التطور: العشوائية التي من حولنا

هل التطور عملية عشوائية؟ وماذا تعني كلمة "عشوائية"؟

لتتخيل معي، عزيزي القارئ، أن أحد المشرّعين الأمريكيين أو مسؤولي هيئة الطيران الأمريكية، أصدر قرارًا يوم 10 سبتمبر 2001 بزيادة الإجراءات الأمنية في المطارات والطائرات وتركيب أبواب مضادة للرصاص في طائرات كل شركات الطيران ليتم تنفيذ هذا القرار مباشرة. أغلب الظن أن شركات الطيران الأصغر كانت لتعترض على مثل هذا القرار حينها لتكاليفه الباهظة عليها، لكن هذا القرار كان كفيلًا بمنع وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا.
هذه إحدى التجارب الفكرية التي يمهد بها الكاتب نسيم نيكولاس طالب كتابه “البجعة السوداء“، الذي يتحدث فيه عن الأحداث “العشوائية” غير المتوقعة التي غيرت مجرى التاريخ.

والآن لنتخيل مرة أخرى عزيزي القارئ، لو لم تكن أحداث 11 سبتمبر الإرهابية قد وقعت، كيف تتوقع أن يكون حال الشرق الأوسط بل والعالم أجمع؟ لا بد أنه سيختلف كثيرًا، فالحادي عشر من سبتمبر لم تؤثر فقط على السياسة والحروب والإعلام، بل إن لها صدىً كبيرًا في نطاق ظاهرة “الإلحاد الجديد” أيضًا على سبيل المثال.

ما نود لفت النظر إليه: هل كان في مخيلة أي إنسان يوم 10 سبتمبر2001، أنه في اليوم التالي ستقع تلك العمليات الإرهابية؟ وهل كان بإمكان أحدهم بعدها مباشرة أن يقدم لنا تصورًا لما ستتركه تلك العمليات من أثر على صعيد السياسة والاقتصاد والدين والإعلام وغيرها؟ أم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت غير متوقعة، وكانت نتائجها غير متوقعة أيضًا -وغير حتمية، إن جاز لي التعبير؟

يصف نسيم طالب أحداثًا مثل الحادي عشر من سبتمبر بالأحداث الناشزة [Outliers]، ويشرحها في نظريته (نظرية البجعة السوداء) بأن تلك الأحداث لها 3 صفات: الحدث يكون غير متوقعًا للمتابع، يكون له تأثير كبير، وبعد وقوعه يتم التعامل معه كأنه كان يمكن التنبؤ به.. بتأثير الإدراك المتأخر Hindsight bias). كما أفهم نظرية نسيم طالب، فتلك الأحداث يتم التعامل معها بنظرة رجعية على أنها منطقية وكان يمكن التنبؤ بها، مبني لأنها في الأساس نابعة من مؤثرات وقواعدٍ ما، وليست اعتباطية تمامًا، بل إن هناك ما يقف وراءها -حسب قانون السببية-.

فالحادي عشر من سبتمبر لم تكن متوقعة –بالنسبة لنا كمتابعين على الأقل-، لكن هذا لا يعني أن الطائرات انحرفت عن مسارها بقدرة خارقة أو أن المسلحين ظهروا من العدم فجأة لينفذوا تلك العمليات. بل كانت الخلفيات الفكرية والاجتماعية والدينية لأولئك الأفراد بالإضافة إلى تاريخ أمريكا مع الشرق الأوسط –مثلًا- وعوامل مثل أنظمة الأمن في المطارات والطائرات، كان كل ذلك عوامل تراكمت لتؤدي في النهاية إلى تلك الأحداث التي غيرت وجه العالم؛ ويمكنك أن تقيس على ذلك الكثير من الأحداث التي يتناولها المختصون بالتحليل بعدما تقع، لكن نادرًا ما تجد شخصًا يتنبؤ بها قبل وقوعها (وحتى إن حاول منع وقوعها سيكون من الصعب عليه تبرير موقفه، وهذه هي فكرة الكاتب الأساسية).. أحداث مثل أزمة 2008 المالية وانتحار محمد البوعزيزي واغتيال أرشدوق النمسا عام 1914 يمكننا تصنيفها كبجع أسود، أحدثت تأثير فراشة على مستوى العالم كله، لكنها لم تكن متوقعة بالنسبة لنا.

