الرواية المُحرمة وإشكاليات القراءة

“إن كاتب الواقعية ملّ الواقعية، زهق من آلام الناس ومظاهر حياتهم المباشرة، ولم يعد هناك جديد يكتبه عنهم، وعندما يكتب مرة أخرى سوف يكتب بطريقة جديدة لم تتحدد ملامحها في ذهنه حتى الآن، وإلا سوف يهجر الأدب إلى الأبد”

نجيب محفوظ

إذا كان نجيب محفوظ قد عرف أي شيئ فقد عرف كيف يكتب ويساهم في الأدب الحقيقي، فمن خلال لغته العربية الدقيقة، واستخدامه المتقن للمفردات العربية، وأسلوب الكتابة الفريد، تمكّن محفوظ من أن يصبح كاتب القاهرة الأول، وعلى مستوى أعماله كافةً نجح محفوظ في أن يُبقي القارئ متلهفًا وبكل صبر في انتظار معرفة ما سيحدث.

ومحفوظ الذي ملّ الواقعية المباشرة في أعماله السابقة لأولاد حارتنا كان أمام تحدٍ يتمثل في أن يقدم عملاً أدبيًا جديدًا يفوق ما قدمه في الثلاثية، وأن يثبت قدرته على توسيع كتاباته وطرح أفكارٍ مثيرة للحيرة تشكل تحديًا لأي قارئ لتجاهلها.

“أولاد حارتنا لا تضيف جديدًا للفلسفة الإنسانية، الجديد هو إضافتها هذا الشكل الفني للأدب”

غالي شكري

ولمّا كان التجديد الذي ينشده الكاتب يلزمه بالضرورة خروج الكاتب من العوالم المألوفة له التي اختبرها وتناولها مرارًا خارج حدود إمكاناته، فكان لزامًا عليه العودة إلى منابع قديمة قدم الأزل في محاولة خلق نماذج إنسانية مغايرة، ولكن هل تمكّن من ذلك؟

فنجيب أراد في أولاد حارتنا أن ينتقي شخوص العمل من الواقع التاريخي، يعود في خلسة منه إلى واقعه البيئي الذي ألفه سابقًا، فبالنظر لأبناء الحارة نجد منهم صاحب القهوة والدكان، والبائع الجوال، والدرويش، والسارق، وتاجر المخدرات.

والرموز في أولاد حارتنا كما يصفها جورج طرابيشي: “معدمة الوجود، ومستحيلة الوجود أصلاً نظرًا إلى التطابق الكامل ووحده الهوية بين شخصية موسى التاريخية وشخصية جبل الروائية، وفي القسمين التاليين من الرواية”.

إعلان

ونحن لا يسعنا في تأويلٍ نتناول به أولاد حارتنا أن ننفي رمزية الكاتب التي تشير بشكل مباشر لقصة الخلق وتتابع الأنبياء، وعلى أقل تقدير فإن العمل نظرة للإنسانية منذ أن وجدت في قالب روائي ذو خلفية اجتماعية ضبابية بصورة أكثر مما اعتدنا عليه في أعمال نجيب الأخرى، ولكن كيف يجب علينا النظر للرموز التي أوجدها الكاتب.هل نحصر أهميتها في دلالاتها الدينية؟ أم هل يجب أن نعتبرها مجرد صيغًا تراثية وإطارًا عامًا للأحداث، ولا يجب حقًا أن نقف مطولاً أمام تناول الكاتب لتلك الرموز الدينية مضفيًا عليها تلك الصفات الإنسانية التي لا تليق بقدسيتها!

الأمر المؤكد أن الرموز هنا لا تحتاج إلى الكثير من التفكير؛ لأن الكاتب ومن خلال التطابق التام للأحداث لم يترك فرصة واحدة أن تُقرأ الرواية بغير الاعتماد على الرمز الديني، فالابن الأول هو الإنسان الأول، وتعاقب أبناء الجبلاوي على الحارة يتطابق مع تعاقب الأنبياء على الإنسانية.

وهنا الكاتب يدفع القاري دفعًا لذلك التفسير الأوحد من خلال استخدام عدد من الأساليب الأدبية في رسم شخوص العمل، فشخصيتي أدهم وإدريس وقنديل كلٌ منهم هو جناس ناقص لمقابل الشخصية التاريخية -آدم وإبليس وجبريل-، والأهم من ذلك التطابق المحوري في السمات الشخصية لكلٍ منهم مع مقابلتها التاريخية، ورفاعة -المقابل لشخصية المسيح- تعود تسميته إلى اشتقاق قائم على الحدث الأكثر جدلاً في حياة الشخصية، وشخصية جبل في تسميتها تحمل مجازًا مكانيًا للجبل الذي كلم الله عليه موسى، فواقعة الجبل هي أكثر ما يميز رسالة موسى، وأخيرًا عرفة؛ فالتسمية تعود إلى أقرب أصل لدلالة الشخصية التي تُشير إلى المعرفة والعلم.

“يجب فوق كل شيء أن تنظر بعينيك للظلم عندما يكون في أوجه؛ في حين أن الحياة تطورت في صغرها، وضيقها، وأشد حاجتها، وبدايتها، ولا يمكن تجنب اتخاذ ذاتها كهدف وقياس للأشياء ومن أجل الحفاظ بسرها وحقارتها وتداعيها بلا توقف وتساؤلات عن الأعلى والأعظم و الأثرى، ويجب أن ترى بعينيك معضلة وترتيب الرتبة، وكيف أن السلطة والحق والرحابة ينمو منظورها للأعلى معًا، العدالة لها وجهة نظر ذات تقييم موضوعي”

نيتشه

أما عن المعنّي هنا فهو الجبلاوي، كلمة السر في العمل؛ بدايةً بالتسمية وهي أقرب لمجازٍ مكاني عن الجبل والتي توحي بالتباعد والرفعة والكبرياء، ومع غياب كل الأسباب لاستجابة الجبلاوي لواجباته نحو أبنائه، وفي نزعة من الألوهية، وحتى مع خفوت الرؤية الظاهرية له على صفحات العمل، إلا أنه صاحب الأثر الأكبر في جعل العمل يسيطر عليه نزعة حتمية، فالأشخاص تتحرك، وربما لا تتحرك بحتمية شديدة، قابعة في انتظار زوال شيء وقدوم آخر، مما جعلني أتساءل: هل حقًا آفة حارتنا النسيان؟ فلنجرب إذًا التخاذل وربما الجمود!!

“ليس هناك حقائق، بل فقط تأويلات”

نيتشه

وفي غمرة الرمزيات والإسقاطات المتعددة تجد نفسك أمام تأويل آخر روّج له الكاتب نفسه بعد ازدياد الهجوم عليه وبعد أن ناله تهديدات بالقتل واتهامات بالكفر، فيقول نجيب محفوظ: “قصة الأنبياء هي الإطار الفني، ولكن القصد هو نقد الثورة والنظام الاجتماعي الذي كان قائمًا”.

فهل وجد نجيب نفسه مدفوعًا للإدلاء بذلك التفسير بل ووضعه في نهاية العمل كمن يسوق لنفسه المبررات لاعتبارات تمس أمنه الشخصي؟ وفيما يخص الوسط الحاضن للعمل، هل لزامًا علينا إما أن نحرق الكاتب أو نسجنه؟ ولماذا نضع العمل بين بطرقة التأويل الديني وسندان التأويل السياسي؟ هل يمكن ألا يتجاوز الأمر التأثر المرحلي للكاتب وبلورة فكره اليساري بعدما قدمه على استحياء في أعمال سابقة كفكر منعزل؟

يقول نجيب محفوظ: “أنا مسلم مؤمن، وأعتقد أن الدين الإسلامي يدعو إلى الاشتراكية، وأنا شخصيًا لا أختلف مع الماركسية إلا في شقها الفلسفي المادي فقط”، ويعود فيقول: “الحق أني معجب بالماركسية فيما تحقق من عدالة اجتماعية ورؤية إنسانية شاملة واعتمادها على العلم، ولكني أرفض ديكتاتوريتها وفلسفتها المادية”.

“لا حياء في الأدب، كما لا حياء في الدين”

نجيب محفوظ

إن كل تفسير -ولو فردي- يحتمله العمل هو تفسير صحيح تمامًا، والتناول الرمزي ترك للقارئ حرية أن يفسر العمل على الوجه الذي يراه أو لا يراه مناسبًا، ولكن لا يمكن أن نغفل عن رغبة الكاتب في أن يمرر بعضًا من آرائه على لسان شخوص أعماله، وإذا كان لا حياء في الأدب كما لا حياء في الدين؛ فالتفسير الأكثر جدلاً أن الكاتب أراد أن يتحرر من مفهوم الألوهية المستوحى من تصور الديانات الإبراهيمية -النص الإسلامي هنا أقرب معنىً وأقوى أثرًا- على أنها قوة رحمة، والنظر إليه من منظور تراثي يتمثل في إعادة قراءة أحداث التاريخ الإنساني من منظور اجتماعي وإنساني.

وفي ظل تأثير الأيديولوجيات في الأدب بصفة عامة والأدب الحديث بصفة خاصة، والتي تنجلي هنا بصورة أوضح، صار علينا أن نرى المعنى من منظور الحكم على كل قيمة مقدمة وكل القيم المعاكسة لها، في محاولة ربما أخيرة تجعلنا نتمكن من إعادة تقييم واجبة لطبيعة الفعل الإنساني، ولنظرتنا إلى الثوابت.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نسمة الطيب

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا