“في ذلك اليوم تذكّرَت البشرية”: ما الذي يجعل «هجوم العمالقة» استثنائيًا؟

مع صدور آخر أعدادها الأسبوع الماضي تنتهي أخيرًا قصة «هجوم العمالقة – Attack on Titan» التي بدأت كمانغا عام 2009 وصدر أول مواسم الأنيمي الخاص بها عام 2013. وبانتهاء الموسم الرابع  بنهاية مارس الماضي ربما شعر الكثيرون بحماس وترقب متابعي القصة لصدور الموسم الأخير من الأنيمي بنهاية هذا العام.

«هجوم العمالقة» يحتل بلا جدال مكانًا ضمن أفضل قصص ومسلسلات الأنيمي، ليس فقط لحبكته وإخراجه كعمل فنيّ، بل أيضًا لعمق قصته ودلالاتها وتفاصيل العالم المتكامل الذي صنعه خيال كاتب المانغا «هاجيمي إساياما». ذلك العالم الذي يعيش فيه ما تبقى من البشرية داخل تلك الأسوار العملاقة التي تحميهم من العمالقة خارجها و تدور أحداثه حول «إيرين»، الطفل الذي نشأ داخل الأسوار ويحلم بالخروج إلى العالم الخارجي والانتقام من العمالقة فينضم إلى فرقة الاستطلاع. كما أنه يلامس قضايا كثيرة تهم الكثيرين، مثل الحرية والحياة والصداقة والخيانة وأخطاء الماضي، وغيرها الكثير.

في ذلك اليوم.. تذكرت البشرية

لنتحدث أولًا عن «هجوم العمالقة» كعمل فني، وسنحاول تفادي أي “حرق” للأحداث لمن لم يتابعوا المسلسل بعد.

يتميز «هجوم العمالقة» بقصة قد توصف بأنها متداخلة ومعقدة في البداية، حيث تحاول شخصيات المسلسل معرفة سر العمالقة وهزيمتهم. إلا أنك مع تطور القصة ووصولها إلى ذروتها، ستكتشف كم كانت الأمور واضحة أمامك منذ الحلقة الأولى ربما. وكيف أن كل التعقيد الذي في القصة قد اتضح بسرعة. ما يجعل وقع القصة مؤثرًا بالفعل هو أنك تعيش مع شخصياتها تحدياتهم وأحداثهم، بالطبع مع بعض التشويق الذي يتفنن الكاتب «إيساياما» في بثّه بين الحين والآخر، ما يجعلك على الدوام في قلب الأحداث ومتفاعلًا معها شعوريًا.

المسلسل أيضًا يمدح كثيرًا لتماسك قصته والاهتمام بالتفاصيل فيها، ما يدل على براعة «إيساياما» كمؤلف. فلن تجد مشاهد غير ذات مغزى أو حلقات دون أحداث، بل أنت دائمًا في حالة ترقب وانتظار. هناك تفاصيل قد تبدو هامشية في البداية، ولكن حين تنتهي من مشاهدة مواسم الأنيمي فإن الأمر يستحق أن تعيد مشاهدتها من البداية. وبكل تأكيد، سترى تفاصيل لم ترها من قبل، وقد ترى المسلسل بالكامل بعيونٍ أخرى، متسائلًا “كيف فاتني كل ذلك؟”.

إعلان

قصة المسلسل أيضًا تتميز بقدر كبير من الواقعية، ما يجعلها مناسبة للمشاهدين الأكبر سنًا. دع عنك كل افتراضاتك المسبقة عن الانيمي -أو الكرتون- حين تبدأ بمشاهدة هجوم العمالقة، فالمسلسل سيخالف توقعاتك تمامًا. وهو في رأيي جزءٌ مهم مما يجعله ناجحًا، فالعمل الفنّي الذي يدفعك دفعًا للاندماج فيه والتفاعل معه بشكلٍ شخصي، ويصور لك واقعك بشكلٍ تعجز عنه الكلمات، هو العمل الفنّي الذي يستحق أن يوصف بأنه ناجح بالفعل. ورغم أن الكثيرين يعتبرون هجوم العمالقة مسلسلًا سوداويًا، ذا قصة كئيبة -وهو صحيح إلى حدٍ كبير بلا جدال-، إلا أنه في رأيي يتجاوز تلك العدمية إلى ما هو أعمق منها. وسنتحدث عن ذلك بعد قليل.

أنيمي هجوم العمالقة

شخصيات «هجوم العمالقة»

من منا لم يشعر بالقشعريرة أثناء خطب القائد «إروين سميث»؟ من منا لم يعجب بحزم «ميكاسا» وحرصها، أو بشخصيات الثلاثي المرح – «جان» و«كوني» و«ساشا»؟ حين سألت العديد من أصدقائي لم يتمكنوا من تحديد أيٍ من الشخصيات هي المفضلة بالنسبة لهم، إذ أنهم أعجبوا بكل الشخصيات وتفكيرها ومشاعرها وتاريخها. كل شخصية في هجوم العمالقة -مهما كانت هامشية- لها هدف وإضافة للقصة.