إعلان

إن أحد أهم صفات حوادث “البجع الأسود”، هي أن تأثيرها لا يكون بالضرورة مخططًا له مسبقًا. لنرجع لأحداث الحادي عشر من سبتمبر: هل كان تنظيم القاعدة يهدف إلى ظهور ونمو ظاهرة الإلحاد الجديد بهذه العمليات؟

هل كان يعتقد مؤسسو موقع فيسبوك أن موقعهم هذا -بالإضافة لباقي مواقع التواصل- سيكون ثورة في مجال التواصل ومحركًا أساسيًا لحركات الاحتجاج التي هزت العالم منذ 2011 كحركة احتلوا وول ستريت مثلًا، أو الربيعِ العربي، الذي نشأ عنه -تباعًا- موجة لجوء إلى أوروبا قد تغير تركيبها السكانيّ؟!

قطعًا لا! لكن تلك الأحداث غير المتوقعة -أو، لنكن واضحين الآن، العشوائية بالنسبة لنا كمتابعين- تفاعلت مع عواملٍ اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية كثيرة، فأدت تلك العوامل لظهور مثل هذه الأحداث بالتبعية.

عودة بالزمن

لنرجع الآن بالزمن 60 مليون عامًا للماضي، حيث كانت الديناصورات تجول وتصول على هذه البسيطة. لنفترض أننا تواجدنا في تلك الحقبة وشاهدنا الديناصورات تسود العالم (مع الاعتذار للمؤمنين بمعاصرة البشر للديناصورات، فهذا مجرد افتراض للتوضيح)، هل كنا نستطيع توقع أن يأتي نيزكٌ ما ليرتطم بالأرض، ثم تنقرض من بعده تلك الديناصورات العظيمة؟ أم أن ذلك الحدث كان غير متوقع (صدفة، إن جاز لي التعبير أيضًا) بالنسبة لنا كمشاهدين؟ هل كان من الضروري -بالنسبة لنا- أن يسقط ذلك النيزك في مكانه بالتحديد ليؤدي سقوطه بالتبعية والتسلسل إلى تدهور الجو على الأرض ومن ثم انقراض الديناصورات؟

لنرجع بالزمن أكثر وأكثر هذه المرة، قبل انفصال بانجيا، ولنفترض أني وإيّاك -عزيزي القارئ- وُجدنا منذ 300 مليون سنة. هل كان بإمكاننا التنبؤ والتوقع بأن هذه القارة العملاقة –وهي ليست الوحيدة من نوعها بالمناسبة في تاريخ كوكب الأرض-، هل كنا سنستطيع تحديد كيف ستنفصل وإلى أي موقع بالضبط ستكون أجزاؤها بعد 300 مليون سنة؟ هل كان من الضروري أن تقع أستراليا في أقصى جنوب شرق الخريطة، بينما تتربع الجزيرة العربية في منتصفها، وتتحرك الهند من شرق إفريقيا لترتطم بجنوب آسيا؟ أم أن تلك التحركات كانت عشوائية بالنسبة لنا كمشاهدين، ومحكومة فقط بتحركات طبقات الأرض وعواملها الجيولوجية والفيزيائية؟

لنعد الآن إلى الماضي القريب، منذ 200 سنة، لنقابل الجد الأكبر لباراك أوباما مثًلا، أو لأسامة بن لادن، أو للشيخ محمد الغزالي. هل يمكنك –بحساباتك البشرية المادية- أن تتنبأ أن ذرية هذا الرجل ستنجو كلها إلى مرحلة التزاوج؟ هل كان محتمًا –بحساباتنا البشرية الصرفة- أن أبناء هذا الرجل وأحفاده سيتمكنون من الإنجاب وسيكون من ذريتهم فلان أو علان؟ لننظر للموضوع من زاوية أخرى، هل كان ظهور فلان أو علان  من الناس حتمية تاريخية.. بمقاييسنا نحن كبشر وبقدرتنا على الرصد والتنبؤ؟

تذكروا معي هذه الأمثلة، فسأعود لها بعد قليل!

