لماذا لم نعد نثق في العالم كما يبدو؟
القلق هوية الإنسان حين يفقد الثبات
رغم أن العلوم السلوكية اعتادت تصنيف القلق كاضطراب، إلا أن النظرة الوجودية تكشف أن القلق هو محاولة العقل لصناعة معنى في واقع سريع التحول. في عصر يتغير فيه كل شيء قبل أن نتمكن من فهمه، يصبح القلق بمثابة الجهاز العصبي الثقافي للمجتمع؛ يستشعر ما هو غير مستقر، ويطلق إنذارًا داخليًا، بأن ننتبه بأن هناك فجوة بين ما أنت عليه وما يجب أن تكونه، بين صورتك في العالم وما تكونه حقًا.
“القلق دليل على أن الإنسان لم يمت بعد من الداخل؛ إنه علامة على أن الروح لا تزال تبحث عن معنى” _فيكتور فرانكل
لا يظهر فرانكل القلق هنا بوصفه عرضًا نفسيًا يمكن التخلص منه بحبة دواء، ولا كضعف شخصي يجب أن نخفيه خلف أقنعة الثقة، بل كإشارة حيوية؛ فما دام القلق يتحرك في الداخل، فهذا يعني أن الوعي ما زال يقظًا، وأن الذات لم تستسلم للتبلد أو الذوبان في العادي والمألوف.
القلق ليس ضد الحياة في حد ذاتها، بل ضد الحياة الفارغة. هو اللغة التي يتحدث بها الإنسان حين يشعر بأن وجوده مهدد إما باللاجدوى أو بالانطفاء أو بفقدان شيء ذو قيمة في حياته.
قراءة مختلفة للقلق
في هذه القراءة لا أدعو إلي تمجيد القلق أو تحويله إلى بطولة عاطفية، بل أحاول أن أحرره من صورته السطحية، فالقلق ليس حالة نفسية معزولة، بل هو لغة تتحول فيها مشاعر الخوف إلى رسائل ترشد الإنسان إلى نقاط التحول في حياته. معظم الخطابات الشائعة تختزل القلق في كونه اضطرابًا يجب علاجه بجرعة دواء، أو تمارين تنفس، أو حتى جلسة علاج معرفي. لكن هذه النظرة الطبية التقليدية تفترض أن القلق خلل في حد ذاته، بينما الحقيقة أنه وظيفة.
القلق عادة يحاول حمايتك، من الخطر المحتمل الحالي أو المستقبلي. لكن في العصر الحديث، حيث لم يعد الخطر أسدًا في الغابة تحاول النجاة منه بالاختباء، بل أصبح يحاصرنا بكل شيء، كفقدان وظيفة، أو خسارة صورة اجتماعية، أو خوف من ألا يرى الآخرون قيمتك، فتحول القلق من جهاز إنذار للبقاء إلى جهاز إنذار للهوية.
إعلان
إذن، السؤال ليس: كيف نتخلص من القلق؟
بل: ماذا يخبرنا القلق عن الطريقة التي نعيش بها؟ ما الذي يحاول وعينا أن يحذرنا منه؟

رحلة تحول القلق من إنذار للبقاء إلى إنذار للمعنى
الإنسان القلق لا يقول أنا خائف بصوت مسموع، لكنه يرسل الإشارة عبر سلوكه، وصمته، وانفعاله، وطريقة تنظيمه لحياته.
الموظف الذي يراجع بريده الإلكتروني بعد منتصف الليل ليس مهووسًا بالإنتاجية كما يبدو، بل هو في حوار داخلي مع ذاته: هل يمكن الاستغناء عني؟
يحدّث سيرته الذاتية باستمرار لا يفعل ذلك لأنه يريد ترقية، بل لأنه يعيش في زمن لم يعد عقد العمل فيه ضمانًا للغد، ولا الاستحقاق معيارًا للبقاء.
القلق هنا ليس خوفاً من فقد المال فحسب، بل من فقد الهوية الاجتماعية، من التحول من شخص ضروري إلى عبء.
الشريك الذي يسأل: “هل ما زلت تحبني؟” لا يبحث عن إجابة لغوية، بل يبحث عن إعادة تثبيت كيانه داخل وعي الآخر. القلق العاطفي هنا ليس نقص ثقة، بل خوف من التلاشي عندما يتوقف الآخر عن رؤيته. فالعلاقة العاطفية في جوهرها ليست تبادل مشاعر، بل اتفاق غير معلن على أن كلا الطرفين موجود بسبب الآخر.
