قراءة في كتاب الجنون في الحضارة: التاريخ الثقافي للجنون

الفهرس
ظل مرضى الأمراض العقلية أو المجانين وفقًا للتسمية الدارجة والتي لم تعد مستخدمة علميًا، يعانون على مدى قرون طويلة معاناة شديدة نتيجة عجز المجتمع، بل وعدم رغبته في علاج مثل هذه الحالات. وذلك في ظل سياسة غير إنسانية تعتمد الإقصاء والعزل منهجًا للتعامل مع هؤلاء التعساء، بل ووصمهم في أحيان كثيرة بأنهم أوعية للشياطين والجن والأرواح الشريرة.
وترتب على هذا التخلي عن من مسهم الجنون، ليُتركوا هائمين في الطرقات دون مأوى ومأكل .. بل والأسوء من ذلك إخضاعهم لتعذيب بدني شديد قد يفضي بأرواحهم كنوع من أساليب العلاج، تسمى كما تعرفون جلسات “طرد الأرواح و الشياطين”، والتي اعتلت عرش قصص عدد من الأفلام الأمريكية الشهيرة.
وهكذا استمر مرضى الجنون، وهو اضطراب كبير ومستمر في القدرات العقلية، والعاطفية، ويضم حالات متعددة من الأمراض العقلية مثل الشيزوفرينيا والهلاوس والهوس، أسرى مجتمع العزل والإقصاء. وفي سبيل علاجهم، يعانون من نار المرض ومن لهيب سوط رجال الدين. ففي عالم لم تكن شمس المنهج العلمي قد أشرقت فيه، كان من المستحيل إثبات فشل وسيلة العلاج هذه. فإذا مات المريض أثناء جلسة الطرد يعلن القسيس أن الروح الشريرة بداخل هذا الشخص كانت قوية جدًا، فقضت على الشخص بخروجها، وإذا لم يتحسن، فإن الأمر يحتاج جلسات أخرى، أما إذا تحسنت حالته، فيعلن القسيس أن الله أجرى على يديه معجزة كبيرة.
وفي الحقيقة علينا أن نعترف جميعًا أن تاريخ التعامل مع المرض العقلي كان تاريخًا دمويًا، في أقل وصف له، يندى له الجبين، وهذا ما نشاهده عبر قرائتنا لكتاب (Madness in Civilization: The Cultural History of Insanity)، وهو من تأليف الدكتور أندور سكول أستاذ علم الاجتماع الشهير بجامعة كاليفورينا الأمريكية .
إعلان
ولقد قام المؤلف عبر ١٢ فصل مرتبة ترتيبًا زمنيا، باستعراض تاريخ تعامل الحضارات المختلفة مع المرض العقلي بداية من الكتاب المقدس إلى فرويد، ومن “طرد الأرواح ” إلى التنويم المغناطيسي، ومن مستشفى Bedlam إلى مصحات العصر الفيكتوري، ومن نظرية الأخلاط الأربعة إلى علوم العقاقير الحديثة، وسوف أحاول استعراضه بشكل موجز في عدد من النقاط الأساسية التالية:
اليهودية والمسيحية
كان اليهود ومن ثم المسيحيون الأوائل يؤمنون بأن أسباب المرض العقلي ترجع إلى عناصر خارجية ومَس إلهي للبشر، فوفقا للكتاب المقدس، عاقب الله الملك شاؤول (طالوت حسب النص القرآني)، الذي رفض طاعة أوامره بالقضاء على قبيلة العمالقة، فعاقبه الله بالجنون. و قيل بعد ذلك ، أن نوبات تخاريفه كانت وحيًا من الله أحيانًا استطاع المفسرون تفسيرها.
الجنون عند الإغريق و اليونان
رأي اليونانيون والرومان أن أسباب الجنون تأتي من داخل الإنسان، وكان لديهم نظريات طبيعية لتفسير أسبابه، ومازالت جميع الكتابات الأبوقراطية تشير إلى تعيين أسباب طبيعية للجنون، فالجسم يتكون من أربع سوائل أو “أخلاط ” : الدم، و البلغم، و المٌرة الصفراء، والسوداء، إذا اتزنت صار الشخص سليمًا جسديًا وعقليًا، أما إذا اختلت فقد تؤدي إلى الجنون. وحاول الأطباء الإغريق والرومان أن يعيدوا التوازن بين الأخلاط عن طريق التمارين الرياضية، وتغيير نوعية الغذاء.