ماذا تعني عشوائية؟

«سينتهي ثلاثة أرباع اختلاف أهل الأرض إذا اُتفق على المصطلحات»، لهذا علينا أن نسأل: ماذا يعني القول بأن التطور عملية عشوائية؟

العشوائية في العلم تعني ببساطة عدم القدرة على التنبؤ بنتيجة ظاهرةٍ ما، لأن حدوث هذه الظاهرة ليس محكومًا بالضرورة بما حدث في الماضي. ولا أعتقد أن هناك عالم أحياء يختلف مع هذا المعنى في العموم. بهذا التعريف فإن مفهوم “العشوائية” يتطابق مع مفهوم “البجعة السوداء” الذي قدمناه في بداية هذا المقال.. بمعنى أننا –كبشر- وباقي الكائنات، في موقع المتابع والمشاهد، لا يمكننا التنبؤ بمسار الحياة والطبيعة وبالتالي مسار التطور.[1]

التطور عملية معقدة تخضع لعوامل وعمليات متداخلة كثيرة، ولضخامة هذه العملية ومؤثراتها فإن الإحاطة بكل تفاصيلها ومدخلاتها يكاد يكون مستحيلًا، ولهذا لا يمكننا التنبؤ بنتيجتها؛ وهذا ما يعرف بـنظرية الفوضى. والفوضى المقصودة تعريفها هو: أن التغيرات الأولية الطفيفة في أي نظام، تؤدي إلى فروقٍ شاسعة في النتائج (sensitive dependence on initial conditions).فعلى الرغم من أن كل عملية منفردة محكومة بنظامٍ ثابت، إلا أن تراكم الكثير من تلك العمليات يجعل حصرها والتنبؤ بها شبه مستحيل. [2]

لن تجد كتابًا علميًا يقول: أن التطور عملية عبثية ومحض صدفة، فمفهوم العشوائية في العلم لا يساوي “العبثية والصدفية” بالمفهوم الفلسفي الذي هو انعدام النظام أو انعدام الغائية أو انعدام السببية. هناك فرق بين مصطلح Random – أو contingent – وبين مصطلح العبثية absurd!

ماذا يعني هذا؟

لنأخذ مثالاً واقعيًا لشرح الفكرة:

من آليات الانتواع في الطبيعة هي الانعزال الجغرافي geographical isolation؛ حيث تنعزل مجموعةُ أفرادٍ من نوعٍ ما عن باقي أفراد النوع لسبب جغرافي، فبالتالي يحدث لهاتين الجماعتين انعزال جيني فلا تتزاوجان من بعض، وبالتالي ينعزل الحوض الجيني الخاص بكلٍ منهما، وهذا الانعزال الجيني يؤدي في النهاية إلى الانتواع وظهور أنواعٍ جديدة، لا تستطيع التزاوج فيما بينها.

الحادي عشر من سبتمبر

كمثال على ذلك، يقدر العلماء أنه منذ حوالي 3 ملايين سنة، نشأ برزخ (بنما) في أمريكا الوسطى. قبل ظهور هذا البرزخ كانت الكائنات البحرية على الناحيتين منه تعيش في نفس البيئة البحرية وتتكاثر مع بعضها البعض، لكن مع ظهور هذا البرزخ (نتيجة للعوامل الجيولوجية التي لم يمكنّا –كمتابعين- التحكم بها)، انفصلت الجمبريات التي كانت تعيش في نفس البيئة عن بعضها. وحين قام الباحثون بوضع جمبريات من الناحيتين سويًا، رفضت الكائنات التزاوج، بالرغم أنها شديدة الشبه ببعضها البعض. لقد انفصلت إلى نوعين مختلفين لا يمكنهما التكاثر مع بعضهما. (بالمناسبة، عملية الانتواع هي المرحلة الوسيطة بين التطور الصغروي والتطور الكبروي، وهي مثبتة علميًا بمئات المشاهدات، فحدوث الانتواع يلزم حدوث التطور الكبروي).

