تفسير الأحلام: مفتاح فرويد إلى اللاوعي

في معتقدِ المُجتمعاتِ الإنسانيَّةِ القديمة والحاليَّةِ منها أيضًا أنَّ الأحلام رسالةٌ من المستقبل، أو علامةٌ من علاماتِ الخير القادمِ أو الشَّر الذّي يتوجَّسُ بنا ما بينَ الظّلالِ، وقد ظلَّ هذا المُعتقدُ راسخًا لوقتٍ طويلٍ من الزَّمن وإلى أيَّامنا هذه في عقولِ الكثير من النَّاس، لكنْ كان للمُحلِّلِ النَّفسيّ النَّمساويّ الشّهير سيجموند فرويد رأيٌ آخر، صقَلَهُ بعد سنواتٍ من العمل والتَّحليل على حالاتِ الهستيريا والقلقِ.

فقد جاءَ فرويد بثروةٍ علميَّةٍ وأدبيَّةٍ جديدةٍ في ساحةِ علم النَّفس بكتابهِ الشَّهير “تفسير الأحلام” والذَّي أخذَ طابعًا فريدًا مُتميّزًا عن كلّ الكُتبِ التَّي تصبُّ في موضوع الأحلام، فقد أخذَ المُحلّلُ النَّفسيّ على عاتقِهِ بهذا الكتابِ مهمَّةَ إبراز أهميَّةِ الأحلامِ ورمزيَاتِها في فكِّ شِفْرَاتِ النّفس الإنسانيَّةِ، عن طريقِ الغوصِ في كلّ ما تحجبُهُ من صراعاتٍ ونزاعاتٍ ودوافعَ كُبِتَت وقُمِعَت فيما سمَّاه هو: “اللَّاشعور“.

اللَّاشعور:

المخزنُ المهجورُ الذَّي يزورُنا كلَّ يومٍ

لقد جاء مصطلحُ “اللّاشعور” في قاموسِ التَّحليلِ النَّفسيّ بفكرةِ أنَّنا لا نعي بكلِّ ما نقومُ بهِ ولا نقوم بكلِّ ما نَعي بهِ، فالكثيرُ من تصرُّفاتِنا في “الفِكرِ الفرويديّ” تنمُّ عن دوافعَ خفيَّةٍ لا نُدرِكُها ولا نبثُّ لها أيّ نوعٍ من الانتباهِ، ذلك أنَّها تسرَّبَت بدوافعَ ونوازعَ كان لنا القوَّة عليها في وقتٍ مضى أنْ نقمَعَها وأنْ نُخْرِسَ ثوراتِها حتَّى صارت لها القوّة علينا مع الكَبتِ المُتواصلِ في أنْ تتحكَّمَ بسلوكيَّاتِنا من الكواليسِ الخفيَّةِ.

مصادرُ الحُلمِ:

من أين يستمدُّ اللَّاشعورُ إلهامَهُ؟

إنَّ اللَّا شعورَ لهو فنانٌ بحقّ، فهو كثيرًا ما ينسجُ لنا صُورًا مُدهشةً عن طريقِ اللَّون والحركةِ والإحساسِ، وكثيرًا ما يُحاصِرُنا بالرُّعبِ والدَّهشةِ والعجزِ وأحيانًا الجُمودِ، ومن خلالِ ما طرَحَهُ فرويد في كتابِهِ “تفسير الأحلام” فإنَّ مصدرَ الأحلامِ قد يكونُ داخليًا أو خارجيًا وإنْ كانَ عملُ فرويد قد ركَّزَ على العواملِ الدَّاخليّة النَّفسيّةِ، لكنَّه عبَّرَ بفقَراتِهِ عن ذكرِ العوامِلِ الخارجيَّةِ والدَّاخليَّةِ العضويَّةِ التَّي “قد” تكونُ مَصدرًا لأحلامِنا.

