رواية العمى .. الجانب المظلم للنفس البشرية

العمى هو اسم الأطروحة التي تركها  البرتغالي الماكر “جوزيه ساراماجو” للبشرية ليجعلنا ندور في متاهات من التساؤل  كلما قرأنا هذا العمل، كم من القبح يمكن أن يكون قابعا في أعماق إنسانيتنا؟
أيكون الإنسان متحضرا لكونه جُبر على التحضر أم بشريتنا فقط جُبِرت على ذلك التحضر .
إلى أي مدي يمكن  أن نساوم على إنسانيتنا مقابل البقاء علي قيد الحياة ، بل أي حياة هي التي تستحق المقايضه.

“كم من الصعب أن تكون مبصرا في مدينة العميان”

دعونا نقترب قليلا من عالم ساراماجو

في إطار تلك التساؤلات يأخذنا جوزيه ساراماجو في تجربة مُفزِعة ورحله لا تنفك تُولج إلى بدايتها حتى تصبح ضمن أشخاص مجهولون الهوِيه في مجتمع ما لا يُفصح لنا عن ماهيته ولا زمانه  ليترك لنا العنان بتخيل كل ما يمكننا أن نتخيله عن ماهيته

تبدأ رواية العمى بإصابة أحد الأشخاص فجأه بعمى مفاجئ تتلوه أشخاص عِده في أوقات مختلفه في أماكن متفرقه، يتفشي ذلك المرض المفاجئ للمجتمع واحد تلو الآخر و تقرر الحكومة بجمع المصابين في “حجر صحي”  وهو مشفي للأمراض العقليه في السابق أصبح  مهجورا خاليا من أي وسيله للحياه اَثاره باليه لا مياه نظيفة، لا مراحيض صالحة، بالكاد يمكن المكوث لحيوان مشرد وليس لآدمي.

يمكث خارج المبني وعلى بعد مسافة كافيه جنود لمراقبة العميان إذا فكر أحدهم الخروج من تلك المقبره سيلاقي حدفه، تترك السلطات السبعه العميان الأوائل بمفردهم ومن ثَم يصدرون تعليمات عبر مكبر الصوت ويتركون صندوقا به طعام ثلاث مرات يوميا ، يبدأ العميان السبعه  (الطبيب، وزوجته، الأعمى الأول، وزوجته، فتاة، طفل صغير ، رجل كبير بالسن)  بمحاولة تدبر أمورهم  من حيث  معرفة أماكن اَسِرتهم وطريقة الخروج إلى الممر لجلب صندوق الطعام ، مع مرور الوقت يتزايد عدد الوافدين وتزداد القذارة وصعوبة العيش، فبداخل غرفة واحدة يأكلون وينامون كذالك غرفتهم هي أماكن تخلصهم من حاجتهم اعتادو القذاره والعيش معها في آن واحد  …

ثم تشتد الأحداث وتُحبس الأنفاس فَيُقتل أحد العميان علي عتبات الحجر الصحي عندما حاول يائسا طلب المساعدة لجراحه التي تقرحت ولسؤء حظه لم يحظى بدفنة كريمة إلا بعد أن نتنت جثته .

إعلان

يزداد الوافدون العميان إلى الحجر الصحي ارتفع العدد  إلى ثلاثون  ثم إلى ثلاثمائه  ليتوزعو بمفردهم على الغرف الفارغة يتدافعون يتحسسون طريقهم حتي يجدو ما يأويهم تمتلئ الثلاث عنابر بالحجر الصحي تتزايد  القذارة في كل شيئ لم يعد بإمكانهم استنشاق هواء نظيف  فقط لا توجد إلا رياح القبح وريح العفن أنه أشبه بالعيش في أقصى مكان في الجحيم.

عندما تظن أن الاسوأ قد آتى ولكن تصطدم أن لا حدود  هنا للسؤء  فقط المزيد والمزيد من القبح .

يعلن العنبر الثالث وهم آخر الوافدين عن سيطرتهم الكامله على الموارد الموجودة وحصص الغذاء التي تأتيهم وأن كل فرد عليه تقديم كل ما يملك  ليقايضه بالطعام  ومن لا يمتلك شيئا بوسعه المقايضه بنساء العنبر “النساء مقابل الطعام” !

 

هل سيقبلون مقايضة النساء مقابل لقمة العيش ليظلو أحياء، وما قيمة الحياة في مجتمع تنازل عن إنسانيته؟
هل للمبادئ قيمه في هذا المجتمع البائس بل هل للمسميات أو الأخلاق فارق؟
في مجتمع أعمى ما الذي يمكننا الأكتراث له؟
كم من القبح بداخلنا تخفيه أوجه الحياة الحضارية؟

سنظل نتساءل مع كل حدث وفي كل فصل. في ظل تلك الأحداث المقيتة هناك شخص مبصر يري كل ما آلت إليه الأمور

 ” حقا كم من الصعب أن تكون مبصرا في أرض العميان “

تري تلك الشخصيه كل ما تتقزز منه الأنفس ستكتم أنينها  وتدمع بلا توقف من هول ما تري  إنها الآن أصبحت العين المبصره الوحيده في مجتمع عَمى بالكامل فتجدها تقول