السؤال هنا: لنفترض مرة أخرى أننا تواجدنا منذ 3 ملايين سنة ونحن نرى تلك الجمبريات في نفس الموقع، هل كنا نحن –كمتابعين-  قادرين على الجزم بأن برزخ بنما سيظهر ليفصل الكائنات عن بعضها؟ أم أن ذلك الحدث كان عشوائيًا بالنسبة لنا (ولها أيضًا)؟ هل وجود هاذين النوعين بالذات من الجمبري، حتميّ الحدوث بالنسبة لنا؟ كان من الممكن أن تختلف أفراد المجموعتين، أليس كذلك؟

هل تجارب الانتواع التي يقيمها العلماء في المعامل، أو الملاحظة في الطبيعة (مثل الـring species مثلًا)، متوقعة بالنسبة للأنواع التي وقعت لها ولنا كبشر؟ أم أنها كانت بجعًا أسود بالنسبة لتلك الكائنات؟ هل كان يمكننا من 10 سنوات القول أن بعض الباحثين سيتمكنون من فصل أفرادٍ من نوعٍ معين لكي ينفصلوا إلى نوعين مختلفين وتحديد خصائص هاذين النوعين؟

الإجابة بالتأكيد: لا.. ولهذا فالتطور عملية عشوائية.

عشوائية، ولكن..!

نعم، الطفرات عشوائية، ولهذا هي لا تحدثُ حسبَ احتياجاتِ الكائن، ولهذا تنقرض الأنواع إن تغيرت ظروفها ولم تستطع أن تتأقلم. طفرات البكتيريا ضد المضادات الحيوية -مثلًا- عشوائية، لهذا قد يهلك 99% من أفراد نوع من البكتيريا لأنهم لم يتكيفوا، وينجو 1% فقط لأن الطفرة النافعة حدثت لديه، ولهذا تنقرض بعض الأنواع تمامًا إن لم تُستحدَث لديها صفاتٌ لتواجه التغيراتِ المحيطةَ بها (مع الاعتذار لمن يدعون أن التطور الصغروي مجرد “تكيفات”). الطفرات عشوائية لأن الكائن لا يتحكم فيها، ولأنها غير واعية بما يحتاجه. لو كان كل التطور الصغروي “تكيّفًا”، للزم لكل أفراد النوع النجاة والتأقلم مهما حدث!

كيف يفسر منكرو التطور حدوث طفراتٍ ضارة للكائن إذن إن لم تكن عشوائية؟ لماذا يخلق الله طفراتٍ ضارة بمنطقهم هذا؟

نعم، هناك دورٌ لما نسميه “الصدفة” في تحديد أي صفات ستنتج، وأي صفات سيتم استبقاؤها؛ لكن تلك “الصدف” التي تحدد مسار التاريخ الطبيعي هي كذلك “البجع الأسود” الذي مثّلنا له آنفًا. قل لي: هل تستطيع تحديد أي زوج من الكروموسومات سيحصل عليه ولدك؟ توزيع الكروموزومات والصفات التي حصلت أنت عليها من والديك كان يمكن أن يكون مختلفًا، أليس كذلك؟

لا عشوائية مطلقة

في دورة التطور التي أقامتها مدرسة شيخ العمود بالقاهرة، والتي تبعتها محاضرة (للرد) للدكتور هيثم طلعت، أوضح الشيخ أنس السلطان -كتعقيب على عدم ربط التطور بالإلحاد- أنه لا يصح القول أن “شوية حاجات خبطت في بعض” فنشأ لنا الكون وظهرت الحياة! سمعت هذه العبارة ثم فكرت للحظة.. هل هكذا يفهم معارضو التطور مفهوم العشوائية؟!

ليس في العلم ما يسمى “صدفة”.. وهناك فرق بين التعريف الفلسفي (أو الملحد) للعشوائية وبين التعريف العلمي. إذا اعتبرنا كل شيء شيء صدفة فسيسقط العلم؛ لأن العلم بالاساس هو التفكير المنهجي ومحاولة وضع قواعد لوصف العالم.. إذا اعتبرنا ترتيب طبقات الصخور الرملية محض صدفة، وتوزيع الكائنات الحية محض صدفة، وسلوك المواد حين تتعرض للحرارة “صدفة”.. فماذا بقي من العلم؟ ولا أعلم بالضبط من أين يأتي البعض بمفهوم “الصدفة” هذا في العلم، وأحسب أنه يكون خللًا في ترجمة كلمة chance مثلًا!

وبالمناسبة، هذا ما أعتقد أن الدكتور عمرو شريف يقصده عندما يقول أنه يرفض العشوائية، وإن لم أكن متابعًا لكتابات الدكتور كثيرًا.