إعلان

فمثلًا قد يغرقُ الفردُ في النَّومِ ناسيًا الشَّاي على النَّارِ، وما إنْ تصلْ رائِحةُ الحريقِ إلى عضوهِ الحسيّ “الأنف” فإنَّ مادةَ الحُلمِ ستتكوَّنُ من خلالِ حاسَّةِ الشَّمِ وستبثُ للنَّائمِ حُلمًا عن اندلاعِ الحريقِ في البيتِ ليستيقظَ مَذعورًا، أو قدْ يَحلمُ شخصٌ بحوارٍِ بين اثنين بينما هذين الاثنين يتحاوران في الغرفةِ المجاورةِ له، إنّ هذه الأحلام لا تستحقّ التّفسير والتّحليل، فقد كان عمل فرويد حولَ الأحلامِ التَّي تأتينا في حبكةٍ مُعقَّدةٍ، في عملٍ سرياليّ يحتاجُ إلى الفهمِ، وإنَّ مصدرَ هذه الأحلامَ بالنّسبةِ له هو “الطّفولة”، فقد رأى فرويد أنّه لابدّ لكلّ حلمٍ أنْ تكونَ له عودةٌ إلى طفولتِنا، إلى الماضي السَّحيق الذّي طَمرنَاه، فهو ينكصُ بنا إلى هذهِ المرحلةِ الحرجةِ، إلى النَّزواتِ المَكبوتَةِ والاندفاعاتِ المّحجوبَةِ والانفعالاتِ التَّي كانَ لابدَّ لنا أنْ نُخفِيها بسببِ ما تُفضيهِ علينا عاداتُ المُجتَمعِ وقوانين الحضارةِ.


ولكنَّ هذهِ المواد الطّفوليَّة لا تُستثارُ إلَّا بحدثٍ جديدٍ يَطرأُ في اليوم الذَّي يَسبِقُ الحُلمَ، فقد تكونُ هنالك الكثيرَ منَ الرَّوابطِ التَّي من المُمكِنِ أنْ تَستثيرَ فينا عواطِفَ الماضي، فقدْ يلتقي الحالِمُ في اليومِ الذَّي سبقَ حُلمِهِ صديقَهُ القديمَ في المدرسةِ، وإنَّ هذا اللَّقاء قد يَستثيرُ فيهِ عاطفةً أو نزوةً تجاه هذهِ المرحلةِ التَّي كانت قدْ طُمِرَت بقوَّةِ الكبتِ، فتعودُ هذه البقايا إلى حُلمِهِ في شكلٍ غامضٍ وغير مفهومٍ.

 

غموضُ الأحلامِ:

الوحشُ الذَّي يسعى إلى التَّمرُّدِ

إنَّ قوانينَ الحضارةِ والمُجتمعِ المفروضةَ على الفردِ تفرِضُ على “الأنا الأعلى” (أحد مكوّنات الجهازِ النَّفسيّ وهو المُكوّنُ الذَّي يُمثِّلُ قوَّةَ الضَّميرِ وأحكامَ المُجتمعِ في شخصيَّةِ الفردِ) الخاصِّ بهِ أنْ يتقيَّدَ بكلّ الأخلاقيّاتِ المثاليَّةِ، وعلى الطَّرفِ الآخرِ من مُكوّنِهِ النَّفسيّ نجدُ أنَّ “الهو” (المكّون المُمثّل لجميعِ النَّزواتِ والرَّغباتِ التَّي تحتاجُ إلى الإشباعِ الفيزيولوجيّ) يأتي بمطالبِهِ ويفرِضُ على “الأنا” (المكوّن الذّي يتعاملُ مع الواقعِ) حصرًا رهيبًا، وقَلِقًا حولَ هذهِ الحاجاتِ التّي تحتاجُ إلى الإشباعِ الفوريّ، فلا تَجدُ هنا “الأنا” حلًا سوى أن تلجأ إلى الآلياتِ الدّفاعيَّةِ؛ وفي سياقِ الأحلامِ، فإنّ الحُلمَ بالنّسبةِ لفرويد لَهُ هدفٌ أوحدٌ ووحيدٌ، وهو أنَّه “يحقّقُ لنا رغبةً”، الحلمُ ببساطةٍ هو تحقيقٌ لرغبةٍ، مهما بدا الحلمُ بعيدًا عن ذلك، ومهما بدا في غايةِ التَّعقيدِ فإنَّ النّهايةَ التَّي يسعى لها في الأخير هي تحقيقُ هذه الرَّغبةِ.

