جذور القلق الرقمي (مترجم)

أتى العصر الرقمي بكثير من وسائل التواصل، وأيضًا بمخاوف حول اتجاه حركة المجتمع وآثار التكنولوجيا على الفرد.وتمثل تلك المخاوف الآن محور النقاشات المتعلقة بتأثيرات العالم الرقمي. وهناك بحث كثير حلّل العلاقات بين الاستخدام الرقمي ومشاكل الصحة الجسدية والنفسية، لكن ما هي الأسباب الكامنة وراء القلق الرقمي؟ ولماذا نخاف هذه التكنولوجيا؟ وهل لدينا سببٌ وجيه؟

إن المخاوف من آثار التكنولوجيا ليست جديدة ولم تنشأ مع الحقبة الرقمية. وإن استمرارية العلاقة بين التكنولوجيا والقلق تشير إلى مشكلة مستعصية، لكن تسمح لنا أيضًا بتوظيف دراسات سابقة لتسليط الضوء على طبيعة ومصدر القلق الرقمي. فقد تم تحديد الدافع الرئيسي للقلق المتعلق بالتكنولوجيا سابقًا بأنه التناقض أو التفاوت بين البنى الاجتماعية وتأثير التكنولوجيا. وتساعد العديد من النظريات النفسية والاجتماعية في تفسير طبيعة وآثار هذا التفاوت.

أحد الأمور القليلة التي يتفق عليها علماء النفس وعلماء السلوك وعلماء الاجتماع وعلماء النفس التطوري وحتى السياسيون هو أن تطور التكنولوجيا يفوق تطور المجتمع بالسرعة. أي أن التكنولوجيا تتطور بشكل أسرع من المجتمع الذي تُفرض عليه. ويترك المجتمع راكضًا في محاولة لحاق التطورات والتعامل مع تأثيرات التكنولوجيا. وإن الفورية والسرعة التي تمتاز بهما التكنولوجيا تجذب الناس إلى استخدامها ومن ثم يجدون أنفسهم في عالم جديدلم يهيئهم مجتمعهم للتعامل معه. وقد تكون التناقضات بين متطلبات العالم الحقيقي والعالم الافتراضي والتناقضات الناتجة عن الرغبة في استخدام التكنولوجيا لكن مع الخوف من آثارها غير المفهومة جيدًا تمثل جوهر تطور القلق الرقمي.

وهذه الإشارة بخصوص أصول القلق الرقمي تعكس أصداء نقاشات سابقة حول التقنيات الجديدة، التي تزيد حينما لا تنسجم التطورات التكنولوجية  والمجتمع. حيث كان أفلاطون قلقًا بشأن التأثير الضار للكتابة على الإدراك. وبشأن تقليد الحكي الملحمي الهومري بحسب ما جاء في كتابه محاورة فايدروس (257 – 259) كالتالي. «إذا تعلم البشر هذا (الكتابة والقراءة)، فسوف يغرس النسيان في أرواحهم. حيث سيتوقفون عن إعمال ذاكرتهم لأنهم سيعتمدون على ما هو مكتوب عن طريق علامات خارجية. وهي ليست من باب الحكمة الخالصة، لكن ما يشبهها، لأنه بتعليمهم إياه ستجعلهم يبدون وكأنهم يعرفون الكثير في حين أنهم غالبًا لا يعرفون شيئًا.»

عبرَ كلا من الباحثين «مارش و راجارام – Marsh and Rajaram» في بحثهما المنشور «آثار استخدام الإنترنت على الذاكرة والإدراك» عن نفس المخاوف بعد ألفي عام عن التكنولوجيا في مراجعة مُحكمة: «قد يعزز الاعتماد على الإنترنت إحساسًا بحيازة المعلومات الخارجية وقد يقلل عمق المعالجة اللازم لكي تترسّخ المعلومات لدى متلقّيها، ومن الممكن أن تتفاقم بسبب السرعة التي تُستَرجَع بها النتائج استجابةً للمصطلحات المستخدمة في عملية البحث».

إعلان

وناقش الفيلسوف الفرنسي «جاك إيلول – Jacques Ellul» الأسباب التي تثير مخاوف كتلك حول التكنولوجيا في فجر العصر الرقمي في كتابه «المجتمع التقني» 1964. حيث يؤمن «إيلول» أن الجانب المحدد للتكنولوجيا (وهذا يشمل التكنولوجيا الرقمية) هو «التقنية» والتي يعرفها بأنها مجموع الأساليب المدروسة المصممة لتقديم حلول فعّالة لمجموعة المشاكل المجتمعية الراهنة. إلا أن «إيلول» يعتقد بأنه بدلًا من حلّ «التقنية» للمشكلة فإنها تأتي لتسيطر على المجتمع الذي بزغت منه، لدرجة أنها قد تزيل العالم الطبيعي أو تسيطر عليه.