إن حدوث التطور واستمراره محكوم بقوانين، كالوراثة المندلية، والانتخاب الطبيعي الذي يتخلص من الطفرات والصفات الضارة على سبيل المثال. لهذا سترى الكائنات –مثلًا- تتبع نظامًا تشريحيًا معينًا ورثته من أسلافها؛ لن تجد كائنًا جرابيًا يتزاوج لينتج لديه صدفةً وبلا سبب كائنٌ مشيميّ! (وجدت مرة شخصًا يتساءل بجدية: ما دام التطور عملية عشوائية لماذا لا تنشأ لنا أنوف مكان آذاننا!!)

إن من يدّعون أن التطور عملية عشوائية بالكلية في نظري لم يفهموا كيف يعمل التطور وكيف يعمل الإنتقاء الطبيعي أساسًا. بل إن أغلب النقد الموجه للتطور في العالم العربي يكون موجهًا لهذه “العشوائية” الصُدفية بالأساس.

إحدى أشهر مقولات ريتشارد دوكنز هي أن “التطور هو الانتقاء غير العشوائي للطفرات العشوائية”.

ولكن ألم يقل داروين أن ظهور الكائنات تم دون قصد؟

عرضنا في المقال الثاني من سلسلة (من رحلة البيغل إلى رحلة اليقين) كيف أن الدكتور إياد قنيبي قام بعرض بعض الاقتباسات من كتاباتِ داروين واصفًا إياها بإنها إنكارٌ للتصميم والنظام من الحياة؛ ووضحنا كيف تم اقتطاع هذه الاقتباسات من سياقها. بل إن داروين، في مذكراته، كان معترفًا بأن وجود النظام والتكامل في الحياة لا يمكن أن يكون قد نشأ عن طريق “صدفةٍ عمياء” على حد وصفه [وإن كان في آخر حياته ظل على موقفه اللا-أدريّ].

Reason tells me of the extreme difficulty or rather impossibility of conceiving this immense and wonderful universe, including man with his capability of looking far backwards and far into futurity, as the result of blind chance or necessity. When thus reflecting I feel compelled to look to a First Cause having an intelligent mind in some degree analogous to that of man; and I deserve to be called a Theist.

وقد سبق لي أن ذكرت أن داروين في بعض هذه الاقتباسات كان لتوّه يتحدث عن وجودِ نظامٍ ما في الكائنات الحية (مثلًا، نظامٌ تشريحي ينشأ لدى كائنٍ وينتقل لذريّته بقوانين الوراثة). لا داروين ولا غيره قال أن التطور يعني أنّ “شوية حاجات خبطت في بعض”.. فنشأت لنا الحياة ونشأ كلُّ هذا التعقيد فيها!

عودٌ على بدء

لنعد إلى الأمثلة التي استعرضناها في بداية المقال.

لنعد لذلك النيزك الذي أدى لانقراض الديناصورات. ماذا لو لم يسقط ذلك النيزك؟ من الوارد في تلك الحالة –المتخيلة- أنني عوضًا عن إطعام قطي الأليف اليوم، كنت سأقوم بإطعام ديناصوري الصغير! (والذي بالطبع سيكون مختلفًا عن ديناصورات العصر الطباشيري، مع الاعتذار للمؤمنين بعدم تغير الكائنات مع مرور الزمن). هذا النيزك كان “بجعة سوداء” بالنسبة للديناصورات المسكينة.

لنفترض أن لسببٍ جيولوجيٍ ما لم تنفصل شبه القارة الهندية عن شرق إفريقيا، ماذا كان سيكون تأثير هذا على تاريخ البشر وحضاراتهم؟ ربما يمكننا الآن بأدواتنا وعلومنا الحديثة التنبؤ بمسار بعض القارات والصفائح الأرضية، لكن لا يمكننا نفي إمكانية حدوث “بجعاتٍ سوداء” تغير مجرى حساباتنا تماما حسب نظرية الفوضى!

هل يمكنك الآن ان تخبرني مَن مِن ذرية جيلنا من سيكون رئيسًا ومن سيبتسم له الحظ ليكون رجل أعمال مشهورٍ مثلًا؟ كلا! تلك الأمور غير خاضعة للقياس بالمسطرة ولا يمكننا استقراء أحداث المستقبل بالضبط مما حدث في الماضي ويحدث الآن. حيواتنا تخضع لأحداث عشوائية بالنسبة لنا.. نحن لا يمكننا توقع البجع الأسود!

