الخال على خدِّ الأقاليم السبعة
الحياة أنشودة جميلة يتخللها الشجن
الحياة عند حافظ الشيرازي على ما تَحوِيه من كدرٍ وتقلباتٍ ليست دارَ بؤسٍ ومعاناة، بل هى منحةٌ وَهِبةٌ عظيمةٌ من إلهٍ محبٍّ وربٍّ رحيم، وعلينا أن نغتنمَها ونملأها بالحبِّ والسعادة، يقول حافظ:
في هذا العالم من الوهم لا تأخذْ غيرَ كأس النبيذ
في هذا الملعب لا تلعبْ أيَّ لعبةٍ ولكن أحب
والخمر عند حافظ ليست تلك الخمرَ الأرضيةَ التى تُفقِد العقول، بل هي خمرُ المحبةِ الإلهيةِ التى تُنسِيك وجودك وتُبقِيك في معية الله ووجوده.
ويتحدث حافظ عن الحب باعتباره المنقذَ الوحيد للإنسان في هذه الدنيا، وعلى الإنسان أنْ يتحملَ كلَّ معاناةٍ فى سبيل حبِّه الصادقِ الذى يُطهِّر النفوس ويحرر الأرواح، فيقول:
إنني أقول علانية وأنا سعيد جدًّا باعترافي ومقالي
إنني أسير للعشق ولكننى حَرَّرتُ من كلا العالمين بالي
والحب عند حافظ الشيرازي ليس حِكرًا على دين معين؛ فهو أصل كلِّ دينٍ وجوهرُه، فمن وصل نجى ومن ذاق عرف، فنجده يقول:
وكل شخصٍ يطلب الحبيب سواء فى ذلك المفيق والنشوان
وكل مكان منزل للعشق سواء فى ذلك الجامع والكنيسة
المنافق أسوأ من المذنب
عاش حافظ عصرًا مليئًا بالنفاق بدايةً من الحكام إلى رجال الدين وبعض مدَّعِي التصوف، استشرى النفاق في زمانه لحدٍّ خانق، ولكنه لم يقفْ مكتوفًا فعنَّف أولئك المنافقين دون هوادة، وعاش عمره كاملًا شاهرًا كلماتِه ضدهم، وكان يرى أن المنافق أشدُّ إثمًا وأسوأُ من المذنب فقال:
وذاك الإمام الذي كان مشغوفًا بالصلاة الطويلة
قد غسل الخرقة بدم ابنة الكرم الجميلة
وقال مخاطبًا المتشددين من المنافقين بالدين:
فلا تسعَ وراء الأذى والإضرار ثم افعل بعد ذلك ما تريد
فليس فى شريعتنا جرم غير هذا الإثم الشديد
وقال :
ستَحرِق نارُ الدجل والرياء بَيْدرَ الدين
اطرح يا حافظ خرقة الصوف هذه.. وامشِ
وقد دفع حافظ ثمنًا غاليًا لتلك الحرب التي شنَّها على المنافقين، فلم يقفِ الأمر عند محاولاتِ الوشاية والتخلص منه فى حياته، بل استمر لما بعد وفاته، حيث قالوا إنه متهمٌ فى دينه، ولا يُدفَن في مدافن المسلمين، فجادلهم قومٌ آخرون واحتكموا إلى أشعاره، فكتبوا بعضَها على قصاصاتٍ من الورق ثم اقترعوا عليها، فوقعت القرعة على قوله:
لا تؤخرْ قدمَك أو تترددْ على جنازة حافظ
فإنه غريقٌ فى الإثم، ولكنه ذاهب إلى الجنة
ودُفِن تحت شجرة سرو بالقرب من «ركن آباد» الذى طالما تغنَّى بحبه، ثم حظى بعد ذلك بقبرٍ مميزِ البناء فى الحافظية، يزوره الناس إلى اليوم للتبرك.