والشخص الذي يتفادى الدخول في علاقة عاطفية لا يفعل ذلك خوفًا من الفشل فقط، بل لأنه يرى الحب ليس كاتحاد بين روحين، بل احتمال خسارة قاتلة للسيطرة على ذاته
المواطن الذي يشعر بعدم الأمان حين تتغير الحكومات، أو حين يسمع خطابًا عدائيًا، لا يخاف من الحدث السياسي بذاته، بل من اهتزاز ترتيب القوة الذي يقوم عليه شعوره بالأمان. القلق هنا يعمل كلغة جماعية للمجتمع بأكمله يبدأ في إرسال إشارات دفاعية ، كتكديس سلع، أو تداول شائعات، أو حتى البحث عن زعيم “منقذ”.
الأم التي تراقب أبناءها عشر مرات في اليوم لا تفعل ذلك بدافع الحب فقط، بل لأنها في أعماقها تؤمن بأن العالم قابل للانهيار في أي لحظة.
أما في زمن منصات التواصل، أصبحت هويتنا مشروع عرض دائم، فالإنسان لم يعد يخشى أن يهمش سياسيًا أو اقتصاديًا فقط، بل يخشى ألا يُشاهَد. القلق هنا يتحول من إحساس داخلي إلى نظام مراقبة ذاتي: هل ما زال الآخرون يرونني؟ هل ما زلت جزءًا من السردية الجماعية؟
ترتفع نسب القلق بين الشباب ليس لأنهم أضعف من الأجيال السابقة، بل لأنهم أكثر وعيًا بتسارع الإقصاء. اليوم يمكن أن تفقد قيمتك الرمزية خلال 24 ساعة من الصمت. يمكن أن يختفي حضورك الرقمي كما تختفي موجة في بحر الخوارزمية. هذا الإحساس بأن العالم يتحرك بسرعة لا يمنح الفرد وقتًا لإثبات ذاته، ويخلق قلقًا وجوديًا مركّبًا: ليس خوفًا من الفشل، بل خوفًا من انعدام المعنى نفسه.
رسائل للحماية
في ظل رسائل إنذار القلق في الحالات السابقة نتسأل: هل القلق عدو يجب القضاء عليه؟ أم معلم يحاول أن يخبر الإنسان بشيء عميق عن نفسه وعن عالمه؟ ربما لا يحتاج الإنسان إلى التخلص من القلق بقدر ما يحتاج إلى ترجمته، وفهم لغته، وقراءته، وهنا لا يظهر القلق كعلة نفسية، بل شعور طبيعي لما تقتضيه ظروف الحياة.
نجد أن هناك حاجة لأن يعيش الإنسان حياة يشعر فيها بأنه ليس مجرد رقم أو متابع أو موظف أو شريك، و هذا النوع من القلق لا يدعو إلى الانهيار، بل إلى التحصين من الخطر القادم.
وفي ظل هذا المعنى نجد أن القلق ليس مرضًا يعطل الهوية، بل لحظة وعي بوجود خطر يستوجب الحماية من القيود التي فرضت على الإنسان اجتماعيًا أو اقتصاديا.
فإذا كان القلق في جوهره استجابة عقلية وروحية للشعور بالهشاشة، فهنا علاجه لا يمكن أن يكون مجرد دواء كيميائي أو جلسة علاج فردية، ويتحول إلي ظاهرة ثقافية بامتياز، ولا يهدأ إلا حين يشعر الإنسان أن حياته ليست في حالة تهديد دائم. المجتمعات التي تريد زرع الطمأنينة، لا تفعل ذلك عبر الخطاب الأخلاقي أو الوعظ الديني فقط، بل عبر توفير بنية أمان وجودية يشعر فيها الإنسان أنه ليس مهددًا في عمله، ولا في هويته، ولا في انتمائه.
سجن القلق
القلق في عمومه ليس شعورًا واحدًا، بل طبقات تتبدل حسب علاقة الفرد بالمستقبل. هناك القلق التنبؤي الذي ينشأ من خلال تفاعل الإنسان مع حدث بعينه يخص مستقبله، فيبدأ يخطط ويحتاط للأمر، هنا القلق يساعد الإنسان على النجاة.