“ما تعتقد انه عشوائي على مستوى الكون المرئي، هو حتمي ومنظم للغاية على مستى الكون غير المرئي. الفكرة في رؤيتك انت للاحداث وليست في حقيقة حدوثها.” [3]

العشوائية: التفسير المنطقي

ليجبني منكرو التطور، كيف يفسرون –مثلًا- وجود الديناصورات وانقراضها منذ ملايين ملايين السنين قبل وجود أي إنسان على سطح الأرض؟ لماذا خُلقت هذه الكائنات وعاشت لعشرات ملايين السنين ثم انقرضت واختفت تمامًا.. وما “الحكمة” من ذلك إذا لم يكن ليعلم أحد بوجودها إلا قبل 200 عام فقط؟ وقِس على ذلك، لماذا ظهرت المفصليات ثلاثية الفصوص (trilobites) مثلًا لمدة 300 مليون سنة ثم انقرضت منذ 250 مليون سنة في قيعان المحيطات ولمّا يعلم بها أحد؟!

لماذا انقرضت 99% من الأنواع (حسب بعض التقديرات) في ضوء الخلق الخاص للكائنات؟ هل كان الله يخلق كائناتٍ حيةَ لتحيا لملايين السنين ثم يقضي عليها بلا سبب؟ لماذا بعدها يخلق أنواعًا أخرى مكانها خلقًا خاصًا ولكن بتغيير طفيف فقط على شكلها؟

إذا وُجدنا منذ 40 مليون سنة هل كنا نتوقع ظهور الفيل الآسيوي والإفريقي من سلفهما المشترك؟ لا يوجد سبب يجعلنا نحكم بحتمية ظهور هذين “النوعين” بالذات من منظور بشري محض! لماذا خلق الله –على انفراد- كل هذه “الأنواع” من “الفيلة” ثم جعلها تنقرض، مع خلق كل شكلٍ لاحق بتعديل طفيف على سابقه؟ إن لم تكن تلك الكائنات تتغير باستمرارية، كطيف  -spectrum- من التغيرات عن سابقتها، لتتأقلم مع بيئاتها التي ترميها الأقدار إليها، فما تفسير هذا؟

لماذا نقبل بوضع الله نظامًا لتسيير الكواكب والأفلاك دون تدخل خارقٍ منه لضبط حركتها، لكننا لا نرضى بوضع نظام لنشوء الأنواع ونحتاج إلى القول بخلق خاصٍ خارق لكل منها؟

ألا يقولون أن التطور غير موجه ولا غاية له؟

تقول كل كتب التطور تقريبًا وتذكر: بأن التطور ليس له غاية، ولا يعمل لهدف.. ما يراه البعض يتنافى مع عقيدتهم بوجود غاية للوجود.

دعني أسألك سؤالًا: ما هي غاية نظرية الانفجار العظيم وتمدد الكون؟ ما هو هدف نظرية الجاذبية؟ ما هي وجهة نظريات تفسير حركات الأجرام ونظريات الأمراض والجراثيم؟ ما غاية ذرات الأكسجين في عمليات الأكسدة مثلًا؟

كما قلنا سابقًا: التطور عشوائي من ناحية أنه خاضع للأحداث غير المتوقعة والاحتمالية التاريخية contingent، بل خاضعة لمجموعة من العمليات الحيوية والفيزيائية (المحكومة بقوانينها)، ومن ناحية أن الطفرات مثلًا لا تنشأ لدى الكائن حسبما يحتاجه (ولهذا تنقرض الكثير من الكائنات). التطور عملية تسعى لتكيف النوع مع بيئته وظروفه وفقط، كما أن تمدد الكون عملية تعمل  على توسيعه وفقط، وأن الالكترونات تسعى لملئ المستويات حول نواة الذرة وفقط.