حكمة حافظ
امتلأت أشعار حافظ بحكمةٍ عظيمةٍ تدل على أنه رجلٌ خبيرٌ أدرك قيمة الدنيا وحجمها واستطاع أن يصلَ إلى جوهرها، فالدنيا لديه دارُ زوالٍ حتى أعظم عظمائها وأعتى جبابرتِها هلكوا وفنوا، والزمن ذو تروسٍ دائرةٍ لا تتوقف أبدًا، فلا بقاءَ لملكٍ ولا سلطانٍ ولا جمالٍ ولا ثروةٍ، فليس علينا أن نَحمِلَ داخل قلوبنا كلَّ تلك الهموم والكدر على تلك الحياة الزائلة، علينا أنْ نهدأَ وننعمَ فيها بالحب والسكينة قدر المستطاع، فنجده يقول:
ولم يستطع جمشيد أن يأخذَ من دنياه إلا حكاية «الجام»
فالحذار الحذار.. ولا تعلقْ قلبك بالأسباب الدنيوية
وقال:
وتنبه! فرباط العمر معقودٌ بشعرة واحدة
وتجرَّ همومَك وحدك، ولا شأن لك بهموم الأيام
وفي هذه الطريق المليئة بالمحن، يدرك عقلي
أن الدنيا وأمورها لا ثباتَ لها ولا محل
الصدى الذي عبر الحدين (الزمان والمكان)
خاطب حافظ الشيرازي الإنسان من حيث كونه إنسانًا، لقد خاطب ضميرَه وإنسانيتَه بعيدًا عن أيِّ تنميطٍ أو تصنيفٍ له، واساه في أحزانه وهمومه ورسم له طريقًا للسعادة والرضا، وربَّتَتْ كلماتُه على قلوبِ الضعفاء، فحلَّقت بعيدًا وكسرت حدودَ الزمان والمكان، فلم يأسر فقط نفوسَ من عاشوا في زمانه، بل ما زالت كلماتُه إلى اليوم تأسر القلوب وستظل.
ولم تحيِ كلماتُه أرواحَ الناطقين بالفارسية فقط، بل تُرجِمت أشعارُه لأكثرَ من مائةِ لغةٍ حولَ العالم وأحيت ملايين الأرواح.
إن أشعارَ حافظ لامسَتْ قلوبَ الناس فرفعوا ديوانَه لمكانةٍ لا يضاهيها شىيءٌ ولم يصل إليها غيره. فيأتي ديوانُ شعره لدى المتحدثين بالفارسية بعد الكتب المقدسة مباشرة، وإذا ما احتار أحدُهم أو أراد المشورةَ ذهب لديوان حافظ لياخذ منه الفأل.
وقد تأثر الكثير من الأسماء البارزة المرموقه في الأدب العالمي بشعر بحافظ مثل «إمرسون» و«جوته» و«غرثيا لوركا»، وقد قال إمرسون: «إن حافظًا هو شاعر الشعراء»، وذكر جوته أن حافظًا ليس له نظير، فقال في كتابه النور والفراشة:
شعرك يا حافظ دار دورةَ السماء
البدء فيه والمنتهى سواء
اخلع نعليك.. إنك في حضرة الخباز
إن لأشعار حافظ الشيرازي حضورًا قويًّا لا يستولى على الألباب بل يستولي على القلوب والأرواح، فإن أعيَتْك الدنيا اخلع نعليك (النفس والجسد)، وتعالَ إلى حضرة الخباز، سلِّمْه قلبَك وروحَك، واتركْ كلماتِه تعجنُهما برفق، واتركْ حكمتَه تختمر داخلَهما، وتحمَّلْ نيرانَ عشقٍ ستُنضِجُهما وتجعلُهما يَسمُوَان ويحلِّقَان في فضاء الحبِّ الرحبِ حيث لا كدرَ ولا حزنَ، حيث التسليم المريح والإسلام الذي لا يعقبه كفر.