على عكس الكثير من المسلسلات ذات الشخصيات الثابتة، فإن هجوم العمالقة يطوّر وينمّي كل شخصياته تقريبًا بشكلٍ مستمر وبشكل واقعي يجعل المشاهد يتفكر في ظروف الشخصيات وتقلباتها بسبب أحداث المسلسل. كيف أثر كل حدث في كل شخصية وكيف تعاملت معه؟ هناك الشخصيات التي تقاوم، وتلك التي تستسلم؛ الأفراد الذين يصمدون بعد المحن وأولئك الذين ينهارون، وهنالك من يتغيرون تمامًا بعد حدثٍ جلل. ولكن هل علينا أن نتوقع أن يتفاعل كل فردٍ بنفس الطريقة مع الظروف التي تضعه فيها الحياة؟ هل نلوم من تغير للأسوأ بسبب المآسي التي عاشها؟

أنيمي هجوم العمالقة : الإخراج والموسيقى

لا يمكننا بالطبع أن نغفل عن الجهد العظيم المبذول في إخراج ورسم وتصميم مشاهد الأنيمي نفسه، والذي قام به استوديو «WIT» لأول ثلاث مواسم، قبل أن يستكمل استوديو «MAPPA» الموسم الرابع. أسلوب ونمط استوديو «WIT» بارز بالفعل وارتبط بالمسلسل لدرجة أنه اشتهر بكونه “استوديو هجوم العمالقة”. صممت الشخصيات بتقنيات جديدة وبسيطة الرسم ما جعل تحريكها سهلًا، كما أن عملية الرسم والتحريك دمجت تقنيات الـCGI والرسم ثنائي الأبعاد معًا لتنتج لنا مشاهدًا مبهرة كهذه. لتوضيح مدى صعوبة ودقة عملية التحريك والرسم التي قام بها استوديو «WIT»، فبعض مشاهد الأنيمي التي لم تمتد سوى لدقيقة قد تحتاج حوالي شهر لإتمامها.

وفي حين اعترض الكثيرون على أداء «MAPPA» وخافوا من تدني مستوى الإخراج، إلا أنهم أثبتوا بالفعل قدرتهم على استكمال المسلسل بنفس والكفاءة والتميّز في إخراج الأحداث أخذًا في الاعتبار المدة الزمنية القصيرة التي أتيحت لهم للعمل على الموسم الرابع. ونحن في انتظار كيف سيظهر الجزء الثاني من الموسم الأخير.

الكثير ممن شاهد المسلسل يعرف تلك المشاهد من المسلسل التي لا يتوقف عن مشاهدتها وإعادة مشاهدتها لشدة تأثيرها ووقعها والمشاعر المتضاربة التي أثارتها فينا والأحداث غير المتوقعة التي عايشناها خلالها. جزء كبير من تجربة مشاهدة «هجوم العمالقة» يكمن في الموسيقى التي ترافق أحداث ومشاهد المسلسل، والتي قام بتأليفها الموسيقيّ الياباني «هيرويوكي ساوانو»، والذي يلقبه الكثيرون بـ«هانز زيمر اليابان» بسبب مقطوعاته العظيمة.  لا يسعنا أيضًا ألا نذكر أغاني المسلسل نفسه ونهاياته، وكم كانت حماسية وترمز إلى العديد من أفكار المسلسل. حاول فقط ألا تكرر مع نفسك شعار «شينزو ساساجيو» بعد مشاهدة الموسم الثاني لتعلم كم أن الأمر يكون صعبًا.

ولكنني أنصح كل من لم يشاهد الأنيمي حتى الآن بألا يبحث عن مشاهده أو موسيقاه ولا عن حلقاته على وسائل التواصل أو اليوتيوب، فللأسف الكثير من متابعي هجوم العمالقة يقومون بحرق الأحداث دون مبالاة أو مراعاة.

أنيمي هجوم العمالقة

لأنني ولدت في هذا العالم!

ما هو معنى ان تكون حرًا؟ ما الثمن الذي تستطيع أن تقدمه لكي تحقق حلمك أو لكي تنال حريتك؟ ماذا يمكننا أن نفعل حيال الأمر الواقع؟ ما هو معنى أن نحيا حقًا، وما الذي يعطي لحياتنا قيمة؟ هذه الأسئلة وغيرها الكثير تطرح خلال حلقات «هجوم العمالقة»، ما يجعلك تفكر فيما هو أبعد من مجرد أحداث المسلسل المباشرة، إلى رمزية ومعنى أفعال الشخصيات ودوافعهم، وربما التفكير في نفسك أيضًا.