الجنون عند العرب والمسلمين
ظل العرب القدماء يحسبون أن الجنون ليس إلا مسًا من الجن الى أن انتشر الإسلام و اختلط العرب ببقية ثقافات اليونان و الفرس و الهند، و استوعبوا كتبهم و ثقافتهم بشكل لم يشهده العالم من أمم قبل ذلك، و اهدوا الى العالم أهم كتاب في تاريخ الطب العالمي، وهو كتاب القانون لابن سينا في عام ١٠٢٥. لخص ” القانون جميع المعارف الطبية بالعالم تحت تبويب وتصنيف رائع للتشخيص، و العلل والأسباب، والعلاج والدواء في ٥ أجزاء.
ويذكر أن عالما مثل أبو بكر الرازي استطاع تشخيص ووصف حالات الإكتئاب بدقة متناهية، و شدد على ضرورة علاجه في مراحله الأولى قبل أن يصبح مزمنًا، وذلك من خلال السفر و الترحال. كما ظهرت مستشفيات كثيرة ( بيمرستان) تعالج وتعتني بحالات الجنون مثل مستشفى السلطان قلاوون في مصر.
ومع هذا زحف الظلام على حضارة العرب والمسلمين وأصبحوا يتعاملون مع المرض على أنه مَس من الشياطين وعمل من أعمال الجن.
الجنون في القرون الوسطى
ظلت نظرة رجال الكنيسة هي الحاكمة في التعامل مع مرضى الجنون، تلك النظرة التي ترتب عليها كوارث يندى لها الجبين الإنساني فعلا حيث قُتل و حُرق خلال الفترة من ١٤٥٠ الى ١٧٥٠ نحو ١٠٠ الف شخص معظمهم من النساء من المرضى العقليين، والعجزة والمقعدين، وذلك خلال الحملة المسعورة التي عرفت بمطاردة الساحرات witch hunt .
وفي عام ١٢٤٧، انشأت بريطانيا مستشفى بيت لحم Bethlehem، وهي أشهر مستشفيات القرون الوسطى في أوربا، والتي عرفت اختصارا باسم Bedlam، تلك الكلمة التي يشيع استخدامها الى يومنا هذا للتعبير عن أي مستشفى للأمراض العقلية أو المجانين. ولقد ذاع قسوة هذه المستشفى في التعامل مع المرضى في جميع أنحاء أوربا حيث كانوا يكبلونهم بالأغلال ويضربونهم، ويتركوهم جوعى عراة.
ومع انتشار بناء هذه النوعية من الدور madhouses، تحولت الى أماكن للتعذيب وليس أماكن للعلاج. ففي إنجلترا وفرنسا على سبيل المثال أصبحت هذه الدور أماكن يتخلص فيها الأغنياء من أعضاء العائلة غير المرغوب فيهم .وعلى، سبيل المثال، تم إيداع الماركيز دي ساد داخل أحد هذه الدور عندما لاحظت زوجة أبيه شذوذه الجنسي، والذي يلحق العار بسمعة أسرته.
وتحولت هذه المستشفيات إلى مصادر للثراء الفاحش حيث كان ملاكها يفرضون مبالغا ضخمة مقابل احتجازهم لأبناء وبنات وزوجات الكثير من العائلات الإنجليزية الغنية.
الجنون في القرن الثامن عشر
حدثت تطورات إيجابية عديدة خلال القرن الثامن عشر على فلسفة و مفهوم الطبيعة البشرية، الأمر الذي ترك أثرًا مدهشًا على العلاج الطبي. وأخيرًا بدأ الناس يشعرون أن أصحاب الأمراض العقلية بشر مثلهم يمكن شفائهم بمرور الوقت و العلاج المناسب، و أقر الكثير من الأطباء مثل دكتور ويليام تووك الذي انشأ مصحة “يورك” عام ١٧٩٢ على ضرورة معاملة المرضى بكل احترام.