لكن هناك قلق آخر أكثر خبثًا، وهو القلق العاطفي الذي ينهش ثقة الإنسان بنفسه وبالآخرين، ويخلق أشباحًا نفسية تسمّى “الاحتمالات السوداء”، حيث تصبح الحياة سلسلة طويلة من الاستعداد للهزيمة قبل وقوعها.
في هذه الحالة يتحول القلق من جهاز تحذير إلى جهاز حكم، ومن أداة نجاة إلى سجن داخلي يمنع الإنسان من اختبار الحياة نفسها، محاصرًا في دائرته الخاصة من الوعي التأهبي المستمر.
المجتمعات وصناعة القلق.
في المجتمعات الحديثة، القلق ليس تجربة فردية، بل أصبح هوية جمعية. الإعلام يصنعه، والاقتصاد يضخمه، والسياسة تتغذى عليه.
أصبح هو الهواء غير المرئي الذي تتنفسه المدن، ويتحرّك في الشوارع مثل موجات مغناطيسية تربط مصير الفرد بالمجهول. نحن لا نخاف من الحرب حين تقع، بل نخاف من فكرة أن الحرب ممكنة، ولا نرتعب من الفقر حين يحدث، بل من احتمال أن يحدث رغم كل احتياطاتنا.
فيصبح القلق موجودًا ليس نتاج لأزمة، بل يصبح هو الأزمة ذاتها، كأن نعيش في حالة دائمة من الاستعداد للكارثة، حتى عندما لا توجد كارثة.
وربما لهذا السبب، عقلنا بات أشبه بمصنعًا داخليًا للتنبؤ، ينتج سيناريوهات حياة مؤقتة، وخطط احتياطية، وعلاقات احتياطية، وهويات احتياطية. أصبح الإنسان المعاصر لا يعيش نسخة واحدة من حياته، بل يعيش نسخًا افتراضية متراكمة، يخوض في عقله كل يوم حروبًا.
فأهم ما تحتاجه المجتمعات اليوم هو سياسات أمان نفسي، لا مجرد سياسات اقتصادية. نحن بحاجة إلي تعليم لا يُخرّج أفرادًا مربوطين بالخوف من الرسوب أو البطالة، بل أشخاصًا قادرين على إعادة تشكيل مسارهم دون الشعور بالعار.
نحتاج إلي تعليم انتقائي لا يكدّس المعلومات، بل يكوّن مهارات التفكير العميق، ولا يعلّم الإنسان عن ماذا يفكر، بل كيف يفكر. وأن يفهم العالم حتى دون القدرة على السيطرة عليه، فيقلّل من القلق؛ لأن القلق يتغذى دائمًا من الغموض واللايقين. فالعقل حين يرى ما وراء الفوضى، لا يعود فريسة للخوف، بل يمتلك أرضًا يقف عليها.
نحتاج أيضًا إلى سوق عمل لا يبني قيمته على استبدال الإنسان بآخر أسرع وأرخص، بل على الاستثمار في استقراره الداخلي.
نحتاج إلي وسائل إعلام لا تقتات على صناعة الخوف، بل تمنح الجماعة شعورًا بالاستحقاق والحضور وأن يكون أمان المجتمع أولوية قصوى.
هناك أيضًا حاجة ملحّة إلى ثقافة الخُلع من الضغوط. كأن يصبح خلع الوظيفة المرهقة، أو الدائرة الاجتماعية المستنزفة، سلوكًا صحيًا لا يفسر كفشل، فإن جزءًا كبيرًا من القلق الجمعي نابع من شعور الفرد أن بقاءه في معاناة مستمرة هو شرط لقبوله اجتماعيًا أو حفاظه على صورته.
حين يمنح المجتمع أفراده الحق في إعادة تنظيم حياتهم، يتراجع القلق إلى مستوى طبيعي تكيفي.
خاتمة
فالمشكلة ليست في أن الإنسان يقلق، بل في أن المجتمع يحوله إلى آلة قلق مستمر دون مخرج. حين تبنى ثقافتنا على الاحتمالات لا على التهديدات، وعلى الوعي لا على الخوف، سيبقى القلق، لكنه سيتحول من عدو إلى مستشار، ومن مصدر ضعف إلى مصدر إدراك.
إعلان