لا تندم على قراراتك

“حين تبدأ بالندم، ستشوش على قراراتك المستقبلية وستترك الأمر للآخرين ليقرروا بالنيابة عنك. كل ما يمكنك فعله حينها هو أن تموت. لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالنتيجة. قراراتك تحمل معنىً فقط بأثرها على قراراتك المستقبلية”. كان هذا الدرس الأكبر للقائد «إروين سميث»، الذي يسعى للوصول إلى هدفه رغم كل ما يواجهه ويعانيه. ذلك الهدف الذي يسعى وراءه الكثيرون، هو ما يعطيهم القدرة على تحمل قراراتهم. ولذلك فإن التحسر على قرارٍ خاطئ لا يعينهم على الوصول بل يزيد من معاناتهم وتخبطهم. لن تعلم إذا ما كان قرارك بتضحيةٍ صائبًا أو خاطئًا. لكن قرارك التالي بالاستمرار -أو بالتراجع- هو ما يقرر إن كانت تلك التضحية ذات معنىً حقًا.

ما هو معنى حياتهم؟

ما هو معنى أن أحيا، وما الذي يعطي حياتي قيمة؟ هناك من يعيش على أمل هدفٍ ثوريٍ أسمى، بينما يعيش البعض على أمل أشياء أكثر بساطة وجمالًا، وهناك من يعيش قانعًا بالأمر الواقع ويعتبر مجرد العيش سالمًا مغنمًا. هل يمكننا أن نلوم أيًا منهم لاختياره ذلك السبيل لحياته دونًا عن الآخر؟ ماذا عن تضحيات من سبقونا وإن لم تحقق شيئًا ملموسًا، هل كانت بلا قيمة إذن؟ البحث عن ذلك المعنى يقع في صلب فطرتنا البشرية، ويوضح لك «هجوم العمالقة» كيف أن لكل فرد ذلك المعنى الذي يسعى وراءه، ولماذا اختار ذلك المعنى بناءً على تجربته الشخصية.

خلف كل تلك المعارك والصراعات، ستجد في الكثير من الشخصيات ذلك الحنين إلى ما هو أجمل، سواءٌ أكان ذلك الفضول أو الحب، أو حتى مجرد الأكل الشهي. حتى إن كان الواقع من حولنا سوداويًا، فذلك لا يعني بالنسبة للكثيرين الانتحار، بل البحث عمّا هو جميل ودافئ في هذه الحياة والتمسك به.

هل كلنا ضحايا فعلًا؟

هل يجب أن تكون شريرًا لترتكب الشر؟ ماذا عمن يرتكبون المجازر للوصول إلى غايةٍ أسمى، أم أن الغاية لا تبرر الوسيلة؟ هل ستتوفر لنا رفاهية الاختيار أصلًا إن كنا مكانهم؟ ماذا لو كان الجاني نفسه ضحية سابقة، هل يعفيه ذلك من مسؤولية أفعاله أو ينفي عنه صفة “الشر”؟ ستتعرض خلال «هجوم العمالقة» للكثير من المواقف والشخصيات التي تقع في مثل هذه المآزق الأخلاقية. وفي حين قد تبدو القصة ذات أخلاق نيتشوية إلى حدٍ ما، حيث يذوب الفاصل بين الخير والشر، إلا أنها لا تقرر لك أي أحكام وتترك شخصيات المسلسل ووقائعه أمامك تتحدث بنفسها وعن نفسها بطبيعتها البشرية.

أيضًا فإن الصراع من أجل الحرية يبدو هدفًا ساميًا، لكنه كما يعلم الجميع مكلف. فهل يستطيع الجميع تحمل تكلفته؟ من يقرر إن كانت غايةٌ ما تستحق تضحيتنا من أجلها؟  وماذا نفعل إن ادركنا أن ما نسعى لأجله لم يستحق كل ذلك الثمن، هل نستمر في السير كي لا نضيع حق من ماتوا؟ ولكن ألا يجعلنا ذلك مجرمين في حق من يتبعنا؟

كما ترى، فـ«هجوم العمالقة» قصة تثير العديد من الأسئلة والأفكار والمشاعر، ما يجعلها ملحمة استثنائية تحتل مكانها ضمن أفضل مسلسلات الانيمي على الإطلاق عن جدارة، رغم أنها في جوانبٍ كثيرةٍ منها حزينة بالفعل (أقرّ إيساياما  فعلًا في تصريح قريبٍ له بأنه أراد أن “يؤذي التابعين”). ولكن كما أسلفت، فإن واقعيتها الفجة والاهتمام الشديد بالتفاصيل فيها يجعلانك تعيد التفكير فيها وربط الاحداث بعضها ببعض. فهي تستحق المشاهدة ليس فقط كمادة للمتعة، بل أيضًا كجرعة تجربة إنسانية فريدة وعميقة.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا