الرَّجُل الذي أراد السَّفَر عَبْرَ الزمن

كثيرٌ من المجدِّفين في بلادنا عاشوا بخطيئة الجسد وأتوا منها منذ بدء أيامهم الأولى، بل ولمسوا مفاتن الملذَّات والشهوة التي كانوا يحبونها جدًا، لكن لم يقبلوا حقيقة تواجدها الحقيقيّ ولا نظروا إليها بعين الاحترام، ربما من نفاقٍ، وربما بسبب خوفٍ، وربما لأجل تُرَّهات.
إلّا صائد الشهوات العبرانيّ، ذاك المغامر الذي رأيناه يأتي صارخًا بها مرارًا، حاملًا بيديه وقدميه اكتشافه الفريد الذي عَمّد باسمه الجموع، فصرع أنا الكهنوت وأرداه طريح الأرض. “الهو” هو ما كان يحمله، الغائب الحاضر يقرص ويعضّ أفواه الذين يريدون غيابه.

لقد كان هذا الضمير الهارب أحيانًا مِلكيةً للطبيب: يهوذا الأوروبيّ. في الواقع لقد أراد توزيعه على الجميع حتى الأغنياء منّا، ورغب في إثبات أمره للعالم حتى لو مزّقه البشر، متقاتلين على لقمةٍ منه حتى أذنه. فكان أن فعل ما أراد، ثُمَّ حاولنا نحن نقده مرارًا بأنيابنا التي كنّا نشحذها كل صباح حتى نغتال ضمائره، من دون أن ندري إذا ما كنا قد نجحنا، أم أنّ مهمتنا قد أخفقت أمام أسنانه التي تضحك؟ ورغم هذا ترانا أكلنا من رغيف وسمن اليهوديّ أطنانًا من الأحرف مجبرين أو أحرارًا. ليبدو في الأخير أنّ اليهود لا يجيدون فقط عزف العود والتجارة، بل كذلك سبر أغوار العقل وأسفل البطن.

سيغموند فرويد، اليهود، الأحلام، المكبوتات حين تأخذ نفسًا طويلًا في صدر الإنسان، الطفولة، ومدرسة التحليل النفسيّ. كلمات مفاتيح جديرةٌ بالتمعُّن. هذا ما كان يسير في عقله بتسارعٍ فائقٍ قبل أن يباشر الحديث.

– هل كان يسوع ثائرًا تمرَّد على روما، أم يهوديًّا ومُصلِحًا دينيًّا”؟لقد سَأل معالجه النفسيّ يوجِّه ناظريه مرّة إليه ومرّة إلى الأرض تجاه حذائه، ليَرُدّ هذا الطبيب بسؤالٍ مثله.

ولِمَا ليس الرَّب؟

إعلان

كان بصره لا يزال يمتدُّ إلى قدميه مفكِّرًا فيما سيقول الآن، لكنّه خلص إلى أنّ الأمر ليس بالشأن الذي يستدعي كل هذا الاهتمام؟ فماذا سيحدث لو كان المسيح إلهًا كما حدَّثه طبيبه؟ لا شيء يُذكر عدا بقاءه في الجحيم للأبد، على الأقل سيكون موجودًا، فالعذاب في نار الرَّب أفضل من مليون عَدَمٍ ينتظر الإنسان، هذا ما يعتقد بصحته ويردّده على الدوام، لكنّه واصل النظر في حذائه الذي كان مزهوًّا بمنظره الجيّد ونظافته، فصار يبتسم إليه مثل شيء حيّ. التفت إلى طبيبه وقال: “لم اسألك عنه.”

– وهل يَضُرَّك الرَّب؟
– “ليس حتى أجده”، أجاب بإيجازٍ. فراح الطبيب يُصرِّح قائلًا: “أنت تقتل الآلهة في قلبك، ثُمَّ تشكو من أنّك لا تراها”. بينما ردّ الآخر بعدم اهتمام:
– أنا أرى أنّ الآلهة لم توجد أساسًا لنقتلها.

– يحدث ذلك حين لا ترى غير الشيء الذي تريد رؤيته، لا عجب أنّك لا ترى الإله.

– “لِمَا تُحِب فعل هذا؟ كلّ هذه الثقة بمجرد عدم اخترعه انسان بدائيّ!”. تحدّث الآخر بسخريةٍ أما طبيبه، فقال بعدما أخذ نفسًا وأخرجه بهدوءٍ:
– ربما اهتمامي باللاهوت هو ما يجعلني واثقًا. هذا العلم قويّ.. قويّ جدًا، ليس ضعيفًا كما يظن البعض.
– “هراء”. تفوَّه بذلك منزعجًا وكأنّما أغضبه أن يكون اللاهوت علمًا وقويًّا أيضًا، ثُمَّ أكمل يسأل على نحوٍ سريع ومفاجئ:

مملكتي ليست من هذا العالم! لقد قالها المسيح، صحيح؟

– كيف تذكّرتها الآن؟
– ألا ترى كم تبدو هذه العبارة مدهشة بحق؟ في الواقع أنا لا أراها سوى تلميح لشيءٍ واحدٍ لا غير، وهي أنّ المسيح عاش في مكانٍ لم يناسبه؛ أرض كان لا يريدها، فلا هي صالحة للعَيْشٍ ولا هي ذاك المكان الذي يفترض أن يقطن فيه.

– “وما السبب الذي جعل المسيح هكذا في رأيك؟”

لم يكتفِ طبيبه بتوجيه سؤاله، بل طلب منه مواصلة الكلام ليستمر ذاك في التحدُّث وإلقاء حُجَجه. كان يَعُدَّه وحتى هذه اللحظة صديقًا لا مريضًا يتابع حالته حتى مع فارق السن بينهما وانقطاع تواصلهما لسنواتٍ. لقد تكلَّم الآخر حول كلّ ما رغب فيه عن المسيح، قبل أن يُكمل وفي قلبه شيء من الحذر متفاديًا هذه المرة النظر إلى ملامحِ طبيبه.

– لقد أراد المسيح العودة فقط إلى حيث ينبغي أن يوجد، الذهاب إلى المستقبل وترك الماضي.
– حسنًا، وهل هو أدرك ذلك، ثُمَّ أيّ مستقبل؟
-“لا أعرف مارسال، ربما حاضرنا، إنّ كل روح تدرك أزمنتها”. أجاب بهذا وهو يلاعب السوار البوهيمي الذي على رُّسْغ يده اليمنى بيده الأخرى، ناظرًا إلى طبيبه مارسال يتابع القول: “ورغم ذلك كان المسيح يجيد علاج المرضى بشكلٍ لم يُجِده غيره حتى اعتبروه ساحرًا… إنّ المسيح يبدو وكأنّه ارتاد إحدى كليَّات الطب في عصرنا”.

– “وربما لأنّه الإله… مختصر القصة”. قالها مارسال ببرودٍ بينما كان ينظِّف نظارته، أما الآخر فصار يتحدَّث على سبيل الدعابة.
– اعترفُ، لقد بذل كَتَبة الإنجيل ومؤرخيه قصارى جهدهم في تأليف قصة كهذه.
– لا تنفك عن تكذيب تاريخ الخلاص وتصديق ما يعجبك منه رغم أنّك لا تعرف في اللاهوت إلّا القليل.
– لست بحاجةٍ إلى معرفته، انظر إلى نيتشه، لقد قتل الإله من دون الحاجة إلى أن يكون كاهنًا.

قد يعجبك أيضًا

– أنتَ تُذكِّرني بنفسي عندما كنت مراهقًا.. عندما تتحدَّث بزهوٍ عن نيتشه.

– ليست مشكلتي أنّ الملحدين الذين في طور المراهقة يُعجَبون بنيتشه. هل سنحاكم هذا الفيلسوف لأن لديه معجبين كُثُر؟
لكنّه بعد كلماته الأخيرة فكَّر في قلبه حول أعداد المراهقين الذين جعلوا من نيتشه فيلسوفًا يبدو بمنظرٍ بليد أمام العالم، لشدَّة ما ردّدوا مقولاته التي لا يفهمون حتى شروحها وجعلوها منجزًا يستحق الثناء، وربما سيشاطره طبيبه هذا الرأي وكان سيقول له إنّ نيتشه يبدو سخيفًا في كل الأحوال سواء أحبه المراهق أم لا، إلّا أنّه فكَّر: هل إعلان موت الإله من فاه هذا الفيلسوف المبشِّر يستحق كل تلك الضجَّة؟ فهو لطالما رأى الإله، بعيدًا عن نيتشه أو غيره، غير موجود. إنّه لم يظهر لنا بعد ليكشف عن حقيقته، بالتالي نحن لم نقتله أساسًا. إنّه مختف منذ الأزمان الأولى، لم نرَ مجده فوقنا ولا بيننا، ولا أبنائه الحقيقيّين، فكّل ما نظرنا إليه هم أبناء مزيّفيين كذبة بينما كان هذا الإله العملاق وربما الصغير نائمًا أو فاقدًا لوعيه، أو في الأصل مجرد وهم يُنطَق لا غير.

لقد داهمت ذهنه بعدئذ مثل لحظة إشراق، وسط عاصفة شُكوكه تلك المثيرة لقرف المؤمنين، أيقونة اثنين من القِدِّيسين. لا شَكّ أنّه كلما استحضر صورة نيتشه تأتي صور خُدَّام المسيح إليه، أثناسيوس وأوغسطين، كانا من بين أكثر اللاهوتيّين اللذين تأثَّر بهما منذ أيام مراهقته للمعاناة التي شهداها في حياتهما، ومع ذلك كتبا لهما اسمًا في سفر الحياة والتاريخ، لكنّه تابع توجيه الكلام إلى طبيبه غير المُحِبّ لنيتشه.
– ربما الآباء والقدِّيسون من ينالون تقديرك.

– “أنا لا أقدِّس البشر”. أجابه مارسال معترضًا، ولانت ملامحه فجأةً، فتساقطت معالم الجِدّيَّة التي كانت على سطح وجهه، عدَّل نظارته التي كانت تنحرف عن مكانها لأسفل عينيه مستمرًا:
– محاولاتك في السخرية مني لا تنجح دائمًا، جرّب شيئًا آخر.
انطلقت ضحكات من الآخر، لكنّه وبكلّ أسى وخيبات كانت تظهر على طبقات صوته الحزين، قال: “عندما أتيت إليك منذ أشهر كان اتفاقنا أن تسمعني فقط وتعاملني مثلما كنت تعاملني قبلًا كصديق”.
– وهل تراني أخفقت؟
– لا، لكن أنا أراني غريبًا عنكم كالمسيح.
– حاوِل الخروج إلى الناس، تعرَّف على أشخاصٍ جُدُد.
– هل يهم أن يتعرَّف عليّ الناس، يعجبون بشكلي، يعلمون باسمي والمكان الذي أنا فيه؟
وقف مارسال لبعض اللحظات وسار ببضع خطوات صغيرة أرجاء مكتبه مُحدِّقًا إلى حيطان الغرفة من دون أن يمد الآخر بإجابةٍ، لكنّه بعد أن رجع إلى كرسيه استطاع أن يتكلَّم.

– نعم.. ربما هذا أهم شيء، هل كنت تعلم أنّ الاسم في بعض الأساطير الشرقيَّة يُماثِل وجودك؟ إنّ أيّ شيء ليس لديه اسم هو مجرد عَدَمٍ غير معترفٍ به”. عدَّل نظارته مجددًا وأضاف معلنًا بمزاح: “قم بتغيير اسمك لربما ستصبح الأمور أحسن.