ولو أخذْنَا هذهِ الفكرةَ وحاولنا تفسيرَ الحُلمِ تفسيرًا سطحيًا لوجدنا أنَّ هذهِ الفكرة بعيدةٌ كلّ البُعدِ عن الحقيقةِ، إلَّا أنَّ عبقريَّةَ فرويد تكمُنُ هنا، تكمُنُ في طريقةِ تفسيرهِ للحُلْمِ المُعقَّدِ عن طريقِ أدواتٍ تفسيريَّةٍ أشبَه بأنْ تكونَ سِحريَّة، فقد استعانَ بمفاهيمَ خلَّاقَةٍ أتاحت له تفسيرَ الحُلمِ والكشفِ عن الرَّغبةِ المَكبُوتَةِ من خلالِهِ، فقد نجدُ أنَّ أحلامَنا كثيرًا ما تتجِهُ نحوَ موتَ أحدْ أحبَّائِنا.

فكيفَ يكونُ موتُ شخصٍ عزيزٍ علينا هو رغبةٌ لنا؟

لقد جاءَت امرأةٌ شابَّةٌ إلى فرويد بحلمٍ صعبِ التّفسيرِ وطلبَت منْه تفسيرَهُ، وكانَ مُحتوى الحُلْمِ هو أنَّها حلمت بموتِ ابن أُختِها الوحيدِ “كارل” وهو طفلٌ تعزّهُ في نفسِها كما لو أنَّه ابنٌ لها، فكانَ من المُستحيلِ أنْ يكونَ موته رغبةً دفينةً فيها، وقد كان لكارل أخٌ أكبرُ تُوفّي من قبلُ وهو “أوتو” وقد أعزَّتْهُ هذهِ الشَّابة كما أعزَّت أخاه كارل، وقد كانَ فرويد على علمٍ بتاريخِ هذهِ الشَّابةِ، فهي يتيمةٌ وتربَّت في منزلِ أُختِها، وكانَ لها لقاءٌ مع أحدِ المُحاضِرين في الأدبِ جمعَتها معهُ علاقةٌ حميميّة، لكنّها حالَت إلى القطيعةِ قبلَ أنْ تُفلِحَ إلى الزّواجِ، وكانَ لهذهِ الشَّابةِ شوْقٌ يشدُّها لأنْ ترى هذا الشَّخص مُجدّدًا إلَّا أنَّ كبرياءَها مَنعَها عن ذلك.

وكانَ فرويد على عِلمٍ أنَّ في جنازةِ “أوتو” حضرَ هذا الشَّخص العزيزُ وقد كاَن حينَها على قطيعةٍ مع هذهِ الشَّابةِ، وكانَ تحليلُ فرويد لهذا الحُلمِ هو أنَّ الشَّابة ترغبُ في رؤيةِ عشيقِها السَّابقِ وأنَّ الحُلمَ حقَّقَ لها هذهِ الرَّغبة عن طريقِ جمعِها معَه في جنازةِ “كارل” (وقد وصفَت الشّابة الحُلم بأنَّه مُشابِهٌ تمامًا لجنازةِ “أوتو”)، فإنَّ الجنازةَ هي سببٌ يُلقِيها مع الشَّخصِ العزيزِ الذَّي أعجَزَها كبرياؤُها عن العودةِ إليهِ.

تشويهُ الحُلْمِ

إنَّ الحُلمَ ما هو إلَّا هَلوسةٌ نراها في منامنا، فلا شكَّ أنَّ الحُلْم هو هلوسةٌ قصيرةٌ، فالسَّببُ الذَّي يجعلُ من أحلامِنا غريبةً كلّ هذه الغرابَةِ وفي غايةِ التَّعقيدِ وقد تبدو أحيانًا مُتشابكةً وكثيفةً لدرجةٍ لا تقبلُ أيّ تفسيرٍ إنَّ نظرَنا إليها بنظرةٍ سطحيَّةٍ، لكنْ ما هذهِ العُقدَةُ إلَّا تشويهٌ كانَ قد طرأ على “الرَّغبةِ المُرادِ تَحقيقُها”، فإنَّ الحُلمَ قبلَ أنْ يتشكَّلَ بتلكَ الصُّورةِ الغامضةِ يكونُ في شكلِ مادَّةٍ خامٍ، في اللَّاشعورِ، مُجرّدُ رغبةٍ صافيةٍ تبحثُ عن الإشباعِ، إلَّا أنَّها قبل مرورِها إلى الشُّعورِ تمرُّ على جسرٍ صعبِ المَراسِ، حارسٌ قاسٍ يعملُ كمصفاةٍ لهذهِ الرَّغبةِ، وهو “الرَّقابة”، إنَّ الرّقابةَ هي عملٌ من أعمالِ الضَّميرِ أو “الأنا الأعلى” وموقعِهِ في “ما قبل الشُّعور”، فهو الذَّي يُضفِي بتشويهاتِهِ على المادَّةِ الخامّ ويُحوّلُها إلى صورةٍ غيرَ مفهومةٍ، وتلجأُ الرَّقابةُ في هذا العملِ التَّشويهيّ إلى عُنصرَيِّ “النّقل” و”التَّكثيف”.