وكان العلاج الشائع آنذاك هو العلاج التعليمي الذي يركز على تعليم المرضى بعض الأخلاقيات الهامة مثل الأعتزاز بالنفس والحياء والنظافة، وذلك ظنا بأن تلك الأخلاق تساعد المرضى على التحكم في سلوكهم، ومن ثم تتحسن صحتهم. و بمرور الوقت، وتقدم العلوم الطبية أصبح الكثير من الأطباء يؤمنون بوجود أسباب فيزيولوجية وتشريحية وراء الأمراض العقلية. ومع هذا، ظل هناك العديد من المصحات العقلية في أوربا التي تقام كالسجون حيث يتم احتجاز المرضى، وضربهم وإغتصابهم.
القرن التاسع عشر
وحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان الأطباء يشخصون الأمراض العقلية على أنها مرض واحد، ولها أسباب واحدة، وكان العلاج أيضًا واحدًا في جميع المصحات والمستشفيات، ثم بدأ الأطباء في ألمانيا وفرنسا في إعادة النظر في هذا المفهوم، وباتوا يعتبرونه مجموعة من الأمراض أو الحالات المختلفة قد يرجع أسباب بعضها إلى وجود مشاكل في خلايا المخ، أو صدمة نفسية، أو مشاكل فيزيولوجية.
في فرنسا ، تبنى العلماء فكرة أن أسباب المرض العصبي ترجع إلى ضغوط الحياة الحديثة والإنتقال من الريف إلى الحضر. ولقد أشار الدكتور فيليب بينل إلى أن الاضطراب السياسي الذي نجم عن الثورة الفرنسية قد ترك آثارا مدمرة على الإستقرار العقلي للطبقة الأرستقراطية. لكن أغلب العلماء قد رفضوا هذه النظرية بعدما تبين أن معظم المرضى من الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
أما في المانيا،
فقد تبنى الألمان منهجًا مختلفًا. ففي عام ١٨٦١ أعلن أستاذ علم النفس الدكتور فيلهيم جريزينجر، ومعه لفيف آخر من العلماء ولأول مرة، أن الجنون ينجم عن عطب او التهاب بالمخ أو الجهاز العصبي. ولقد تركت هذه النظرية تأثيرًا كبيرًا على أجيال من الأطباء الألمان الذين تحمسوا لإجراء مزيد من الدراسات التفصيلية في هذا الموضوع، ولذا جرى اكتشاف الكثير من الأمراض الأخرى ومنها ألزهايمر.
وأخذت أساليب الأطباء الألمان في البحث عن الأسباب الجذرية للمرض العقلي في الإنتشار في كافة أنحاء الدنيا، ففي الولايات المتحدة أعلن الطبيين نوجتشي ومور أن السيلان يمكنه أن يؤدي إلى الكثير من المشاكل الصحية العقلية منها مرض يسمى شلل الجنون العام GPI،
وهكذا بدأ عصر جديد يخصص فيه أحد فروع الطب كاملًا لفهم هذا المرض وعلاجه.
القرن العشرين.. ونقطة التحول:
لا يمكن أن ينكر أحد أن سيجموند فرويد أحدث ثورة في كيفية النظر إلى وظائف العقل وأعماله، وأن أسلوب تعامله الإكلينيكي مع الموضوع ساهم في علاج الأمراض العقلية. ولقد استخدم فرويد التحليل النفسي لبحث الخبرات المؤلمة أو الصدمات السابقة في حياة الفرد، وغالبا ماكانت أحد الصدمات السابقة trauma سبب للمرض أو المعاناة النفسية .
بدأ فرويد بالتفكير أن معظم الأمراض العقلية تسببت عن صدمة جنسية دفينة، أظهرت نفسها في أمراض نفسية كالهيستريا ترتبط في جذورها بذكريات مكبوتة من الاستغلال الجنسي أو علاقات جنسية بين المحارم.
والتزم فرويد بهذا المنهج لفترة طويلة، فعلى مدار عقد كامل بعد ذلك، قام بدراسة طفولة المرضى وأحلامهم ومخاوفهم، وذلك لإثبات أن الصدمات في المراحل المبكرة من حياة المرضى التي تكمن في اللاوعي يمكن أن تؤثر سلبا على العقل الواعي.