“لا أعتقد أننا عمينا بل أننا عميان ، عميان  يرون بشر عميان لا يستطيعون أن يروا لكنهم يرون “

 

العمى والإنسانية

إنها ليست معضلة عمى البصر إطلاقا ما تفعل مثل ذلك إنها إشارة أكبر إلى عَمى أشمل، تستطيع المرأة المبصرة أن تخلصهم من سطوة العنبر الثالث ويتقدمون إلى بوابات الحجر هاربين جميعهم ، وهنا يقف الجميع خارجا لكن بم يفيد الخروج من سجن أصغر إلى سجن آخر أكبر حجما

حال الجميع متشابهه البلدة جميعها عميان ولا يوجد مبصرون ، حال البلدة لم تختلف كثيرًا عن حال الحجر نفس القذارة على الطرقات جثث الأموات في كل مكان رائحة العفن والجيفه تنتشر في الأرجاء يتصارع البشر على البقاء ومن يحصل على مصدر للبقاء يحتكره ، لقد  جن جنون العالم!

ملتزما بهذه الوتيرة ينقلنا ساراماجو من الفظيع إلى الأفظع ومن المريع إلى الأشد رعبا

طوال أحداث الرواية حتى تنتهي منها وقد التقطت أنفاسك أخيرا من هول ما وجدت .

لقد أصابني القلق المصحوب بالاشمئزاز والتوتر في كل فقرة أقرأها لأراقب تلك الأحداث المروعة، إنها الفاجعة والطامة الكبرى حين يتجرد مجتمع  من إنسانيته إنه الإختبار الأعظم لأدميتنا  حين تحل الكوارث  وتختفي أساليب التحضر، وكل إمكانات الحياة الحضارية  حينها ستداعب الكوارث فطرة  كل إنسان ستختفي الأقنعة  وتظهر غريزة الإنسان فقط للعراء.

البعض سيبدو حيوانيا تحركه غريزة البقاء حتي وإن اضطر إلى البقاء على جثث بني جنسه. البعض ستظهر طينته الشيطانية سينسى أدميته بل سيقايدها  بكل ما يملا به حوض نجاسته، ستتجلي البشرية أمامنا في  أقبح صورها .

قد يعجبك أيضًا

كالعاده يصور “جوزيه ساراماجو” المشهد كأنه حي أمامنا يكاد ينطق من هول قسوة الوصف لكم بكيت لانحدار الانسانيه اغمضت لبعض الوقت حتي اتصور حال الإنسانيه اليوم ان حدث عارض أفقد الناس رشدهم ..

ولِم اتخيل فهذا ما تعانيه البشريه في يومنا وقبل ذالك وعلي مدار التاريخ .

ففقد النظر ليس بالأمر العسير إنما هو فقد البصيرة، فقد الإنسانية، فقد كل ما يضعنا ضمن تصنيف الإنسان لا الوحوش .

فعلى مدار الحروب والفواجع والكوارث التي تعرضت لها الإنسانية سنجد من يستبيح  الاعتلاء علي جثث البعض من اجل البقاء …

لقد تسائلت كثيرا أثناء قراءتي هل التحضر الزائف هو ما حول الإنسان بداخل البعض إلى مسوخ مفرغه ،  هل قتلت الماديه روح الإنسان حقا هل المذاهب النفعيه والرأسماليه  قد رسخت لقانون البقاء للأقوي فأصبحنا نتسارع على البقاء … أم أن الفطرة كما هي ولكن يختلف تصرف الفرد على قدر حاجته .

لقد فزعني المشهد واحبطني كل تفاصيله فنحن أمام أحد الأعمال الخالدة بخلود  البشرية …ما الفارق بين إنسان أعمى وأخر مبصر إذ لا فرق بينهما فالعمى فقط هو حاله من الاستغناء عن أحد أغطية الروح لتترك الأرواح دون ساتر ….

لذالك العميان هم أشد الناس شفافيه وخطرا في آن واحد …

العمى الحقيقي هو ما نعيشه نحن، هو ذالك الزيف القابع داخل نفوسنا فنحن مبصرون عميان لا نستطيع أن نري !

البصيرة هي الأهم وهي الأصدق ولا تحتاج إلى زوج من القرنية المزودة ببعض الأوردة حتي نرى فالرؤيه تكون بالروح لا بالعين !

للحظه دعونا نتجرد من انعكاسات الصور داخل أعيننا ولنبصر بما هو أعمق مما نبدو عليه سنتعرف إلى العالم بطريقة أفضل لأكون أكثر دقه سنعرف العالم بطريقة أصدق حينما ستزول جميع الأقنعة وسيبقي فقط معدن كل منا في أوضح صوره .

وأخيرا …

رواية العمى مفجعه بروعتها أو رائعه بقسوتها لا يسعني إلا أن انصح بقراءتها مرارا وتكرارا فهي تظهر الكثير والكثير من دواخل النفس البشريه فمن خلال  “العمى”  أعطانا ساراماجو  محاوله لإدراك قيمة البصيرة .

إعلان

اترك تعليقا