إنَّ عملَ “النَّقلِ” مُشبعٌ بالرَّمزياتِ التَّي نَجدُها في الحياةِ الاجتماعيَّةِ، ووظيفَتِهِ في الحُلمِ هي توكيلُ وظيفةٍ مُعيّنةٍ إلى عضوٍ آخرَ غير العضو الأصليّ صاحبَ الوظيفةِ الحقيقيَّةِ، فقد يتمُّ التَّعبيرُ عن “الجهاز التّناسليّ الذّكريّ” من خلال “الذّراعِ” مثلًا، أو عمل “الجهاز التَّناسليّ للأنثى” من خلالِ الفم، كما أنَّ النّقل قدْ تُصاحِبُه الكثيرُ من الرَّوابط ِاللُّغويَّةِ والاستعاراتِ، فيحتجبُ المعنى الأصليّ في كلماتٍ شبيهةٍ لهُ أو مُعبّرةٍ عنهُ من حيثُ التَّشابِه الشَّكليّ.

أمَّا “التَّكثيفُ” فهو عملٌ أكثر تعقيدًا وهو الذَّي يُضفِي على الحُلْمِ طابعَ الغُموضِ المُطلَقِ والسُّرياليَّةِ، فهو لا يكتفي بتحقيقِ رغبةٍ واحدةٍ في حُلْمٍ واحدٍ فقطْ وإنَّما يَجمعُ عِدَّةَ رغباتٍ في مشهدٍ مُعقَّدٍ واحدٍ، ولذلك فإنَّ تفسيرَ الحُلْمِ لا يكتفي بنهايتِهِ أنْ يَجِدَ رغبةً واحدةً مُحقَّقةً بل قدْ يجدُ عدَّة رغباتٍ تَمظهرَت بفعلِ التَّشويهِ في مشهدٍ مُعقَّدٍ، ولذلك وجبَ تفكيكُ الحُلْمِ في صورٍ مُتقطّعةٍ، مشهدًا بمشهدٍ وليسَ كصورةٍ واحدةٍ، إنَّ العملَ الذَّي يلحَقه التَّكثيفُ بالحُلمِ يستوجبُ على المُحلّلِ النَّفسيّ أنْ يكونَ مثلَ خبيرِ اللَّوحاتِ الفنيَّةِ، فهو يقطعُ الرَّسمةَ إلى أجزاءٍ لينتهي في الأخير بتفسيرٍ مُقنِعِ لها، وإنْ كانَ الحُلْمُ المُعقّد لا يقبلُ تفسيرًا واحدًا، فإنَّ الحُلْم في النّهايةِ هو فنٌّ من فنونِ اللَّاشعورِ، وما الفَنُّ إلَّا هلوسةٌ يترجمُها الفنّانُ في أشكالٍ وصُورٍ!

وفي النّهايةِ قد نجدُ الكثيرَ من النُقّادِ الذَّين اعتبروا أعمالَ فرويد بعيدةً عن المنهجِ العلميّ التَّجريبيّ، والكثيرُ منهم يُصنّفُ هذهِ الأعمالَ على أنّها أدبيّاتٌ، إلَّا أنَّ هذا لا يمنعُنا من الاعترافِ بعبقريّةِ فرويد وعملهِ الدّؤوبِ في الكشفِ عن غموضِ النّفسِ الإنسانيَّةِ وتعريتِها وتجريدِها من كلّ المثاليّاتِ، كما أنّ “تفسيرّ الحُلْمِ” وجبَ أنْ يكونَ مِفتاحًا في يدِ كلّ من يسعى لفهمِ الإنسانِ، فبتفسيرِ الحُلْمِ يُكْشَفُ الصّراعُ.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بن عمرة أكرم

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

تحرير/تنسيق: دعاء ابو عصبة

اترك تعليقا