– وما الذي سوف يحدث؟
– البدايات الجديدة أعتقد.
تنهَّد الآخر وقال مع ابتسامةٍ دافئة:
– كم أراكَ عاشقًا للشرق، وكأنّك ما تزال تعيش فيه إلى اليوم.
– الشرق يسكننا مع أنّنا نقتل صورته كلّ يومٍ، وربما قتلناه.
بينما كان مارسال يتحدَّث عن موت الشرق، انهمك الآخر في التفكير حول نفسه أنّه ليس الشرق من يسكنه ولا الغرب أيضًا، وإنّما العالم بأسره. كلّ الأشياء تجد طريقًا فتهوي إليه، حتى عوالم “ستار تريك” الخياليَّة وشخصيات “ساحر أوز”، وكل ما هو مُنتَشل من الحكايات العجيبة والسينما يحظى لديه بقدرٍ من الاحترام.
إنّ جميع الأشياء ترتمي بأشلائها التي عاشت في الماضي وتعيش فيه الآن، جميعها حتى التي سوف تأتي، يخلقها هو ويصنعها لأجل أن تبقى معه ولو كانت في الحلم.

أنا أسقط، أتساقط، أتهاوى. الموت قريب لكن بعيد: تقول الشجرة وأنت.

في شُّقَّتهِ كان يُفكِّر في الحوار الذي دار بينه وبين رفيقه بينما هو يُحدِّق إلى فتاةٍ مع صديقها من النافذة. هذان اللذان يتبادلان في الخارج كل ما يتبادله وحيدان التقيا فصارا وحيدين أكثر، ذلك الحب الروتيني، وتلك الرومانتيكيَّات الفارغة التي تنتشر كالمرض بين أجساد المراهقين كما كان يعتقد.

لكنّه لم يُفكِّر في أيام مراهقته وبدايات شبابه مع أنّه يراقبهما بدِقَّةٍ، في الواقع إنّه يراقبهما كلما ظهرا في شارع شُّقَّتُه من دون هدف، فقد صارا يلتقيان هنا مؤخرًا مرات عديدة كل ليلة من دون أن يشعرا بالبرد أو الخوف في هذا الشارع الهادئ، فقط يأتيان ويقضيان بعض الوقت قبل مغادرتهما، ولحسن حَظّ الاثنين أنّهما يفعلان ذلك من دون إزعاج أحد كما اعتقد.
لقد تناهى له فجأة موضوع تغيير الاسم بشكلٍ خاص أثناء مواصلة تَجَسُّسه، ورغم إعجابه بالأمر فقد رأى أنّه من غير المهم أن يعرف الناس اسمك أو عرقك وطائفتك.
– “إنّ الأمر لا يهم على الإطلاق مع أنّ الناس تجعل ذلك أهم ما في الوجود، بل تماثل الوجود مع اللغة والكلمات”. قال ذلك متحدِّثًا مع نفسه وهو يمسك كوب حليب دافئ يضغط عليه بشدّة، لكنّه توقَّف حين تفطَّن إليه، لقد شعر بالشفقة على الكوب وهو يعتقد الآن ومن دون سبب بأنّه اقترف جريمةً كان ضحيتها هذا الشيء الذي يُخَيَّل إليه أنّه يتألَّم.

– “لقد جعلوا اللّغة تصنع ماهياتنا فكل ما يعرفه الناس عنك هو الكلمات التي سمعوها عنك أيضًا من أشخاصٍ يعتقدون معرفتك مثلهم حتى لو كانت كذب، ليغدو الكذب في النهاية حقيقتنا”. وضع الكوب جانبًا عنه بحركةٍ متثاقلة وهو يتحدَّث، ثُمَّ أردف يقول: “كل شيء لغة”.

أحضر دفترًا صغيرًا وسجَّل كلّ الكلام الذي قاله بسرعةٍ قبل أن تتناثر حروفه بعيدًا عن ذاكرته، ثُمَّ تذكَّر على حِينِ غِرَّةٍ قولًا للقدِّيس بولس: “الحرف يقتل، لكن الروح تحيي”.
يا لها من كلماتٍ حكيمة مِن هذا الرسول. هذا ما كان يؤمن به، وحتى باعتبار أن بولس كان يشير إلى شأنٍ آخر، فيبقى من المعقول كما ظنّ أن يفهمه من أيّ زاويةٍ يريدها من دون أن يستحوذ على عقله أيّ رجل دين.

لقد شعر ومنذ أمدٍ يغوص في أيامِ ما قبل تاريخِ نفسهِ وحكاياتِ طفولته العجيبةِ وليالي خياله الألفِ والواحدة التي روتها حياته، إلى لحظته هذه الرتيبة، المنطقيَّة، الواقعيَّة، والمليئة بالمنهجيات والأحداث الأكاديميَّة، أنّ هذا العالم لن يسعفه الدين ولا حتى اللا دينيَّة، فهذه الأجيال مع أنوارها المكسورة لا عقل لها ولا عقل آخر يقودها، إنّها ببساطةٍ من دون عقل، وحتى وسط هذا المجتمع فإنّ ذاته وجسده أضحى يراهما يترهَّلان على غير أوانهما.

كان متيقِّنًا أنّه قد صار خارج التاريخ والزمن وأحاديثِ الناسِ عنه ولو القدح فيه وراء ظهره، فهو لم يعد يعيش في هذا المجتمعِ المفتوح، حتى اسمه صار لا يُنطَق إلا مرات قليلة في نطاق عمله بسبب تفضيله العزلة والاكتفاء بصداقةِ نفسه فحسب، والبقاء داخل غرفة نومه لوقتٍ طويل مثل وحش وحيد، لكنّه في الواقع ومع كلِّ الويلات اللغويَّة يحب اسمه، وإذا حدث وقام بتغييره سيعتقد من دون شَكّ أنّ كلّ حياته ستنقلب خرابًا، وبأنّ تغييرًا جذريًّا لا يرحم سيلحق بذاتهِ، مع أنّه الآن قد أضحى كتلةً من الموت فقط، كما تبدّلت شؤون عديدة في عالمه.
في الحقيقة إنّ كلّ تفصيل تافه لو تحرَّف قليلًا سيشعر بالخطر منه فتتلاشى أشياء في عالمه، حتى كيفية تناول إفطاره الصباحي واختيار كوبه وصحنه أو طريقة غسله لجسده التي يحرص على بقاء حركاتها واحدة دومًا، أما تغيير وتنظيم أثاث شُّقَّته بشكلٍ مختلفٍ فذاك هو التجديف الحقيقيّ والشرّ الذي يماثل الإلحاد بالإله.

لقد قال له يومًا أحد الحكماء المتفلسفين بالحكمة الهندوسيَّة أو ممن ينتحلون هذه الصفة كما ظنَّ، أنّ التغيير جيد ويسمح للطاقة الإيجابيَّة بالحضورِ دائمًا، غير أنّ حديثه لم يقنعه ولم يجعله يشعر بالراحة.
فهو يحب الثبات، وإنّ المسموح به والممنوع عنه هما واحدٌ لا يمكن أن يمسّهما بأي تجديد. إنّه بشكلٍ ما يبدو إنسانًا لا دينيًّا يعيش حياة الإنسان المتديّن، ذاك البدائيّ الذي عاش في مجتمعاتِ الطفولةِ البشريَّةِ، وكان يفعل كل ما تأمره به الآلهة حتى لا يخرق طابوهاتها فينال من غضبها عظيمها.

لقد شعر أنّه إنسانٌ لم يُولَد بطريقةٍ صحيحة، وأنّه كالمسيح؛ مكانه في مكانٍ آخر في زمنٍ آخر، وإذا كان ينبغي على المسيح أن يعيش في المستقبل، فإنّ انتماءه هو، إلى حيث الماضي البعيد.
إنّه يعترف كل لحظة بأنّه غير قادر على التعامل مع هذا العصر ومع من يعيشونه، سلوكياتهم وعاداتهم وجميع ثقافات الإنسان العصريّ، أما التكنولوجيا التي حشرت نفسها في كل شيء فهو عاجزٌ أن يفهمها ويتفاوض معها، فأفضل مكان على الإطلاق يُحقِّق فيه ذاته هو زمن ما قبل الحداثة وما قبل النهضة إلى حيث ينتمي، لكنّه زمن مرّ حيث بقيت فقط بَعْد الأزمان هذه.

لا عجب أنّه يُفكِّر في الانتحار كل يوم يعي فيه هذه الحقيقة، حتى المسيح حسبه أراد أن ينتحر مثله. ألم تكن تجربته كذلك؟ صومه الأربعينيّ أو حينما كان فوق قمة الجبل والشيطان يلح عليه أن يسقط، ألم تكن محاورةً مع ذاته فقط؟ لا عفريت نورانيّ، أوليس المسيح نفسه الذي قدَّم جسده للصلب؟ أليس هذا انتحارًا أيضا؟

كان يعلم أنّ كلّ حادثة يعتقدها حول المسيح لها تفسيرها اللاهوتيّ والكتابيّ الذي ربما لا يقدر على دحضه فيقف ضعيفًا يواجه رجاله، لكنّه كان يحب تأويل الأمور كما يراها حدسه، فالدافع العاطفيّ حسبه أقوى من الحقيقة والمنطق أحيانًا.

لقد رأى في المسيح روحًا متعثِّرة في عالمٍ لا يعنيها في شيءٍ، فهو لم يكن يشعر بالراحة في ذاك المكان الذي بالشرق ووسط حشود اليهود والكنعانيّين. فمكان المسيح الذي عاش فيه ومات فيه مصلوبًا يسبق زمنه الحقيقيّ الذي ينبغي أن يكون بعد قرون عديدة، ذلك المكان والزمان الذي كان بوسعه فعل الكثير فيه وتخليد اسمه، والمسيح أدرك ذلك، لهذا شعر بضرورة التحرُّك حتى في أيامٍ ليست أيامه، على الأقل حتى لا يموت من دون جدوى، فكان أن غيَّر وجه العالم، بل وجه التاريخ الذي انقسم بولادته إلى شطرين، فأثَّر على المستقبل الذي لم يعشه بجسده بل باسمه الذي خُلِّد فيه.

ربما أكبر خطيئة رآها المسيح هي ولادته، ليست تلك الولادة الفاسدة التي انحدرت من أول أب أضحى الملهم الأوّل للصوص البساتين وناكري النعمة الجشعين، بل قدومه إلى عالمٍ ليس عالمه، شيء لا يشبهه إطلاقًا، لا عجب أنّه لم يذكر أباه ويتذكَّر وجوده، لكن لماذا بقي المسيح لحدّ موته ذاك الابن البار والمخلص لوالدته؟ هل الأمومة تتحدَّى كل الكُرْه وخيبات الأمل حقًا؟ فنقف تجاهها من دون حول وقوّة، هل المرأة أكثر قوّة منّا وجمالًا كذلك؟ لكن لماذا لم يتزوج المسيح ففضَّل العزوبيَّة؟هل للأمر عَلاقة بالمرأة، أم لأنّه عرف باطن الجنس… خطأ الطبيعة والإله؟ ربما كان قد أخطأ وهو يهبه إلى اللّص آدم بتلك السهولة، هكذا فكَّر وتساءل.

فهل يستطيع هو اذن أن يكون مثل المسيح، قويًّا شجاعًا وحكيمًا؟ ليس جبانًا ومنعزلًا ويائسًا مثله، هذا ما كان يسأل نفسه وحتى بوجود الانتحار فهو يضيفه إلى الشجاعةِ لا الجُبْن. أكان ذلك موتًا لأجل الذات أو الوطن أو أيّ هراء يراه الإنسان حقيقة خالصة؟ ويبدو أنّ الانتحار حسبه هو مجرد تسريع للموت أيضًا علينا احترام شجاعته وواقعيّته لا وصمه بالجنون والجُبْن كما تفعل بعض المسوخ.
لقد كان يُفكِّر في الانتحار كل مرة يَمُرّ على محطّة القطار أو يسمع صوته، كلّ مرّة يجتاز الطريق فيه أو يرى شيئًا يمكنه قتله بسهولة، كسيارة تَمُرّ أو مرتفع شاهق وجسر، لكنّه جبان يخاف الألم وليس الموت.

– تُرى كم يحتاج المرء من الحزن حتى يقتل نفسه؟
سأل نفسه وأجاب:
– حياته. نعم حياته… إلى لحظة الموت.
لقد وجد أنّه يُتَوق إلى التحوّل صوب الإنسان اللا عاقل الحزين، الذي تفوّق على كل الغرائز، فقتل حب البقاء فيه، وتجاهل جميع سخافات الحياة بمادياتها ومجدها فقضى على نفسه. إنّه نوع جديد من الإنسان كان يتواجد منذ تواجد البشر في العالم، لكنّه حتى الآن: نظيف يلمع. ذاك مَثَلُه الأعلى.
في هذه اللحظة، هو واثق بأنّه مشروعٌ مؤجَّل لمُنْتَحِر، لا يعرف متى يتحقَّق! مريدٌ لتجربة الموت، وعاشقٌ لهذه المتعة التراجيديَّة بحمولاتها الكبيرة من الألم، حتى إذا كان يخاف يوم حدوث ما يتمناه، أو يفتح عينيه مذعورًا بمجرد تخيُّل نفسه ميّتًا ولو عن طريق قطع عنقه بورقة شجرة أو الوفاة نائمًا.

لا شَكّ أنّ المُنْتَحِر هو مخلوق ضعيف يشعر بالموت ربما أكثر ممن ماتوا، مجرم قتل نفسه لكن بِقوّة وشجاعة، وأكثر من ذلك بصدق على الأقل، فهل هو هكذا؟ وهل بإمكانه تحمُّل الأمر؛ أن يتطوَّر إلى الإنسان اللا عاقل الحزين؟ هل بإمكانه أن يهجر الوجود، والكتب أيضًا، قديمة كانت أو جديدة بمختلف مواضيعها الممتعة التي صُدِرَت وسوف تصدر بعد موته، أو أن يذهب بعيدًا من دون مقدرته على تناول ألذّ المأكولات والحلويات التي صنعها تاريخ الإنسان؟ أبإمكانه الرحيل من دون العودة إلى تأمُّل عالم البشر الجميل أو ارتداء الأحذية الجلديَّة الجيّدة؟
لقد فكَّر أنّ عليه تسجيل الكلام الذي تلفَّظ به منذ دقائق في مفكّرته، وكم تجسَّدت له هذه اللحظة بمنظرٍ مُضحِكٍ؛ هذا الإنسان الذي يحب استغلال حتى أحلك اللحظات والأحزان، التي تجعل صاحبها يقول شيئًا حقيقيًّا ينبع من معاناته مناسبًا لكتابته كخاطرة في كرّاسة. إنّ الحزن لطالما جَعَلَنا شعراءً ومغنيّين، وإننا نحن البشر لم نجد حرجًا في استغلال لحظاته لنمارس به فنوننا ونكتب.

غير أنّه قرَّر تجاهل كتابة تلك الكلمات وواصل التفكير، حول كم أنّ المُنْتَحِر شخصٌ منتهى اللا مبالاة بالحياةِ ومنتهى المبالاة بالموتِ أيضًا، وبذلك فقد وصل مرحلة الكائن الذي يجمع كل الثُنائيَّات المضادة. إنّ من يجمع الانفصام هو من دون شَكّ إله. المُنْتَحِرون إذن يتغلَّبون على بشريتنا، فيصيرون آلهةً صغيرة ونبقى نحن مجرد آلات من دون حجمٍ حقيقيّ تتشبَّث بميكانيكيّة الحياة: لعب، دراسة، عمل، زواج، إنجاب، ثُمَّ ذاك الموت.

لا ريب أنّ المسيح أكبر انتحاريّ، قتل نفسه واغتال التاريخ الذي كان قبل ولادته، ورغم هذا فقد وجد أنّ المسيح محظوظٌ بزمانه حتى لو كان لا يناسبه، تلك الأوقات التي لم تكن بها حالات الحداثة وإنسان التكنولوجيا، فالمرء لم يكن منشغلًا بذاته، بل بالآخر وما يصدر عنه، لأنّ كل حركة غير مألوفة ستُعرِّض حياته للخطر أو للأمان.
لم يكن التنوير والعقلانيّة ذلك الوقت بل حبّ الرّب والخوف منه، لا عجب أنّ كلّ الأنظار ركَّزت على المسيح، وآذان الناس سمعت عِظَته، وكثيرٌ من الأيادٍ صفقت له والأفواه قدَّسته، وأخرى شتمته. أما الآن فكلمة واحدة ضد العقل، سيكتشف صاحبها أنّه قد صار مجنونًا داخل مصحة ما بإثباتاتٍ من أوراقٍ طبيّة لا ينكرها إلا المجانين، أو يجد نفسه وحيدًا حيث الجميع تجاهله، أو ربما لم يشعروا بوجوده من الأساس حتى يسمعوا قوله.

حتى صديقه مارسال الأخصَّائيّ في علم النفس، لم يجل في خاطره قط أنّه سيلجأ إليه يومًا، لقد حدث كل شيء بسرعة غير متوقَّعة. إنّه حقيقةٌ يعرفه وتلك كانت المصيبة، مصيبة أن يكون طبيبك رجل عرفته من قبل. إنّ الطبيب يكسب مجده واحترامه وثقة مرضاه بكونه غريبًا عنهم حتى يسمحوا له على الأقل بالدخول إلى عالمهم المشوَّه الذي يتداعى فربما يستطيع ترميمه، على الأقل ستفعل ذلك الأدوية إذا لم تفلح ثرثرته، لا أن يكون صديقًا عرفوه، ومع ذلك لقد طلب منه معاملةً خاصة في الأخير كرفيقٍ مخلص لا معالج نفسيّ، كما كان يراه مختلفًا، رغم أنّه من وطنٍ آخر لا يَمُّت لهذه الجغرافيا والدم البارد بأيّ صلة، ورغم حبّه كذلك للاهوت والدين، إلا أنّه رجلٌ ذكيّ متميّز، فهل هو مثله قد ضلّ طريقه الزمنيّ؟ وهل كان بإمكانه أن يوجد في القرون الوسطى؟ ربّما لو حدث ذلك لرأينا كُتبًا تؤَلَّف عنه، ربّما كان بإمكان مارسال أن يصبح: توما الإكويني، ولِمَا لا يكون بونافتورا، أو كالفن الذي يُبجِّله هذا الطبيب ويمقته هو.

لقد وجد أنّ تفكيره طال وهو واقفٌ يراقب منذ أن كان في العيادة، كما تعاظم تعبه وشعوره بتأخُّر الوقت. ارتمى على السرير يوَّد فقدان وعيه حتى لا يعامل عقله كعبدٍ يعمل في حقول السهر، وأثناء هذه اللحظات التي أراد فيها التحرُّر من العقل وقَتْل الذاتِ بالنوم أدرك جوع جسده فهو لم يأكل منذ منتصف الظهيرة باستثناء شربه لكوبٍ من الحليب الدافئ، لكنّه أغمض عينيه يستسلم للنوم غير مبالٍ، فالعاديّ عنده هو ترك نفسه للجوع مرات عديدة مثل حيوانٍ جريحٍ ينخر الإهمال جثته.

في الصباح استيقظ مع صداعٍ في رأسه يتكرَّر منذ أشهر، وشعور بحزنٍ يلازمه منذ سنواتٍ، ربما كان يتأتَّى من الثبات الذي كان يتوق لبقائه معه، رغم أنه بشكلٍ غير مُعلَنٍ يتوق إلى تبدُّل الحال للأحسن، لكن الأحوال دومًا تبقى بنفس الوتيرة كل مرة تظهر فيها الشمس.
كان يحيا مع الموت الذي كان أمامه وخلفه كل يوم قبل حتى أن يموت، فهذا حال الأحياء الذين يموتون كلَّما استيقظوا صباحًا، إنّه بشكلٍ واعٍ يرى الموت بأقدامٍ إلى جانبه، وربما كانا موتًا واحدًا يعيش في الحياة.

لقد أدرك بعد ثوانٍ أنّ اليوم هو نهاية الأسبوع فلن يحدث جديد فيه، لكنّه على الأقل سيجد فائضًا من الوقت ليكمل قراءة الكتاب الذي بدأ به منذ أربعة أيام، فرجع إلى النوم حتى الساعة الحادية عشر كونه يحب الرقاد إلى هذه الساعة.

إنّ الكتاب الذي كان ينوي إكماله بعد استيقاظه بعنوان “التاريخ الطبيعي ونظرية السماء” لإيمانويل كانط، ولم يخفي إعجابه به أوّل مرة حين علم أنه عملٌ يتحدَّث عن العلوم والفلك بعدما اعتاد على رؤية إيمانويل كانط فيلسوفًا سياسيًّا وأخلاقيًّا. لا عجب أنّ حبه للفلك كان واضحًا لكل شخص دقَّق في كتابه “ميتافيزيقيا الأخلاق”، الذي أشار فيه إلى إيمانه بوجود كائنات فضائيَّة عاقلة، وها هو الآن سيجد متعة أخرى ترافقه اليوم قبل أن يعود في الغد إلى العمل بإدارة المستشفى.

لكن اليوم مرَّ بسرعةٍ ومع ذلك فقد أنهى الكتاب الذي أخذ طاقته المتبقيَّة، حتى عمله صار يرهقه أكثر كل يوم يذهب إليه، وإنّ أسوأ ما فيه ليس الواجبات العمليَّة بذاتها، بل رؤية الموظفين والأطباء والممرّضين والمرضى. إنّ المستشفى أشبه بعالم مختلف ومخالف للعالم الخارجيّ، ورغم هذا عليه أن يقاوم حتى يكون فردًا منتجًا مثل الجميع، فهذه هي الحداثة في شكلها البسيط ولو كان الجميع لا يطيقون أقدارهم التي تحتِّم عليهم هذه الإنسانويَّة البغيضة، هذه الأخيرة التي بدورها تنتج تعبهم وتولِّد آلام رقابهم وعيونهم كل يوم بتخاريف العمل والاستقلال الذاتيّ والحريَّة، تلك الحريَّة التي تجعلنا نستيقظ صباحًا ليرضوا عنّا، فتحدِّد حتى موعد نومنا المبكِّر، فيا لنا من عبيدٍ أحرارٍ!
فكَّر متسائلًا عن إذا ما كانت الحريَّة تعني دومًا أن نختار، ألا يمكن أن تكون الحريَّة في عدم اضطرارنا إلى الاختيار بين شيئين أو حتى مئة؟

لقد خلد إلى النوم في هذا اليوم مبكرًا، وحتى أنّه لم يكترث إذا ما كان العاشقان اللذان اعتاد على قدومهما سيأتيان أم لا هذه الليلة، حتى يتسنَّى له التلصُّص قليلًا على حبهما كما كان يفعل، ذاك الحب الذي رآه مجرد هرمونات مشاكسة ومحتارة لا تفرِّق بين الحب والنمو البيولوجيّ والفكريّ.

في اليوم التالي وبعد أن أمضى صباحه ومسائه في المستشفى مؤديًا أعماله الروتينيَّة، عاد إلى شُّقَّته بعد أن تناول طعامه في الخارج بمطعمٍ شعبيّ اعتاد على ارتياده أحيانًا، وأمضى بعض الوقت يتأمَّل جمال الطبيعة ويشكر جغرافيا بلده الخلَّابة على ما تقدمه رغم كل شيء.
لقد راقب أثناء ذلك عددًا من الطيور التي كانت عائمة في إحدى البحيرات الصغيرة، لم يستطع خلالها معرفة إذا ما كانت مجموعة بطّ أم إوزّ، فهو لم يكن قادرًا على التفريق بينهما منذ طفولته ولم يعنه ذلك يومًا. شرد ذهنه بعيدًا لحظتها فصار يتمنى مُكلِّمًا ذاته:
– أريد أن أشعر كما تشعر بطّة، قِطّ، حيوان.. حشرة، هل هم يشعرون أصلًا؟ أم يفعلون شيئًا آخر؟ هل تملك الحيوانات ذكريات وأحلام؟
تنهَّد بعمقٍ وواصل المراقبة والكلام قائلًا: “أن تكون حيوانًا ذاك إحساسٌ عظيم”.

ثُمَّ راقب تحرُّكات بعض الأشخاص الذين كانوا يمرّون على مرأى منه من دون هدف، فصار يفكِّر في أمورٍ أخرى غير ما كان يتمنى، يتذكَّر مآسيه كما أيّ إنسان يعيش مأساته من دون أن يكون بطلًا إغريقيًّا أو نصف إله: أوديب، أخيل، أطلس وبروميثيوس.

كل شخص يعيش كبطل أسطوريّ مع كثيرٍ من الحزن في قصته، لكن من دون ضرورة أن يعاصر زمن ما قبل البشر، أو الحديث مع الآلهة والعرَّافات وقتال الجبابرة وحمل الرماح، بل أن يعيش في عصور الحداثة، يجلس على مكتبه، يحمل قلمًا أو فرشاة رسم، وربما داخل ورشته يمسك مسمارًا. إنسان اعتيادي هو نفسه هذا الشخص.

– أن أموت مثل أيّ رجل بائس عادي، أتمنى ألا يحدث هذا.
أمنية أخرى تمنَّاها اليوم وهو يتأمَّل يديه وكأنه ينتظر منهما فعل شيء ما، قبل أن يغادر المكان راجعًا إلى حياته الواقعيَّة. هناك عند العودة داخل غرفته، كان يستمتع بالتحديق في مشهدٍ سمح له زجاج النافذة وستائرها المنزوعة برؤيته، حيث تظهر فيه الفتاة مع صديقها جالسين على مقعدٍ.

– “مرحبا”.
تفوَّه بالكلمة على نحو مازحٍ من خلف زجاج النافذة، ليتذكَّر أثناء ذلك إحدى الفتيات، لقد باتت صورتها تتكرَّر على ذاكرته أحيانًا، تلك الذاكرة الآنيَّة الوحيدة جدًا التي صارت مليئةً بشِباك العنكبوت التي تتجوَّل في فراغها وتنسج شباكها، محتلةً بذلك ذاكرة رجل ميّت يتنفس، لا شيء فيها غير جدول عمله وروتينه اليوميّ الذي يحفظه.

كان يُبقي تلك الفتاة سرًّا بينه وبين قلبه، لم يخبر عنها أحدًا من قبل بعد أن رأى ضرورة تجنُّب التحدُّث عنها لأيّ كائنٍ حيّ حتى لو كان قطة لا تفهم. فقد اعتاد على رؤيتها مرات عِدَّة بعد أن تعرَّف على مكان عملها منذ سنة ونصف، وقد رجعت إليه صورتها وهو يتذكَّر مروره عليها منذ أسبوع تقريبًا، إنّها في الواقع تعمل في مكتبة والدها السيد بيار، وهو أستاذ ثانوية معروف في هذه الضواحي، كما أنّه شغوفٌ بالكتبِ وحبّ المعرفة، ورغم أنّ المكان ليس بعيدًا كثيرًا عن مكان عمله إلا أنّه يزوره بشكلٍ محتشمٍ.

جميع من في هذه الضواحي يعرف هذه المكتبة، ينادونها بمكتبة بيار. إنّه لا يدري لماذا يفعلون ذلك مع أنّ ابنته هي من تقوم بمعظم العمل، أمعقول أنّ هذا العجوز يستغلها؟ لِمَا لا يتركها تعيش لوحدها حرَّة كما الجميع، أم أنّها راضيةٌ بذلك؟

إنّه لم يتحدَّث إليها من قبل إلا قليلًا عند تحية الصباح أو ما فيما يتعلَّق بالمكتبة، غير أنّها تبدو من النوع الهادئ والغامض الذي لا يحب الكلام ولا محاولة التعرُّف على الزبائن جيدًا والغرباء، ولِمَا لا تكون مكتئبةً مثله. كانت الشخص الوحيد في عالمه الآن الذي يكترث له قليلًا وعلى الأقل يلامس وجوده ويتكلَّم معه على حياءٍ عن رغبةٍ وتفضيل.

قام بخطواتٍ صغيرة نحو مكان كتبه ليشرع في قراءة كتابٍ جديدٍ هذه الليلة، لقد كان الكتاب لأومبرتو إيكو الذي حمَّله عُنْوَان “كيفية السفر مع سلمون”. تصفَّحه بشكلٍ عام وألقى عليه قراءات سريعة قبل أن يبدأ به بشكلٍ جديّ، كتاب ساخر يثير الضحك.
ولكنّه استذكر مجددًا الفتاة، إنّه يبحث عن طريقةٍ للتودّد إليها، وما من طريقة غير واحدة يعرفها وهي إهداؤها كتابًا ما، لكن الكُتُب كثيرة من حولها حقًا، فهي فتاة مكتبة، بالتالي عليه أن يهديها عملًا لم يسبق وأن دخل مكتبتها أو على الأقل لم تحفظه عينيها من قبل في أي مكانٍ آخر.

حاول أن يستعيد توازن عقله ليبدأ في قراءة المؤلَّف الذي بين يديه، فطالع منه عددًا من الصفحات بتركيزٍ بالغ وابتسم بين كل فقرةٍ وأخرى، ومن وقتٍ لآخر كان يكرِّر قراءة الأسطر كما يفعل دومًا، غير أنّه لم يستطع إكمال حتى أربعين صفحةً منه، فكل يوم كان يتراكم إرهاقه ويُصاب بالتعبِ، لا من عينيه بل من جسدهِ كُلّه الذي لم يعد يطيق البقاء على وضع معين لمدةٍ طويلة، كما أنّ موعد نومه قد فاته.

أرى احتضار ذاتي التي افترقت عنّي منذ دهر، مهجورة هي، وكل الأشياء.

بعد شهر رجع إلى عيادة طبيبه في جلسةٍ أخرى، هي اجتماع صديقين أيضًا، وبما أنّه أراد رأي مارسال أو بالأحرى طبيبه في موضوع الفتاة بائعة الكُتُب، فقد قرَّر إفشاء سِرَّه الصغير، الذي تخوَّف قبل ذلك من أن يتغيَّر شيء في يومه إذا ما عرفه أحد، لكنّه في الأخير سقط في شباك لسانه، كما أنّه ما دام السرّ مجرَّد أصواتًا تحمل معانٍ، لا حركات روتينيَّة يقدّس بقاءها، فلا بأس بقوله لطبيبٍ مهمته سماع الأسرار، هذا الإفشاء لسرّه الذي جعل مارسال يسأله بفضولٍ عن ما إذا كان يحب الفتاة.

– أظن أنّي لست حتى معجبًا بها، لكنّها تثير اهتمامي وربما فضولي.

– ما اسمها، على فكرة؟
– صارت تهمك الأسماء أكثر من الأشخاص ذاتهم، اسمها لويز.
سأل مارسال مبتسمًا:
– وما دامت لويز لا تعجبك فماذا تريد منها؟
– لا أعلم، أظنني أحتاج إلى الحب، حتى لو كانت لا تعجبني، سأستغلها لأجل ذلك ولأجلي.
– ربما أنت في حاجةٍ إلى الحب حقًا، لكن هل أنت واثقٌ أنّه سينقذك؟
– أنت أدرى، أخبرني.
– بماذا؟
– ألستَ متزوجًا؟
– نعم، لكنّني لم أتزوج عن حب.
– “أووه كم أنت رجل مسكين، كيف حصل ذلك؟” قال الآخر وهو يصدر أصواتًا توحي بالصدمة مع ضحكاتٍ صغيرة.
– “حكاية طويلة، لكن الأهم هو أنّ الحب وجد طريقًا إلينا بعد ذلك ربما أكثر من أيّ شخصين عاشقين، إنّني أحبها ومفتون بها”.

– أتمنى فقط أن تكون مفتونةً بك أيضًا.

أخذ مارسال بعضًا من الوقت في الرد وكأنّه يتذكَّر شيئًا حتى تكلَّم قائلًا: “في الواقع لطالما أنقذتتي زوجتي، إنّها تفعل ذلك كل صباحٍ ومساء. اعتقد إذن أنّ الجواب هو نعم”.
– آمل أن يبقى زواجكما هادئًا هكذا. من أعماق قلبي المكسور أريد أن أهنئك على هذا الزواج السعيد رغم أني أشُكّ في وجود شيءٍ كهذا، لكنّي سعيد لأجلك.
– سوف أكون أكثر سعادة منك لو حاولت الحصول على بعض الهواء أولًا وابتعدت عن شُّقَّتك قدر المستطاع، على الأقل حتى تقضي وقتك مع هذه الفتاة.
– أريد إهداءها كتابًا.
– وهل تظن أنّها تحتاج لكتابٍ آخر؟
– إنّها تشتاق ربما لرجلٍ يهديها واحدًا بعدما باعت وأهدت كُتُبًا كثيرة.
– وربما فتاة.

بينما كلمات مارسال الفكاهيَّة تنساب على سمعه كان هو مشغولٌ في التحديق إلى الحائط الذي كان على جدرانه عِدَّة لوحات، لوحات تجاريَّة مطبوعة تقلِّد أعمالًا أصلية من مختلف المدارس بجودةٍ ممتازة، فمن اليسار منه ووسط الحائط نجد لوحة كلود مونيه الشهيرة من المدرسة الانطباعيَّة “سيدة في الحديقة”، التي لا يمكن إلا الاستسلام لجمالها.

وهناك لوحة كارافاغيو الطبيعيَّة والواقعيَّة يمينًا: عمله المستوحى من إنجيل يوحنا “توما المرتاب”، ثُمَّ نجد لوحة تجريديَّة لكاندينسكي تخص دوائره الجميلة الملوَّنة تعود بنا إلى اليسار، مع واحدة صغيرة يتجلَّى فيها النمط السرياليّ، وجد نفسه جاهلًا بفنَّانها وربما حدَّثه عنها مارسال، مع لوحةٍ أخرى أصليَّة ربما تكون لأحد الرسَّامين المتواضعين.

كما كان بالمكان موقعًا خاصًا يضم عِدَّة تُحَف فنيَّة مختلفة، مع وجود الكتاب المقدَّس فيه الذي جعل المنظر مضحكًا قليلًا بالنسبة له، أما الكراسي الكبيرة فإنّ عددها يفوق الأربعة مع مقعدٍ طويلٍ، وكل هذا لكي يجد المريض نفسه مرتاحًا فيختار المكان الذي يريد الجلوس عليه لا مجبرًا كفأر تجارب، مع أنّه كذلك في كل الأحوال.

كلّ هذه الإفرازات الجماليَّة ونزيف الفَنّ يخرج من عقله، ضوضاءٌ من الصور ترّن عليه كجرس. هكذا كان الأمر قبل أن يمدّ يده إلى أعصابه الواهنة يغمسها داخل مياه البدء الفكريَّة ليبدأ بإحياء التفكير بمارسال. إنّه بالنسبة إليه طبيب غامض يجمع بين حبه للتاريخ المسيحيّ بشخصياته المقدَّسة وقيّم الحداثة المزعومة، لكنّه يبقى رجلًا ذكيًّا مثقفًا يحاول توفير جوّ مناسب وتأمُّلي لمن يزوره، لكن الكثيرون ولأسبابٍ عِدَّة يرونه قد أضحى فاشلًا في عمله لا يريد الاستسلام ولا يرغب في التوقُّف وغلق العيادة.

كما أنّه يبدو غريب السلوك له، يحمل أفكارًا مُشَتَّتة ولا يزال منقادًا لبعض الأشياء في الدين وأيضًا العلم، مع تقديره لعلم النفس في نفس الوقت. كما رأى أنّه حتى هو يشكو من مشكلاتٍ نفسيَّة، فمن قال إنّ الطبيب هو مجرد آلة تُصَلِّح الآلات الأخرى من دون أن يكون لديها هي الأخرى أعطالها؟ ليس الطبيب إله يعالج آلاته، بل هو آلة مثل البشر وربما معطوبة أكثر.

لقد انقطع شروده أثناء تأمُّله لتلك الأعمال الفنّيَّة مع ما كان يجول بخاطره حين سمع مارسال يسأله بما يفكر فيه، فقال: “لا يأتي الكثيرون إليك الآن، اقترح أن تجعل عيادتك معرضًا للفَنِّ”
– هل اعتبر كلامك إطراءً أم ذمًا؟
– الاثنين.
لقد فكَّر أنّ صديقه يشهد عزوف الناس عن عيادته على الأقل ليس بذلك العدد الذين كانوا فيه قبلًا كما أخبره، رغم كثرة البؤساء في هذه المجتمعات الحديثة التي تشكو من كثرة التزاماتها المهنيَّة والاجتماعيَّة بفعل التقدُّم، تلك الفكرة والتجسيد البائس الذي يخلق فردًا غارقًا في حالاتٍ من الضغط النفسيّ.
غير أنه لم يهتم باستقصاء سبب فشله الواضح هذا ولم يهمه إذا ما كانت هناك مشاكل مهنيَّة معيَّنة، وبينما كان يفكِّر نهض مارسال من مكانه ووقف ليس بعيدًا عن الكرسي الذي كان يجلس فيه الآخر بطريقةٍ لا مبالية تميل إلى اليمين، يفضّله على المقعد الطويل، هناك سمع مارسال يسأله قائلًا: “هل تشعر أنّك في حاجةٍ إلى فتاةٍ كل ليلة؟”
تجاهل سؤال مارسال، فأكمل هذا الأخير يقول: “لا تزال الرغبة فيك”.

في الواقع إنّه لم يصرِّح مطلقًا أنّه معجبٌ بهذه الفتاة بذاك الشكل الذي فهمه طبيبه ورفيقه، غير أنّه لا يجب أن يلوم نقص فهمه هذا، فهو لا يتحدَّث إليه كثيرًا عن هذه الأمور العاطفيَّة، خاصةً أنّه لم يكن يراه منذ سنواتٍ قبل هذه السَّنَة الأخيرة، ورغم إخباره بأمر لويز إلا أنّه لا يرتاح له كما يجب. فهل جلسته معه، حتى وإن كان قد طلب أن تكون مختلفة عن بقية المرضى، هي استثنائيَّة حقًا، أم أنّه يضحك على ذقنه ويعامل جميع مرضاه بنفس الطريقة ويردِّد لهم نفس الكلام؟

وفي نهاية موضوع فقدان الثقة هذه، فإنّ هذا يحصل ليس لشيء في شخص مارسال؛ بل ببساطةٍ لأنّه لا يثق بأطباء وعلماء النفس وكلّ المكدّسات التي فيها مقولاتهم.
من اعتبار الإنسان كتلة سلوكات تُشحذ عبر المجتمع، أو كائن تتحكَّم فيه اللبيدو ومشاكل الطفولة الأوديبيَّة وعُقَد عديدة، إلى المخلوق العدوانيّ الذي لا ينفصل عن العنف، وكلّ هذه التخمينات الواثقة بنفسها أكثر من كتابات رجال الدين، والمصيبة الأكبر تحليل هؤلاء للمرأة التي أنزلوها عارية ومجرَّدة من كرامتها أسفل موقع الرجل طيلة عقود من الزمن، ورغم تحسُّن وتطوّر هذا التخصُّص بفروعه وصعود مدارس مختلفة له ونقد ما كان، مع اعترافه بجهله لهذا العلم، فهو لا يزال فاقدًا الأمل في أن يحترمه يومًا، لأنّ كلّ ما بُنِي على أساساتٍ هَشَّة حسب ما يؤمن به، سيأتي عليلًا بحيث يبقى فيه المرض والتسوّس حتى لو جملناه وأضفنا عليه أو تراجعنا عن بعض الرقصات التي كانت يومًا ما تُبجَّل كعلم رفيع.

أما أطباء الأمراض الجسديَّة، قادة الأبيض، فلا يختلفون عنهم، يعاملون المرضى والمعطوبين كدجاج، يدخلون الغرف، حسب مواقيت محددة على الأغلب كمربيي دجاج ينتظرون متى تبيض هذه ومتى تنفق الأخرى.

لا يشعر الطبيب بالحياء حسبه، فهو يقف يتأمَّل عذابات المرضى كل يوم ويرسل أيضًا من ينوب عنه من الممرّضين، حتى لا يأخذوا من وقته الثمين في مهمته المزعومة لإنقاذ الأرواح، حتى صار الموت والمعاناة أمورًا طبيعيةً لديه بل يجب أن يكون طبيعيًا ذلك ليكون في المقدّمة، فيربح قطع الفضة ومصطلحات اللّغة التي تمنح وجودًا مميَّزًا له: الطبيب، الدكتور، الأخصائيّ، وكل ألقابهم العظيمة.

إنّ أصحاب السترات البيضاء أشبه بالطبقة الأرستقراطيَّة أو البرجوازيَّة لكن داخل مستشفى معتّل في ذاته يُبنَى على أمراض الناس، وحيث تسيطر فيه هذه الطبقة ليس عبر مالها بل نسبها الطبيّ الأكاديميّ. فلدى الطب أبواب تجعل منهم نساءً ورجالًا على شاكلة السياسيّين، حيث يتاح لهم ممارسة السلطة، لكن على الجسد، وعلى توليد جيوب المرضى التي تلد أوراقًا كثيرة في عياداتهم، وإخراج القطع الفضيَّة من أفواهم. هؤلاء البؤساء فئران التجارب والمال، هكذا يراهم سادة هذا العالم الأبيض القذر، بينما يبدو للواحد منا وهو يتأمّلهم، أنّه بداخل كل رأس طبيب: رجل أعمال كبير يتخفَّى بمئزر الملائكة.

إنّ المرضى نفسيًّا، وهو قد صار واحد من منظومتهم مع المرضى عضويًّا يتشابهون، الأوّل يعاني تشوّهًا في ذاته، أما الآخر ففي بيولوجيّته، وكلا الأمرين مهمين، مع أنّ الناس تشفق على أمراض الجسد وتدمي بصيرتها حتى لا ترى مرضى الروح، ربما استخفافًا بها فهي في النهاية لا تراها ولا تلمسها.

ورغم أنّه يؤمن بالمادة والجسد مع قليلٍ من الوعي الغامض والتطوريّ الذي يثير في نفسه الألغاز والغرابة لا الروح، إلّا أنّه لا يجب على البشر حسبه الإعلاء من شأن هذه الروح، ونفخها بهراءٍ فارغ كما فعل العديد من الفلاسفة ورجال الآلهة قبلًا لمدة طويلة بينما كانوا يحتقرون لحومهم وهرموناتهم، لكن بمجرد مجيء سبينوزا الذي يُعَد من الفلاسفة الذين نالوا حبه، كان أن أمسك أُذن العالم من غير رحمة وأعطاه درسًا حول ضرورة احترام كليهما. أما الآن وبطريقةٍ ما، لا يزال الإنسان في أعماقه كائن يعترف بالمادة فقط على عكس ظاهره، لاسيّما حين تكون حياته على المحكّ ومصالحه مهدَّدة فحينها نراه يؤمن فحسب بما يلمسه ويراه، ربما لأنّ لعنة الطبيعة لا تزال تسري في غرائزه فيُفرغ قلبه من الأخلاق والآلهة التي لم تَعُد تخدم جسده. وسواء وَجدت كلّ إنسان: الحقيقة في اللحم أم الروح. فإنّ جِراح النفس وآلام الجسد لسوء الحظّ شئنا أم أبينا، هما الاثنان في اللعبة يخسران، بل يعيدان الخسارة إلى ما لا نهاية مثل عودٍ أبدي، لن ينفعه إنكارنا.

كان يسبح ويغوص في أفكاره من دون إدراك إذا ما كان مارسال قد كلَّمه من دون أن يسمعه ويجيب، أو أنّه التزم السكوت أيضًا وتركه مرتاحًا في دوامته من الخواطر، لكنّه استعاد وجوده عنده وخرج عن صمته يطالب مارسال بفتح أيّ موضوع.
– ما دمت تريد نقاشًا فعندي سؤال لك، هل سمعت من قبل “بِنصل أوكام”؟
– “لا لم أسمع. في الحقيقة لا أعرف عن ماذا تتحدَّث”. هكذا رّد الآخر بشكلٍ صريح، ففي كل مرة يُطرَح عليه مثل هذا السؤال يتذكَّر حكمة من حِكَم الشرق الأقصى ظلت تُعَشِّش في عقله لسنواتٍ: “يجب أن تقول إنّك تعرف عندما تعرف، وتقول إنّك لا تعرف عندما لا تعرف”. أمّا مارسال فقد رجع إلى مكتبه ليجيبه.

– إنّه رأيٌ قال به أحد الفلاسفة: ويليام أوكام، وهو عن تقبُّلِ الاقتراحات البسيطة والقريبة، فربما هي الصحيحة والمقنعة أكثر، بدل تعقيد الأمور وإطلاق فرضيات غير معقولة أنت في غنىٍ عنها.

– وأنت تعتقد أنّ قصة الإله الذي تجسَّد وصار رجلًا يعيش بيننا قصة معقولة وبسيطة؟
– وهل يعني ذلك أنّ كل ما هو بسيط يؤدي بالنتيجة إلى كل ما هو مألوف؟ يمكن أن تعني البساطة شيئًا خارقًا للعادة. إنّ قصة المسيح بسيطة وسهلة الإدراك لكن خارقة؛ إله تجسَّد وأنقذنا.
– “إذن لِمَا لا يكون المسيح ببساطةٍ رجلًا عاديًّا ضَلَّ طريقه في الزمن؟ أمرٌ سهل”. وجَّه سؤاله الاستفزازي لمارسال ثُمَّ استمر في القول: “المهم كل شخصٍ وأهوائه، لكن هل ترى الحقيقة نسبية مثلي؟”
– قليلًا، إنّني كأيّ رجلٍ متعلِّم ومتمدِّن أحاول قبول التفسيرات التجديديَّة للدينِ والكتابِ دومًا.
– “وأظنك تخفق دومًا، عمومًا لا بأس بك كرجلٍ معجب بكالفن”. أجابه بنبرةٍ لا تخلو من التهكُّم مواصِلًا، بينما اكتفى مارسال بالصمت ينتظر منه توضيح كلامه.
– كل مرة أسمع فيها بكالفن أتذكر الميكيافيليَّة، هناك تناغم عجيب بينهما. كالفن رجل الدين الذي أحرق المسكين ميشال سيرفي، لقد كان ميكيافيليًّا بحق.

ردّ مارسال مستنكرًا:
– في الواقع ليس هو من أحرق الرجل.
– لقد كان موافقًا على تلك المهزلة.
رتَّب مارسال بعض أوراقه التي كانت على المكتب، بعدما رأى أنه يتحدَّث مع جاهلٍ بتاريخ الكنيسة واللاهوت، ينبغي تجاهل بعض كلامه أحيانًا، وخاطبه يقول: “لا أظن أنّه المكان المناسب لنناقش فيه تاريخ رجال الكنيسة”.
– تبدو غاضبًا.
– لست كذلك، أنا حزين لأجلك فقط، أنت تعامل كالفن مثل رجل عاش معك وأساء إليك، الأمر ينطبق على جميع الشخصيات التاريخيَّة، هل جربت يومًا أن تعيش حاضرك؟ أنت تعيش داخل التاريخ والفكر، توقَّف عن ذلك وعش داخل حياتك.
كان يؤمن ببعض من القول الذي وجَّهه له مارسال، إنّه يحِبّ العَيْش في الماضي وربما هو يعيش حقًا فيه ولا يعرف شيئًا عن حاضره، وربما هو أيضًا يحلم بعيش الماضي بينما لم يَعْش لا ماضيه ولا حاضره، بل مجرد حلم كبير يختبئ داخل التاريخ.
غير أنّه منح لنفسه مزية نقده كذلك مثلما فعل معه، فلقد اعتقدَ أنّ الوقت الذي ينفقه مارسال في دراسة اللاهوت مجرَّد مضيعة للوقت، إنّه يرهق نفسه بدراسة اللاهوت، وهذا لأنّ فروعه مع كلّ المنهجيَّات الدينيَّة اللاهوتيَّة مجرد تلاعب بالحقيقة، ثرثرة فارغة لجعل الدين معقَّدًا وشرعيًّا، بينما هو بسيط جدًا بل سخيف وطفوليّ.

إنّ اللاهوتيّ المتخصِّص كما يبدو له يعيش داخل أوهامه النَّصِيَّة وبين كُتُبه الكثيرة، فيحسب الدين أمرًا معقَّدًا لا يقدر عليه إلا المتمرِّسون لا العامة، ومن هنا يرى كل أمرٍ خاضه يُمثِّل الحقيقة التي لا تقبل الشَكّ، حقيقة كون كل هذا الذي يدرسه صعب الفهم بمنهجيَّاته، إذن هو حقيقي، وإن شَكّ أحدهم هذا يعني أنّه جاهلٌ قليل الفهم، المشكلة فيه فقط وليست في الدين، ورغم جهله باللاهوت عكس طبيبه فهو الآن أصبح يطبِّق نفس الأمر على الفلسفة وتخصُّصاتها، فلقد فكَّر في الأمر منذ فترة طويلة، حتى مع رؤيَّته الإيجابيَّة للفلسفة وبحثها عن الحقيقة بطرقٍ متعدِّدة، إلا أنّ كل شيء يبدو له أحيانًا مجرد آيديولوجيَّات لا تَكْتَرِث للحقيقة بقدر ما تَكْتَرِث لما تريد أن تفرضه على الآخر وكيف يجب أن يسير العالم. والفلسفة تفعل كل ما فعلت بشكلٍ ممتاز.

لقد حكَّ جبينه يائسًا، ثُمَّ كلَّم نفسه بذهولٍ:
– يبدو أنّي نسيت الله لثوانٍ.
قال لنفسه ذلك عندما استعاد موضوعه الأساسي: اللاهوت. والآن هو يرى أنّه من السخافة الكفّ عن انتقاد الإله وحاشيته حتى لو كانت كل معارفنا الأخرى فاسدة، فالله على أيّ حال يرافق أيّ شيء يستفيد منه فيجنِّده لصالحه حتى الفلسفة والحدادة، وهذه هي البراجماتيَّة الحقيقيَّة؛ أن يكون مُحدِث الكَوْن على صورة رجل براجماتيّ مقدَّس ترافقه أحزابه المحترفة في ممارسة بغاء المعابد ومهمات رئاسة البشر التي تخدم بقائه. صحيح أنّ الله من صنعنا وصنعهم، لكنّه حاضر دومًا وليس بريئًا؛ لأنه في الأصل صُنِع مُذنِبًا، وهذه هي المشكلة.

وأكثر من ذلك، ورغم تنفيذ كلّ الأوامر والنواهي كَمَثَل مدينة طوبَاوِيَّة، فإنّ الأديان بدل أن تهتم بإلهها المسكين لا غير، وتتجاهل الشيطان لتكسر شوكته، كانت أن أدمنته وسارعت إلى الصراخ باسمه في كل ساحات المؤمنين والشكوكيّين الذين تعرَّفوا على الملاك الساقط أحسن من معرفتهم بمخترعِ العالَم. لقد كان الأمر واضحًا له وهو يسرح في التفكير، وجود نفس الشيء عند الملحد الذي عشق وتملَّك الله. من المضحك أنّ هذا المارق على الدين استطاع وبسهولةٍ الاهتمام بمسألةِ المعتقدات والهرطقات أكثر من رجال الدين أنفسهم.

إنّ بعد كل ما يعتقده ستأتي النهاية التي يموت الجميع فيها حسب ما تبقَّى له ليبقى الإله مع الشيطان فقط كل زمن، يتجوّلان في ردهات العالم وداخل كل فلسفة وكتاب وعقول أجيال جديدة لن تستطيع الفكاك منهما، و يبدو في الأخير أنّ لهذين الاثنين سحرٌ لا يقاومه حتى العدميين ومن اتخذوا فلسفات العبث مثله فما بالنا بالمؤمنين.

لا تزال الذات تُثَرْثِر، ليُثَرْثِر لأجلها الغير وضدّها الآخر: رومانتيكيَّة الثَرْثَرة.

بعد مغادرته العيادة قرَّر اتخاذ كل تدبير لا عقلانيّ في نظره لا يستدعي التأمُّل، فذهب إلى منزلهِ لأنّه كان قد قرَّر إهداء لويز كتابًا كان في مكتبته بدلًا من شراء واحد جديد، لرمزيَّة وحميميَّة ما كان يعتقد فيه، غير أنه ينبغي أن يكون بشكلٍ شِبْه جديد، فهو يحرص دومًا على أغراضه وكُتُبه حتى لو طال بقاءها.

لم يجد في الأخير أنّ التفكير الطويل والتخطيط لاختيار كتاب أمرٌ صائب، فقد كان يحب العفويَّة وبهذا اختار بسرعةٍ كتابًا معيَّنًا وغادر إلى حيث المكتبة من دون أن يفكر في ميولاتها و تفضيلاتها للكُتُب.

بعد يومٍ من ذلك وجدها لوحدها في المكان وكان هذا يخدم هدفه، لقد تحدَّث إليها من دون تردُّد وتفكير، فهكذا تُنفَّذ الأمور ولم يستدعِ ما فعل ندامته، لأنّها رغم تفضيلها العزلة -كما ظنّ- فقد كانت لطيفة معه وتحدَّثت إليه.

إنّ هذا الحديث القليل لكن المطوَّل بالنسبة له والذي يُعَد الأوّل من نوعه، رتيبًا وباعثًا على الملل بكلماتهِ المنتشرة بين الغرباء أو بالكاد لمن يعرفان بعضيهما، حتى يكاد الحرف يهرب من لسان المُتحدِّث لكثرة استعمالها.

كان الأمر مجرَّد تحيَّة وتبادل كلمات مبتذلة، وتذكيرها باسمه وما يفعل في حياته البائسة ومدينة طفولته وبعض الكلام عن الجوّ وأخبار البلد السياسيَّة، وقد أدرك وقتها كم من المهم ذكر أسماءنا وأصولنا حتى لو كان يراه شكلًا من أشكالِ العبث، إلى جانب أنّه وجد نفسه بطريقةٍ لم يكتشف نذالتها يكذب عليها ويخبرها بأنّه فنانٌ تشكيليّ.
وما جعل اللقاء مختلفًا أيضًا، هو إخراجه لكتاب ميشال فوكو: “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، وتقديمه إليها. ففهمت لويز من خلال ذلك أنّه هدية.

لقد تذوَّق قلبها بسرعة نكهة من نكهات السرور مع بعض الاستغراب بسبب شخصٍ تذكَّر أنّها فتاة تحب الكُتُب، وليست بائعة وابنة صاحب مكتبة فقط.

– لم يسبق أن أهداني شخص كتابًا، ما عدا والدي وصديقًا لي، أنا التي أعمل في المكتبة.
لقد ضحك بصوتٍ منخفض ليتوقَّف قائلًا: “سأعتبر نفسي الثالث إذا قبلتِ، أتمنى أن يعجبك.”، وكان يقول لنفسه في تلك الأثناء: “دعكِ من هذه البلدة الجاهلة التي لا تهدي الجميلات مثلك الكُتُب.”، لكن كلّ حواره الداخليّ قد قُطِعَ حين سمع كلماتها الجديدة.

– “عنوان غير مألوف، لم أقرأه من قبل. فلسفة فوكو المُعاصِرة مثيرة للاهتمام.”، قالت ذلك بشيءٍ من الارتباك والخجل وكأنّها تعرف هذا الكتاب جيدًا كما بدا له، ورغم شَكّه بقولها إلا أنّه قد شعر ببعض من السعادة في قلبه، وأصبح يداعب سواره من التوتر، لكنّه تحدَّث بأدبٍ بعد أن رفع رأسه تجاهها:

– أتمنى لك قراءة ممتعة إذن، عليّ الذهاب الآن، أعتذر.

لقد غادر المكان بسرعةٍ وترك لويز محتارة، هل تُحَمْلِق فيه وهو يولي ظهره لها بعد التفاتته الجميلة هذه، أم تتأمَّل هذا الكتاب وعُنْوَانه، وعلى أيّ حال كان أن اختفى من ناظريها وابتسامة على شفتيها لم تفارقها، فلم يسبق أن أثار اهتمامها من قبل لأنّها لا تعرفه جيدًا، إنّه مجرَّد زبون مثل غيره يأتي بشكلٍ متقطِّع بالكاد تتذكَّر وجوده، لكنّه الآن بدأ يمارس نوعًا من حضوره عليها منذ هذا اليوم.

أما هو فقد أخذ حَمَّامًا سريعًا عند رجوعه إلى شُّقَّتهِ، كما لم يفعل شيئًا بعدها باستثناء أنّه وجد طعامًا أعدَّه مساء أمس، قام بتسخينه مع إعداد شطيرة لحم وتناولهما، ثُمَّ ألقى بنفسه داخل السرير يتلحَّف غطائه متأمِّلًا سواره التي تنتعله يده منذ سنوات.

– “يا إلهي، لم أفكِّر اليوم في الانتحار.” قال باستخفافٍ، وبدأ في التفكير حول لقاء اليوم مع جاكلين، لقد وجد نفسه يولي أدّق التفاصيل بل أتفهها اهتمامًا. لقد تعجَّب من عدم إخباره بحقيقة قراءتها للكتاب، فقد كان متأكِّدًا من مطالعتها له، هل هي فتاة رقيقة الطبع لدرجة ادِّعاء جهلها به حتى تجعله سعيدًا، أم أنّها حقًا لم تَطَّلع عليه من قبل كما ادَّعت؟ إنّها في النهاية ليست مجرد فتاة، فهي تبيع الكتب وتعرف كل شيء عنها، وسيخيب ظنّه لو كانت تجهل كتاباً مشهوراً مثله فهو ليس في وسعه تحمّل خيبة أخرى يعتبرها صاعقة ضربته قلبه!

أمسك كتابًا جديدًا صار يقرأه منذ خمسة أيام وتركه منذ اليوم الأول الذي قرأه، إنّه مسرحية “لا مخرج” لسارتر، وقد مرَّت نصف ساعة وهو على تلك الحالة يطالعه بتأنٍ مُعيدًا الحوارات.

إنّ المسرحية وكحالِ كل الأعمال المسرحيَّة التي بها حوارات مجرَّد ثَرْثَرة بين شخصياتٍ كما بدت له، الشيء الذي كان لا يُحبِّذه كثيرًا.
– “إنّ ثَرْثَرتنا مثيرة للدهشة حتى بتنا نضع لها نظريات ونؤسِّس لها مدارس واتجاهات، وفي النهاية لم نُرجِّح أي واحدة على الأخرى، نحن حتى لم نصل إلى أي فهم مطلق للثَرْثَرة، فحتى تأويلنا لها هو مجرَّد ثَرْثَرة أخرى.”
هذا ما فكَّر به قبل أن ينظر إلى الكتابِ مجدَّدًا ويضحك على شخصياتهِ التي بدت له لا تفعل شيئًا غير الكلام، فتحدَّث يناجي نفسه من جديدٍ مثل مجنون:
– ثَرْثَرة مقدَّسة، ثَرْثَرة فلسفيَّة، وثَرْثَرة سياسيَّة، ثُمَّ ثَرْثَرة أدبيَّة، ثَرْثَرة…
توقَّفَ عن الكلام والتفكير بعد أن شعر بخواءٍ في عقله. فنهض من سريره وهو يشعر بالبرد، كان هذا وقت قدوم العاشقين لكنهما لم يأتيا، وربما بسبب الجوّ لكن الجوّ دائمًا هكذا.

– “أنا الميّت أنتظر رؤيَّة الأحياء!”

بهذا الكلام اعترَف لنفسه بعد زخات الكآبة التي تهاطلت على قلبه. كما مرَّت عليه فكرة كتابة كلّ ما ردَّده وفكَّر فيه قبلًا، لكنّه تراجع عن الأمر وعاد إلى سريره تاركًا الكتاب، مفكِّرًا في إمضاء الوقت مع هاتفه المتواضع الذي لا يستعمله إلا أحيانًا، فلا هو يتحدَّث مع الناس ولا يجعل غيره يتعرَّف عليه ولا يحاول التعرُّف على هذا العالَم المفتوح مجددًا، هذا العالَم الذي فتحناه بطريقةٍ فجَّة وخاطئة، حتى كسرنا بابه كما يبدو ذلك، فلم نتمكَّن من دخوله كما يجب فصار مغلقًا.

وحتى هو مثلهم لم يتعرَّف على نفسه جيدًا، بل تراه يمارس أحيانًا نوعًا من الخداع أو ربما بأمرٍ من عقله وقلبه من دون أن يدري. لقد استعاد بعضًا من ذاكرته حين طلب منه مارسال تغيير اسمه، فأجابه بأنّ كل اسم وشكل ومظهر هي أشياء غير ضروريَّة، فلقد فكَّر أنّ أعماقه المريضة في الواقع تلقي بالًا لهذه الأمور، كيف لا وهو الذي طالما أراد ارتداء وجه وتجربة جسد الرسَّام فريدريك بازيل بملامحه وتفاصيله، حتى ملابسه الجميلة التي تعود إلى القرن التاسع عشر. فهل كان يخدع مارسال حين أخبره أنّ كل هذا ليس مهمًا، حين كان في الحقيقة يتوق لأن يتحوَّل إلى وجهٍ لطيفٍ لفَنَّانٍ عاش في أحد الأيام ولا بأس بسرقة اسمه وإضافته بجانب اسمه الحاليّ.

بعد نصف ساعة حدَّق إلى النافذة ،وقال: “لا أظن أنّهما سيأتيان، لقد توقفا عن المجيء إلى هنا بذاك الشكل المكثّف كما اعتادا.”
تذكَّر فجأة أنّه لم يلمس امرأة منذ أربع سنواتٍ، لم يكن يشكو شيئًا غير برودته النسبيَّة التي جعلته غير مهتم، أما الأسباب التي كانت تجعله يبكي ويتقزَّم على ذاته، كان يحاول أثناءها الشعور بالرغبة لتجاوزها كخداعٍ لعقله وجسده.

لم يشعر كذلك بغير الخذلان، ومن كثرة الألم والحزن كان يضطهد جسده محاولًا إيصاله للشعور بالشهوة بشكلٍ إجباريّ، حتى يبدأ ممارسة العادة السريَّة التي سترهقه على الأقل وتسلِّم جسمه للنوم.

لم يحقِّق أحلامه التي كان يريدها؛ أن يصبح باحثًا في علم الآثار، فيلسوفًا، صحفيًّا ومؤلِّفًا. هذه كانت أحلامه التي عاش داخلها كل يوم مذ تواجده طفلًا، كلّها تبدو أحلامًا عظيمة أمام ذاته الصغيرة الآن، بل القزمة. لقد عاش لأجلها والآن هو مجرد موظف عادي في مستشفى بروليتاري أحمق. كيف تقزَّمت ذاته وانكمشت بتلك الطريقة من دون أن يَلْحَظ؟

لقد تدهورت بسبب هذا عَلاقته بعائلتهِ، حيث رأى فيها أنّه أضحى منبوذًا، ففضَّل البقاء لوحده، وكان من حينٍ لآخر يُمارِس هذا الذُلّ الشبقيّ على جسده كأسلوبٍ علاجيّ فقط. إنّ الإنسان كائنٌ عجيب، فهذه الغريزة عنده جعلها في خدمته على نحوٍ مغاير تمامًا، يستغلَّها ليس لإشباعه جنسيًّا فقط، بل لتحويلها إلى أداةٍ لمحاربة الاكتئاب، من دون أن يكون متأكدًا إذا ما كان الوحيد الذي يفعل ذلك، أم هناك أشخاصًا غيره.
سيكون الأمر أسهل معه مع الأفلام الإباحيَّة، لكنّه أقسم على معاداتها منذ سنوات، هذه الدعارة التجاريَّة المُستغلِّة للنساء والمُنَّمِطة لجسد الأنثى، التي كانت ضد فكره النِسويّ.

تربح الشركات المال تشاركها فيه متاجر الألعاب الجنسيَّة مع المصورين وطاقم العمل، ووحدهم الممثلون من يربحون ألمًا مخلوطًا بنبيذٍ مغشوشٍ تفوح منه رائحة العملة الصعبة.

أما من يُشَاهِد فسيفوز، ويا لهذا الفوز بالوقاحة والحسّ الساذج الذي لا يستطيع رؤيَّة المرأة في مكانٍ آخر غير أُستُوديوهات الشركات الإباحيَّة، فيعتقد لغبائه أو بفعل احتقاره أنها تحب العنف وتطلب الساديَّة، ويحدث أنّ الصور الجنسيَّة التي يُخزِّنها عقله في الليالي والصباحات لا يستطيع التخلُّص منها كل مرة يرى فيها امرأة، كانت زميلته في العمل أو فتاةً في الشارع، فيفصل المرأة عن كل مكانٍ في العالم، كان ذلك مدرسة وشركة وملعب أو أيّ مكانٍ، باستثناء غرفة النوم والمطبخ وأستديوهات التصوير، فالمرأة في فكره البائس هي طباخة وزوجة، أمٌّ أو عاهرة فقط، لا عجب إذن حين نعلم بوجود رجالٍ يشتهون أمهاتهم و لا عجب حين عرفنا رجلًا يدُعَى فرويد استطاع جسّ نبض أعضاء الأرض التحتيَّة. شهوات جثثنا التي تَغلغَل داخلها الأخير وجعل منها موضوع دراسة. هي بحق هدايا الإله أو ربما لعناته كما بدت له وهو يتذكَّر هذا الطبيب.

كما لا يهم لو رآها الناس كنعمةٍ أو نقمة بقدر ما يهم أنّها تقودنا من أعضائنا التناسليَّة فوق رغبة عقلنا دائمًا. إن روائح الرغبة التي تنبعث من الجميع لا يمكن لأي أحد أن يَسِدّ أنفه عنها، ولا حتى أن يرفض الاعتراف بتواجدها على سطوح الجسد، أو يقول عن نفسه إنّه مُحصَّنٌ منها بعفتهِ وعقلانيَّتهِ وكذلك إيمانه، إلّا إذا كان الشخص منافقًا، وكم يوجد منهم على الأرض! وإنّه هو لطالما رأى نفسه من هؤلاء.
لقد تنهَّد وقال: “كم يحتاج المرء من الواقعيَّة حتى يجلد ذاته بالقدر نفسه الذي يجلد فيه الآخرين، أم تراني لست منافقًا بل مؤمن فقط؟”
في نفس اللحظات ذهب لمفكرته بخطواتٍ سريعة يكتب فيها ما كان يمليه عليه عقله بشأن كلّ شيء:

“ما من شَكٍّ أنّني اعترف بعبقرية فرويد رغم احتقاري له، فلقد استطاع فعل الكثير بالنسبة للجنس، لقد رفع الجنس إلى منزلة أعلى من البشر ذاتهم فصار هذا الشيء فينا جديرًا بالاحترام والالتفات إليه بعدما كان من أعمال الشيطان والسَحَرَة، أو ربما صار أيضًا شيئًا نتخوَّف منه لكن من دون تخيُّل عفاريت معه. لطالما كان مطاردَ أشباحِ المتع هذا، وأبًا تحليله محط أنظار الجميع كما كان يومًا أفلاطون، وأرسطو وزينون وكل العظماء مثله، أولئك الذين كانوا بكامل لياقتهم برعاية رَبَّة الحكمة، لكن حدث أن كانت لياقته هو، في علم الحزن! أُسَمّي علم النفس بهذا لأنّني أرى نفوسنا حزينة دومًا. كان فرويد، وعلى عكس هؤلاء الفلاسفة، يحرسه بل يباركه الإله إيروس إله الحب العنيف والجنس، وآريس إله الحرب، ثُمَّ هاديس إله العالم السفلي، ثلاتة آلهة أراها تناسب أطروحاته ونفسنا المثلثة: 1-حب وشهوات متوحِّشة، 2-قتال وقتل وموت، 3-ودهاليز من الكبت والغموض.

هناك إلى جانب العظماء كان فرويد يركض حتى اللهاث في أكاديميَّة المكبوتين ويحفر النفوس في ليسيوم الحُلْم ويقلِّب القلوب في أروقة العُقَد النفسيَّة. فرويد الذي يرقد الآن في قبره، مات مقتولًا بالزمن وليس باستطاعة أيّ بشريّ قتله ثانية وثالثة حتى المئة رغم جميع المحاولات، فمن الشتات قدَّم إلينا حتى يتسنَّى له ممارسة يهوديَّته بكل هدوءٍ وعنف، بينما اكتفينا نحن بمشاهدته واقفين، وهو يعبث داخل صدور الأطباء.”

إنّ المرء لا يجد نفسه مع هؤلاء العظماء، فالحياة عنده إما أن يصنعها الواحد فينا لتصبح مجده أو يموت كما أيّ شخصٍ. أما هو نتيجة ذلك كان أن قرَّر قتل نفسه كثيرًا من المرَّات، غير أنّ الموت صار صعبًا هذه الأيام، فلقد فكَّر أن يشنق نفسه ألف صباحٍ وصباح، ألف ليلةٍ وليلة، حين وجد صعوبة عمل عُقْدَة بالحبل، عندها أدرك كم هو فاشل! لقد وجد بعد بحثٍ بسيط أنّه ربما سيتعذَّب لسبعةِ دقائقٍ كاملة إذا أقدم على شنق نفسه، وهذا أمر لن يقبله فهو يريد موتًا سريعًا، خفيفًا على روحه البائسة لا يؤلم. فالموت الهائج والمستعجل مطلوب في هذا العصر.
لقد اكتشف أنّه في هذه المدة من الدقائق، يستطيع خلالها اختراع مسدسًا بدائيًّا ربما بيديه وعقله الفارغ وإطلاق النار على رأسه من دون عذاب.

هذا الكسل الانتحاريّ جعله في أحد المرات يضع تاريخًا محدَّدًا يموت فيه طعنًا بسكاكين الذبائح، لكنّه تفاجئ عند قدوم ميعاده أنّه وجد نفسه يفكِّر في أيّ كتابٍ جديد سيقرأه وأيّ طعامٍ يعدّه، ليستمتع بيومهِ وحيدًا بينما نسي موضوع الانتحار بطوله. فهناك أشياء فيه ربما تريد الموت وأخرى تناضل.

نهض من سريره إلى الحَمَّام ليجهِّز نفسه للنوم عندما سمع جلبة في الخارج. لقد كان البرد يحاول منع جسده على الخروج لكنه أطّل من النافذة قبل أن يخرج، فوقعت عيناه على الفتاة التي كان يشاهدها دومًا مع صديقها، وبجانبها مجموعة من الفتيان في هذه اللحظة، يتقدَّمهم شاب رشيق يحاول اقتيادها معه، ورغم أنّها بالخارج والوقت ليلًا مع مصابيحٍ قليلة، فلم يجعله ذلك غير قادرٍ على تميّيزها جيدًا، فقد عرفها من ملابسها وشعرها.

لقد فكَّر في أنّ هذا الشاب مجرَّد سِّكِّير ينتمي لمافيا صبيانيَّة يريد أن يملك هذه الفتاة كما يتملَّك الطفل أشياءه، هؤلاء الشباب الذين مرّغوا أنوفهم في الحب حاسبين أنّهم يرونه جيدًا وتركوا عيونهم التي بمقدورها أن ترى حقيقتها الواضحة.
ورغم أنه قرَّر تجنُّب التدَخُّل في مشاكل أحد، وقد فعل ذلك عِدَّة مرات إلا أنّ حضور فتاة في مشهدٍ كهذا لا يمكن أن يسمح له أن يمر هكذا. فقد وجد نفسه غاضبًا وقتها ليفكِّر في تلك الأثناء ويلقي بنفسه في دوامة من الأفكار. لحظات جعلته يشعر أنّ الغضب مجرد غريزة حيوانيَّة تهدف إلى البقاء مع قِتالٍ من يحاول أن يخدش وجودنا، يؤذينا ويؤذي من نختاره لنحبه، غريزة كانت تستيقظ سريعًا حين كان الإنسان مجرَّد حيوان مثل غيره من الحيوانات، لا شيء مميَّز فيه، لا عجب أنّ الغضب ينتهي إلى القتل.

إنّ الإنسان من دون شَكّ هو ذاك الذي يغلب حيوانه الداخليّ ويكتفي بالغضب فقط كشعورٍ وليس فعل، لكنّه سأل: لماذا قد يبدو هذا الشعور يداهمه الآن وبكلّ قوّة؟ هل أحَبَّ هذه الفتاة حتى أغضبته حالتها؟ أم تراه أحَبَّ جميع النساء.
خرج بخطى متسارعة وكل ما تذكَّره وعلى نحوٍ غير متوقع قصة المسيح مع المرأة الزانية، المسيح الذي يحبه جدًا رغم كل النقد الذي يلقيه على صليبه ورجاله، ذاك اليهوديّ الذي لم يترك مافيا كهنوتيَّة ترجمها وقال: “من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجرٍ”. فاسكتهم وشلَّ أيديهم أيضًا.

وجد نفسه بلمح البصر في الخارج رغم استغراقه في التفكير وهو ينزل إلى تحت. فصار مواجهًا لهم وحده من دون أيّ شخصٍ آخر من حيّهِ، كان الوقت ليلًا ومع وجود المصابيح ذات الإضاءة المنخفضة قليلًا، إلا أنّه لم يستطع رؤية ملامحهم كما يجب، كما أنّ كلّ الوجوه قد امتزجت عليه مثلما يحدث كل مرة يقابل فيها وجهًا جديدًا ووجوهًا كثيرة تجعله لا يرى جيدًا، وتلك كانت مشكلة لم يخبر عنها أحدًا، لكنه طلب منهم أن يغادروا الشارع وإلا سيتصل بالشرطة.

كما وجَّه تركيزه إلى الفتاة يلمس كتفها برفقٍ يسألها عن ما الذي يحدث، غير أنّها بقيت صامتة. أما الفتيان الذين معها فصاروا يسألون عن هُويَّته، بينما كان هو يجول بعينيه بحثًا عن الشاب الذي كان يرافقها دومًا، سألها عنه مجددًا لتجيب على نحوٍ يبدو وكأنّها تعرفه مع صديقها جيدًا.
– “لقد هرب نيكولا”.
ما إن تفوهت بذلك حتى أمسكها الشاب الرشيق يدنيها إليه.
– “اتركها، ألا ترى أنّها لا تريد الذهاب معك!”. قال جملته بحزمٍ مع قليلٍ من التوتر مخاطبًا الشاب الذي تجاهل طلبه وبالكاد وجوده حيث تحدَّث آمرًا:

– تعاليْ معي الآن جاكلين.

بعد وقت قصير أخرج أحد قاطني الحيّ رأسه من نافذته يطلب منهم الذهاب بعيدًا بسبب الضجيح الذي أحدثوه وسرعان ما عاد وأقفل نافذته، أما هو فقد هدَّدهم مجددًا بإحضار الشرطة رغم عدم رغبته فعل ذلك، لكنّهم اكتفوا بتجاهل تهديده طالبين منه العودة إلى شُّقَّته وعدم التدخُّل بعدما أدركوا أنّه لا يعرف الفتاة، لكنّه كان كلّما نظر إلى جاكلين وتلمَّس شعورها المضطرب أحسّ بالغضب كما ازدادت شجاعته ليحاول أخذها إليه من جديدٍ مثل دميةٍ يتقاتل عليها أطفال روضة. أثناء ذلك قاومه نفس ذاك الشاب ليتدخل البقية بعدها.

لقد دفعه أحد الشباب حتى سقط أرضًا، ورغم تفضيله التحلي بالهدوء فقد صار غضبه ذاك الذي بقي متدفِّقًا؛ أفعالاً، كانت نهايتها أن لَكَمَ الشخص الذي رماه على الأرض يدفعه بعيدًا عنه بعنفٍ شديد، ورغم ضعف جسده وصحته كان يستمر في دفعه والمقاومة، انِسَلَّ سكين حادٌ من كل تلك الضوضاء والأجساد العشوائيَّة وحُشِر داخله.

لقد استند إلى عامود الإنارة بتثاقلٍ وأنفاسه تتسارع لثوانٍ حتى تحوَّلت إلى لحنٍ هادئٍ يعزفه جسده الجريح، لم يكن يحب مواجهة الكوارث، لهذا فقد تجاهل رؤية المكان الذي غاص داخله السكين أو ربما بسبب فزعه.

وجَّه عينيه المرعوبتين إلى شرفةِ شُّقَّته المنبعث منها الضوء. غرفة نومه التي أشفق عليها لحظتها حيث بدت له حزينة جدًا. تذكَّر كلّ الأشخاص الذين طالما اعتبرهم كائنات مؤذية له تاركًا من أحبوه يسقطون من ذاكرته، فلكم أحَبَّ استحضار الألم، وقد بدى فيها أنَّه لا يرحل عن العالم بل غرفته فحسب.
هنا ظهر له الفِتْيَة كأشباحٍ وظلال تتراقص أو ربما تتقاتل أثناء مراقبته لهم، وهم يلوذون بالفرار مرتاعين آخذين جاكلين التي ركضت معهم مذعورة.
إنّ هؤلاء اقتحموا حياته ليسلبوها منه، أشخاص لا يدري شيئًا عنهم كانوا في ظنّه يمثلِّون أحوال البشريَّة التي تغوص في الرذيلة والعنف. إنّ البشريَّة الآن تتخاصم على فتاةٍ وتقتل لأجل غرورها، في حدثٍ لا معنى له ولا هدف منه.
لم تكن هذه النهاية التي يريدها، فقد كان يُتَوَّق إلى شيءٍ أكبر من هذا، ربما أمر لا يمكن وصفه بغير المجد وقيامة اسمه، وها هي لعنة الاسم تعود.

صرخ وشهق ثُمَّ سقط أرضًا.

هاكَ الحزن الأول والثاني وهذا الثالث، ثُمَّ حزن، حزن، حزن حتى السابع.

– هل سمعتِ بخبر وفاة أحدهم؟ لقد قيل لي إنّه كان يتفقَّد مكتبتنا.
– من بالضبط؟ يأتي العشرات إلينا يا أبي.
– لا أتذكَّر، لقد قُتِل، أردت إخبارك ربما كنت تعرفينه.
– من قتله، وكيف؟
– لقد تَمَّ القبض عليهم والتحقيقات جارية في القضية، أظنّهم مدمني مخدرات وشغب.
– هل كان واحدًا منهم؟
– لا أعلم ولا أظنّ ذلك، لقد كان يعمل في المستشفى القريب من مكتبتنا، لكن هناك فتاة وسط كل هذا ربما كانت حبيبته.
– ربما كان يعرفنا، ومن زبائن المكتبة القدامى.
– لو الأمر كذلك لتذكَّرت من كان على الأقل وكان وصلك الخبر.
– سأسأل عنه ربما سنعرفه.

ربَّت على ظهر ابنته وقبل ذهابه قال: “لا أظن، المهم، أنت فتاة طيبة صغيرتي ابتعدي فقط عن المشاكل”.
أما هي فكانت تحاول تذكُّر كل الوجوه التي كانت تَمْرّ عليها مع ألقابهم، كانت تشعر بأن قطعةً حيّةَ قد نُزِعت من المكتبة. فروح الكتب وهذا المكان موجودٌ بحضور زبائنه، وبالأشخاص الذين يمرون على رفوف الكُتُب، يتفقدونها، يلمسون أغلفتها، يقلِّبون أوراقها وربما يقرِّرون أخذها إلى المنزل ليعيشوا معًا.

أيّ كتاب قد لمس هذا الغريب الميّت؟ هل كان يَمُرّ فقط لرؤية المكتبة ليُشبِع عينيه قليلًا فيزعجها بالسؤال عن الأسعار فقط ثُمَّ يرحل، أم أنه كان يأتي ليكون قارئًا مخلصًا يعطي الكُتُب حقها ويمنحها تقديره، فيشتريها؟ هل تحدَّث معها من قبل حديثًا خارج أسئلة البيع والشراء، أم كان مجرَّد زبون تقليديّ؟

لا تبدو هذه الأسئلة ذات معنى في الأخير ما دامت لم تعرف حتى اسمه بعد، لكنها تساءلت عن ما إذا كان ذلك يهم حقًا، يوجد إنسان الآن قد رأى وجهها ووجه والدها، كما كان يسير في المكتبة يتفقَّد الكُتُب، قد أصبح من عدَّاد الموتى.
من جرَّب يومًا أن يزور المقبرة ويضع الأزهار على قبور أشخاص يجهلهم، ربما لم يزرهم أحد؟ يتحسَّس أسمائهم بعينيه على شاهدة القبر وربما يصلّي لأجلهم؟ من تلك الأنا التي تجرِّب الآخر حتى وهو ميّت فتمنحه شيئًا منها، فقط ليَمُرّ عَبْر الذاكرة بعض الوقت ثُمَّ يعود إليه هو نفسه؟

لِمَا نحن دومًا نفعل ذلك مع الموتى الذين خلَّدوا اسمهم في التاريخ، فسُفِك الحبر لأجلهم وانتعلت اليدُ القلمَ لتكتب ألقابهم، وليس مع التعساءِ الذين لم يعطهم التاريخ مكانًا فيه؟ من تساقطت أساميهم سريعًا وعاشت لأيامٍ فقط بعد أن ماتوا.
لا مهرب من كلّ هذا فإلى الآن والأبد لا تزال الوساطة تُمارَس حتى مع الآخر الميّت، لكن الذي يلبث اسمه يُسمَع صداه طويلًا وتتذكَّره الأجيال وصفحات الجرائد والمكتبات، والنسيان كلّه لنا نحن العاديون جدًا.. المملّون.
أطفأت الأضواء وأقفلت المكتبة ثُمَّ غادرت.

إعلان

اترك تعليقا