والسؤال المطروح هنا: لماذا تتطور التكنولوجيا أسرع من العالم التي أتت منه تاركةً الكثيرين في حالة من القلق الناتج عن الفجوة من التفاوت في نسبة تطور العالم الواقعي ونسبة تطور العالم الرقمي. ويتفق معلقون كثر أن ذلك يُعزى إلى كون التكنولوجيا «التقنية» طُوِّرَت لتقليل المشاكل بسرعة وفعالية. تسرع التكنولوجيا الرقمية التواصل – على الرغم من أنها محل جدل من حيث هل تتحسن جودة التواصل مثل.ماعبَّرَت عنه عالمة الاجتماع «شيري توركل – Sherry Turkle» في كتابها الهروب من الحديث. «نعيش في كون تقنيّ حيث دائمًا نتواصل مع بعضنا. ورغم ذلك فقد ضحّينا بالمحادثة من أجل التواصل». تخلق سرعة وفورية التكنولوجيا شعبيتها وبالتالي استخدامها.

لاحظ عالم النفس «ب. ف. سكينر – B.F. Skinner» أن هذه الفورية معززة، ولاحظ آخرون أن الفورية تمنح إحساسًا بالتمكن والإتقان. يساهم الشعور بالسرعة والفورية والإتقان في تقبُّل الناس للتكنولوجيا، وتمكين التكنولوجيا من التطور بسرعة أكبر من المجتمع (فصنع القانون عمل بطيء وممل للغاية!). مع ذلك فالتكنولوجيا تعطي إحساسًا خادعًا بالإتقان –وليست هي الأشياء التي يمكن إتقانها إنما الوسائل المزعومة للإتقان. ومن المهم تذكُّر أن «الإتقان الخاطئ» هذا قد يكون أداة قوية في ترسانة تسويقية –فعليك الحذر من الحلول الموعودة للمشاكل عندما لا يكون المتوفر إلا لعبة مشتتة للانتباه- بمعنى أن التكنولوجيا تفقد هدفها الرئيسي ألا وهو التعامل مع مشاكل المجتمع وتصبح غاية في حد ذاتها.

عندما لا يعكس العالم التكنولوجي العالم الحقيقي فحينها ستكون التناقضات واضحة وستتضاعف الهواجس. وهذا يصبح أسوأ حينما يتم تجاوز بنى العالم الحقيقي والتي أعُدّت أصلًا لتتعامل مع آثار الكون الرقمي. ولشرح هذه الآثار يمكننا توظيف ما جاء في أفكار «كارل روجرز – Carl Rogers» في علم النفس والذي انتبه إلى أن التفاوت بين مجموعتين من الاعتقادات كتلك عن العالم الحقيقي والعالم الرقمي يمكن أن يكون مرتعًا للاضطراب العاطفي والنفسي.

أشار «روجرز» إلى أن الاضطراب ينتج عن التناقض بين الأفكار عن النفس الحقيقية والنفس المثالية، لكن المفهوم الأوسع للتناقض قد يكون ذا تطبيق مزدوج عند شرح أصول القلق الرقمي، فهناك شعور «اجتماعي» وآخر «فردي» بالتناقض. وغالبًا ما طوّر المجتمع وسائل تسمح للأفراد بمعالجة الصراعات بين مجموعات القيم أو الأعراف. ومع ذلك فعندما ترتبط الصراعات هذه بقوى تتجاوز تجربة المجتمع كتلك القوى الناتجة عن تكنولوجيا رقمية سريعة التطور يُترك الناس هائمين مع قواعد أقل لتوجيه الخيارات.

حينما تحل «التقنية» محل الأعراف المجتمعية والتي ربما قد تكون ساعدت وقللت منها فإنها تترك للناس خيارات بين أعراف العالم الحقيقي وأعراف العالم الرقمي لكن دون مساعدتهم أو توجيههم في صنع تلك الخيارات، حيث يمكننا رؤية التناقضات وسيترتب على ذلك القلق بسهولة. ويزداد هذا الصراع سوءًا على المستوى الفردي حيث هناك تناقض مترتِّب من رغبة استخدام التكنولوجيا الرقمية. حينما يُعرَف أنها تنتج مشاكل –وكما صاغها «روجرز» فإن «الحقيقي» يتعارض مع «المثالي»، ومرة أخرى هذا التناقض سيؤدي إلى القلق.

وعلى ذلك فإن التناقض المزدوج موجود بالفعل. صراع بين الثقافات الحقيقية والرقمية، وصراع بين القيم التي تريد استخدام التكنولوجيا الرقمية وبين تلك التي ترفضه ونتيجةً لذلك فإن جذور القلق الرقمي لا توجد فقط في الآثار المباشرة للتقنية على نفسيات الأفراد، إنما أيضًا في الطريقة التي تخترق فيها التكنولوجيا الجديدة سريعة التطور خطوط الدفاع المجتمعية الراهنة.

المصدر

إعلان

اترك تعليقا