إعادة تدوير شريط الحياة

في كتابه “الحياة الرائعة” (Wonderful Life)، قال عالم الحفريات التطوري الشهير (ستيفن غولد) أننا إذا قمنا “بإعادة تدوير شريط الحياة” من البداية، فإننا لن نحصل على نفس الأنواع الحية الموجودة الآن، بل وربما لن يكون البشر قد ظهروا أصلًا. فكِّر فيها: لو لم يسقط ذلك النيزك لربما ظلّت الثدييات عبارة عن كائناتٍ صغيرة ولمَا أتيح لها المجال لتستعمر الأرضَ بعد انقراضِ الديناصورات. لأن التطور عملية تخضع للأحداث العشوائية غير المتوقعة، والأحداث الصغيرة غير المتوقعة قد تنتج “تأثير فراشة” لتنتج تغيرات ضخمة في التاريخ (البجعة السوداء). ولا سبب –في نظره- يدعونا لاعتبار جنس البشر مميزًا، أو أن عملية التطور والانتواع وتاريخ الحياة كان ليسير بنفس الشكل لو أعدناها لنقطة الصفر، ثم بدأناها من جديد.

يقول الدكتور (كينيث ميلر) في كتابه “البحث عن إله داروين”، إن هذه بالضبط هي مشكلة المؤمنين مع نظرية التطور: أن البشر ليسوا مميزين، وأن ظهورنا كان ممكن ألا يحدث لو سارت أقدار الطبيعة بشكلٍ مختلف. [4]

لكن ميللر في كتابه اللاحق (Only a Theory) لا يوافق (غولد) في أن نشأة البشر كانت “صدفة”، بل كانت حتمية. ويشاركه في هذا الطرح بعض العلماء (المؤمنين) الآخرين، مثل (كارل جيبرسون)، و(سيمون موريس). يحاول (موريس) –مثلًا- في كتابه (Lonely Universe) أن يثبت أن ظهور البشر (أو بالأحرى، حياة واعية عاقلة) على كوكب الأرض كان مسألة وقت لا أكثر، معتمدًا على “حجج” علمية.

هل معنى هذا أن التطور “موجه” في النهاية؟ كلا. فقد كتب (جيري كوين) -مثلًا- ردًا ومناقشةً لتلك الآراء، قائلًا أن العلم التجريبي لا يمكنه الفصل في هذه المسألة -بل إنه يرى أن ظهور البشر كان غير وارد-. والأمر كما يبدو محل جدل، ولكن لنكن واضحين: فهو جدلٌ فكري.. لا علميّ.

ما الذي أرمي إليه من كل هذا؟

إذا أخذنا في الاعتبار موقف (ستيفن غولد) اللا-أدري، أو موقف (جيري كوين) الملحد، ومعتقدات (ميلر) و(جيبرسون) و(موريس)، المؤمنين المسيحيين، ستعرف لماذا قال كلٌ منهم ما قاله. لأن كل هذه الآراء هي كما ترى: آراء فلسفية مبنية على حجج نابعة من موقف صاحبها العقديّ (ولو كانت مستمدة من مشاهدات علمية)؛ لكنها لا ترقى –وفي رأيي غالبًا لن ترقى- لمستوى نظرية علمية يمكن للعلم أن يقطع بصحتها. بالضبط كما أن المؤمنين قد يرون أن مبدأ الضبط الدقيق للكون (دليل التصميم) قد جُعِل لتكون نشأة كوكب الأرض والحياة ممكنة، في حين يرى غير المؤمنين أن ذلك محض صدفة.

هذه مواقف عقدية، لا يمكننا إعادة تدوير شريط الحياة لنرى إذا كان نشوء البشر حتميًا -بمنظورٍ بشريّ-، كما أنك لن تستطيع إعادة شريط حياتك لترى إن كنتَ أنتَ وشريكةُ حياتك قد قُدرّتما لبعض منذ لحظة ولادتكما، أم أنه كان من الممكن لها أن تقابل غيرك.

يمكنك أن تعتقد أن كل هذا خطةٌ مسبقة من الله، أو أن الله قدّر لكما أن تلتقيا منذ البداية.. لكن يبقى هذا موقفًا عقديًا؛ لن يستطيع العلم التجريبي البتَّ فيه -كما لن يستطيع البتّ في حتمية ظهور البشر من عدمها. هذا لا يعني أن العلم ينفي أن هناك خطة إلهية مثلًا، لكن هذا يعني أن هذه المسألة خارج نطاق العلم التجريبي.

لماذا لا أقول بالتطور الموجه

يصنّفني الكثيرون من معارضي التطور بأني من “أتباع” الدكتور عمرو شريف وأنني أقول بالتطور الموجه، والحقيقة هي أنني لست متابعًا للدكتور ولا علم لي بطرحه بالضبط. فعبارة “التطور الموجه” لها عدة معانٍ (قد تعني أن الله يتدخل في عملية التطور لتغيير مسارها أو قد تعني أن الله يعلم نتائجها مسبقًا مثلًا)؛ وفي كلتا الحالتين لا يمكننا إثبات هذه الفرضيات بالمنهج العلمي التجريبي (للأستاذ معتصم وهيب مقالٌ عن رأيه في التطور الموجه يتعرض فيه لهذه الإشكالية).

التطور عملية غير موجهة، غير موجهة بحساباتنا البشرية المادية القاصرة، غير موجهة كما أنّ التاريخ سيرورة عشوائية وغير متوقعة (فوضوية) بالنسبة لنا كبشر. افتراض أن الله يوجهها أو يعلم نتيجتها هو موقف اعتقادي لا يفيد في البحث العلمي، لذلك فالقول بالتطور الموجه –بالنسبة لي على الأقل- هو فرضٌ فلسفي؛ لأن حتى لو فرضنا أن الله يعلم ما سيُنشئه التطور، أو أنه يوجهه، أو يتدخل فيه، فهو لا زال عملية عشوائية بالنسبة لنا لا يمكننا التنبؤ بمسارها.

أنت تعلم أنه كان بإمكانك أن تختار اختيارًا مختلفة في حياتك وتكون تبعاته مختلفة.. فلماذا نتقبل فكرة “فوضوية” مسار حياتنا ولا نقبله في تاريخ الحياة؟ ما الفارق –بحساباتنا البشرية- بين الاثنين؟ فنحن ننظر للماضى ونعتقد أنه قد “صُمم” ليُناسِبَنا، أو أن كل شيء كان يسير بإرادة الله، بالرغم من علمنا أن التاريخ احتماليّ. ويمكننا تقبل فكرة أن أحد أجدادنا مثلًا يمكن ألا يكون قد وفّق للزواج وبالتالي يمكن -عقلًا- تصوًر ألّا نكون موجودين (مرة أخرى، بحساباتنا المادية البشرية القاصرة)؛ لكننا نعتقد أن كل شيء يمضي بعلم الله وخطته، فالله يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكنْ لو كانَ كيفَ كانَ يكون. فما الفارق إذن؟

قال أينشتاين مرة “إن الله لا يلعب النرد“.. ورد عليه نيلز بور: “من هو أينشتاين ليخبر الله بما يمكنه فعله؟

ختامًا

أود في النهاية أن ألفت النظر إلى قضية مهمة في نظري، وهي أن علم الأحياء لا يزال فيه الكثير من الألغاز، ولم يتقدم إلى الحد الذي وصلت إليه الفيزياء مثلًا. كتابات وحجج مثل حجج (سيمون موريس) مثًلا قد تستحق النقاش والبحث العلمي في رأيي الشخصي،  فقد تقدم منظورًا جديدة للاستكشاف أو تفتح مجالاتٍ جديدة للبحث العلمي إذا تم إثباتها بطريقة علمية منهجية (كما مع الثوابت الفيزيائية مثلًا). لكن ما لم يتم هذا، فستظل فروضًا فلسفية لا تهمُّ العلمَ كثيرًا.

ولهذا ففي رأيي القاصر، إن أفضل وسيلة يمكن لمعارضي ومنكري التطور أن ينفوا بها “العشوائية” -كما يقولون- عن الحياة والخلق، هي أن يبدؤوا في البحث العلمي وأن يتعلموا وينظروا ويبحثوا في تاريخ الحياة ونشأتها، لعل تطوير وتنقيح نظرية التطور البيولوجي يكون من نصيبهم ويكون لنا سبقٌ ما في تاريخ العلم.. عِوضًا عن المحاولات البائسة لإسقاط التطور باستخدام (أبحاث) وحجج الخلقويين المسيحيين الأمريكيين.

[1] The Chaos Theory of Evolution
[2] نظرية الفوضى وأثر الفراشة؛ عمرو حسام، ساسة بوست
[3] التطور والعشوائية؛ مازن عماد.
[3] Finding Darwin’s God, p. 233

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: زياد حسنين

اترك تعليقا