ولقد خلص فرويد الى أن أفضل طريقة للتعامل مع المرض العقلي وعلاج مرضاه هي مواجهة الصدمات السابقة في حياة المرضى.
لم يمض وقت طويل على طرح فرويد لنظريته حتى إندلعت الحرب العالمية الأولى. وفي زمن الهدنة، اشتكى الآف الجنود من إضطرابات عصبية ونفسية ومن الشعور بالصدمة نتيجة أهوال الحرب، وتراوحت أعرض أمراضهم بين فقدان النطق إلى سرعة نبضات القلب، ومن الشلل، أو العمى المؤقت.
لم يكن الأطباء يعرفون بالظبط ما هو أسلوب العلاج الأمثل، ومع افتراض أن الجنود المرضى ضعاف العقول أو يعانون من الجبن، فقد قام الأطباء بمعاملتهم بقسوة شديدة وهم يحاولون علاجهم. واستخدموا الصدمات الكهربائية على أطراف الأعضاء، ورفعوا الشموع بجوار عيون المرضى الذين يشتكون من العمى، بل وأخضعوا من أصابهم الخرس الى ألم مبرح حتى يجبرونهم على الصراخ.
لم يدرك العالم إلا بعد عدة عقود أن الذي كان يعاني منه المرضى كان مرض يعرف بإسم إضطراب ما بعد الصدمة post-traumatic disorder، حيث اثقلت ويلات الحرب الحديثة نفوس هؤلاء الجنود بهذه الأعراض، وذلك بعدما ظهرت العديد من مدارس الطب النفسي التي خرجت من عباءة فرويد فإما تمردت عليه أو طورت من أساليبه.
الحاضر وثورة العقاقير
بعد الحرب العالمية الثانية، ومع حدوث تغيير ثقافي كبير في النظرة الى المرض، بات يطلق في الولايات المتحدة على “المجنون insane ” لفظ ” المريض العقلي”، وأُستبدل في التشريع الإنجليزي مصطلح مجنون lunatic بمصطلح “الشخص غير السليم عقليا” ، وفي عام ١٩٤٨ ألغت وزارة الصحة الفرنسية مصطلح alienés، وقررت استخدام مصطلح “المرضى العقليين”، وتبعهم في ذاك إيطاليا. وفي نفس السياق جرى تغيير أسماء دور ومصحات المجانين إلى مستشفى الأمراض العقلية.
ولقد بدأ الإنخفاض الحقيقي في أعداد مرضى الأمراض العقلية الموجودين في المستشفيات العقلية في الولايات المتحدة وبريطانيا في منتصف الخمسينات من القرن العشرين، تزامنا مع ظهور أول عقار حديث لعلاج الأمراض العقلية الكبرى، حيث وافقت هيئة الأدوية والأغذية الأمريكية في عام ١٩٥٤ على بيع الChlorpromazine ، تحت إسم ثورازين في الولايات المتحدة، وصاحبه أيضًا بيعه في أوربا تحت إسم لارجاتيل. بعد ١٣ شهر تقريبا بلغ أعداد الذي وصف لهم الدواء ٢ مليون شخص في الولايات المتحدة فقط حيث استطاع الأطباء أن يتجنبوا اعتمادهم على العلاج بالصدمات سواء بالأنسولين او بالكهرباء، و أحيانا التدخل الجراح، بمجرد علبة أقراص.
وإذا كانت ثورة العقاقير التي حدثت في علاج الأمراض العقلية أدت الى نتائج جيدة حتى الأن، فإننا لا ينبغي أن نرجع حصر جذور الجنون في الإضطرابات البيولوجية والكيمائية كما يراهن الكثير في الغرب، بل علينا أن ناخذ في اعتبارنا العوامل الإجتماعية والثقافية التي تحيط بالمريض. وإذا كان العلماء قد بدؤا في إزاحة الستار عن لغز الجنون، فإنه لازال معضلة عصية على الفهم حتى الأن، ولكن مرضاه يحتاجون إلى تضافر جهودنا جميعا للتخفيف من معاناتهم.
والواقع فإنه لازال هناك الكثير من الأمور المتعلقة بالأمراض العقلية تحتاج إلى فهمها، والكثير الذي ينتظر تطويره، فالقصة لم تنتهي بعد !
إعلان