التخرُّج من زاويةٍ أُخرى

لا أعلم كيف للإنسان أن يحتفل بموت مرحلةٍ قد تكون من أجمل مراحل حياته!
كيف يصخب ويتراقص ويتمايل لأنه خرج من مرحلة النعيم، ومقبل على مرحلة تظهر ألسنة اللهب من بين نوافذها؟

فبهذا الحفل يسقط عنه رداء الطالب ويرتدي رداء المطلوب منه، تُنصب عليه الأعين، تنتظر منه أن يهدم الهرم الأكبر ويعيد بناءه في أيامٍ معدودة، أن يحوِّل مياه المحيط إلى مياهٍ عذبةٍ قادرةٍ على تحويل الصحراء إلى ورودٍ بكلِّ ألوان الطيف، أن يقوم بتحويل رفث البهائم إلى سبائك من الذهب.

بهذا الحفل يتحوَّل عناؤه من أوراقٍ لو أخذ الألف منها وأراد أن يشتري بها قطعة من البونبون؛ لانهال عليه صاحب العمل بالسباب حتى يكاد أن يغرق فيه -رغم ما فيها من علم-، إلى عناء مع أوراق أخرى تُمهد لها الطرق وتفتح لها الأبواب، يتحول عقابه من انحدارٍ في درجاته إلى الخصم أو الرفد.

في حفل التخرُّج يودِّع أصدقاء اعتاد على أن يراهم كل يوم، لهم في قلبه معزَّة خاصة، تخطوا معهُ أفراح وصعوبات المرحلة، تناول معهم الكثير من الوجبات المختلفة، وهو الآن على أعتاب ألا يراهم مرةً أخرى، فمن المحتمل أن تنقطع خيوط التواصل بينهم، أو أن يموت أحدهم ولا يستطيع تشييع جنازته وحمل خشبته، ربما لا يستطيع أن يحزن عليه؛ بسبب ما يُعرف بِدوامة الحياة.

بنهاية هذا الحفل ينتظره حائط من الفولاذ وهو خاص للذكور فقط (ما خطر في بالك الآن صحيح؛ الجيش)، فيجد نفسه يقف في طوابير لتجميع الأوراق والطوابع، وعليه أن يعتني بهم حتى لا يذهب في زيارة إلى مثلث برمودا للبحث عنهم، وكأنَّ هذه الأوراق  تصريح دخوله إلى جنة الفردوس! بل ويتعامل معه عساكر الجيش وكأنه نشأ في البادية بين الأغنام، وليس له الحق في الاعتراض؛ بل عليه أن ينفذ أوامرهم مثل الإنسان الآلي الذي يحلل الأمر عن طريق الشرائح الإلكترونية، رغم أن هذه الفتره تشع منها القذارة؛ إلا أنها قد تعلمه كيف يتعامل مع الحمقى، وكيف يصبر على جهلهم وتباهيهم به.

إعلان

ثم تنهار بعض أحلامه على أعتاب فرص العمل، وقد يجد نفسه يرتدي خوذة بيضاء وسترة صفراء ويقف بين العمال يمارس دور الخواجة في عزبة البيه، يسير بينهم وكأنه منبهٌ لا أكثر، مطلوب منه أن يراودهم كما تراود الأسود، حتى لا ينهال صاحب العمل عليه بالخصم أو الرفد، وبعد ذلك يعود إلى منزله وقد غطَّت ملامحه التراب وانهارت منه عزائمه، حينها يتمنى أن يرجع إلى أيام الكلية ليرتدي أجمل الملابس ويضع أفخر العطور ويمشي مرحًا وكل الأعين تنظر إليه بإعجابٍ وكأنه مبعوث الدولة السامية.

ورغم كل هذه المحن المنتظرة على أعتاب هذه المرحلة؛ فهذا لا يعني أن نمارس رياضة التزحلق على أسطح الاكتئاب، ولكني أردت فقط أن أنير إضاءة هذه العقبات حتى لا نصطدم بها كالخفافيش؛ فهذه العقبات صعبة ولكن لابد أن نتخطاها بقوة، ونحن لدينا ما يساعدنا على ذلك، أم الآن فلابد أن نضع أحجار الأساس لهذا الحفل، ونُقرع طبول الملحمة، ننحي الخلافات جانبًا، ندقق النظر في أصدقائنا، نحتضنهم ونحفر ملامحهم في عقولنا، نتمسك بالدقائق الأخيرة معهم، نتأمل المكان الذي ضج بأصوات ضحكنا، وتشارك معنا في حمل العناء، وساهم في بناء جزء من عقولنا، وإن كان ما حدث وما سيحدث هو جزء من محيط دائرة حياتنا، فعلينا أن نُقبل عليه بأوجه مبتسمة وأذرع مفتوحة، علينا أن نحوِّل كل آلام المرحلة إلى آمال نُكمل بها الحياة، وألّا نضيع الكثير من طاقتنا في الاحتكاك مع الأرض، فنحن للحياة والحياة لنا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مصطفي جمال

تدقيق لغوي: مرح عقل

اترك تعليقا