في مديح العمالة الرخيصة (مترجم)

كان مطمر النفايات الفلبيني المعروف بـ«سموكي ماونتنز – Smokey Mountains» رمزًا مفضلًا لفقر “العالم الثالث” بالنسبة للإعلام خلال سنوات كثيرة. ألوف من الرجال والنساء والأطفال عاشوا على المطمر مكابدين الرائحة النتنة والذباب والنفايات السامة يبحثون عن الخردة ومواد أخرى يمكن تدويرها في سبيل الحصول على لقمة العيش. وعاشوا هناك بإرادتهم لأن العمالة الرخيصة أو العشرة دولارات تقريبًا التي قد تجنيها عائلة تسكن العشوائيات خلال يوم أفضل من البدائل الأخرى.

لا وجود للعشوائيات الآن حيث أزالتها قوات الشرطة الفلبينية قسرًا العام الماضي كحركة من أجل المنظر الجمالي قبل انعقاد قمةرابطة دول حافة المحيط الهادئ. لكنني وجدت نفسي أفكر في مطمر نفايات«سموكي ماونتنز»الفلبيني بعد قراءة المجموعة الأخيرة من رسائل الكراهية التي وصلتني.

والذي حصل أنني كتبت مقال رأي لجريدة نيويورك تايمز، حيث أشرتُ أنه على الرغم من كون الأجور وظروف العمل في صناعات التصدير الجديدة من “العالم الثالث” مروعة فإنها بمثابة تحسن كبير عن “الفقر الريفي السابق والذي كان ظاهرًا بدرجة أقل”. أعتقد أنه كان عليّ التوقع بأنه ستسفر عن هذا التعليق رسائل على شاكلة: “حسنًا، لو خسرت منصبك المريح كأستاذ أمريكي فإنك دائمًا ما ستسجد وظيفةَ أخرى ما دمت تبلغ 12 عامًا وترغب في العمل مقابل 40 سنتًا للساعة”.

جريمة أخلاقية كهذه شائعة في أوساط معارضي العَوْلَمة –معارضي نقل التكنولوجيا ورأس المال من الدول ذات الأجر العالي إلى الدول ذات الأجر المتدني ونمو الصادرات السلعية “للعالم الثالث” التي تحتاج إلى عمالة كثيفة. المنتقدون يسلّمون جزافًا بأن أي أحد لديه كلمة جيدة حول ما يحدث فهو ساذج أو فاسد، وبكلتا الحالتين وبحكم الواقع، فهو ممثل لرأس المال العالمي في قمعه العمال هنا وفي الخارج.

لكن الأمور ليست بهذه السهولة، والحدود الأخلاقية ليست بهذا الوضوح. في الحقيقة دعوني أوجه اتهامًا مضادًا؛ إن النبرة الأخلاقية السامية لمعارضي العولمة ممكنة فقط لأنهم اختاروا ألّا يفكّروا في موقفهم بجدية. في حين أن حيتان الرأسمالية قد تستفيد من العولمة، فإن أكبر المستفيدين هم عمال العالم الثالث، أجل.

إعلان

وبعد هذا كله، فإن الفقر العالمي ليس مخترَعًا حديثًا لمصلحة الشركات متعددة الجنسيات. فلنعِد عقارب الساعة للوراء للعالم الثالث كما لو أنهما العقدان الماضيان (ولا تزال الحال كذلك حتى الآن في كثير من الدول). في تلك الأيام، وعلى الرغم من النمو الاقتصادي السريع في بعض الدول الآسيوية الذي بدأ في جذب الاهتمام، فكانت دول نامية كأندونيسيا أو بنغلادش لا تزال بشكل أساسي كما كانت دومًا في السابق: مصدّرة للمواد الخام، ومستورِدة للمصنوعات. وخدمت قطاعات التصنيع أسواقها المحلية محميّةً خلف حصص الواردات، لكنها أدرّت وظائف قليلة. وفي الوقت ذاته، دفع ضغطُ السكانِ المزارعين اليائسين إلى زراعة مزيد من الأراضي الهامشية أو طلب الرزق من أي وسيلة كاستصلاح جبل قمامة للعيش فيه.

وفي نقص الفرص هذا، فإنك قد توظف عمالًا في جاكارتا أو مانيلا مقابل أجر زهيد. لكن في السبعينات، لم تكن العمالة الرخيصة كافية للسماح لدولة نامية كي تنافس في أسواق العالم في الصناعة. وإن الميزات المتأصلة للأمم المتقدمة: بنيتها التحتية ومهارتها التقنية، وأسواقها الأكبر حجمًا وقربها من مورّدي المواد الأساسية، واستقرارها السياسي والتكيفات الاجتماعية الطفيفة لكن الدقيقة جدًا اللازمة لتشغيل اقتصاد فعّال- بدت أنها تفوق حتى عشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا في معدلات الأجور.

ومن ثمّ طرأ تغيير ما؛ مجموعة من العوامل التي نزال لا نفهمها تمامًا قللت من سلبيات الإنتاج في الدول النامية. عوامل كتخفيض الحواجز الجمركية، والاتصالات السلكية واللاسلكية المتطورة. ومع بقاء العوامل الأخرى على نفس الحال، فلا يزال من الأفضل الإنتاج في “العالم الأول” (وشائعة هي قصص الشركات التي نقلت الإنتاج إلى المكسيك أو شرق آسيا ثم عادت بعد تجربة مساوئ بيئة “العالم الثالث”). وفي عدد كبير من الصناعات فإن الأجور المنخفضة سمحت للدولة النامية الدخول بقوة في الأسواق العالمية. ودول على هذه الشاكلة سبق لها أن تكسب لقمة عيشها من خلال بيع الجوت أو القهوة ثم بدأت بدلًا من ذلك بصناعة القمصان والأحذية الرياضية.  

يتقاضى العمال في مصانع القمصان والأحذية الرياضية هذه أجورًا قليلة جدًا حتمًا ومن المتوقَّع منهم أن يتحمّلوا ظروف عمل مريعة، وأقول “حتمًا” لأن أرباب عملهم لا تعنيهم صحة العمّال؛ فهم يدفعون أقل ما يمكن، وهذا الحد الأدنى تحكمه فرص أخرى متوفرة للعمّال. وهذه دول لا تزال في الفقر المدقع حيث العيش على كومة النفايات مُغرٍ عند مقارنته مع البدائل الأخرى.  

ومع ذلك أينما نمت صناعات التصدير الجديدة فكان هناك تحسن ملموس في حياة الناس العاديين. أي صناعة متنامية يجب أن توفر أجرًا أعلى مما قد يأخذه العمال في مكان آخر لجعلهم ينتقلون. وبشكل أهم فإن نمو الصناعة –إلى جانب وظائف ثانوية أخرى على الهامش يبتكرها قطاع التصدير الجديد- له تأثير مضاعف في الاقتصاد.

ينخفض الضغط على الأراضي، ونتيجة لذلك ترتفع الأجور الريفية؛ ويتقلص تجمع سكان الحضر العاطلين الذين يتوقون إلى العمل ولذلك تبدأ المصانع في المنافسة على العمال، وتبدأ الأجور الحضرية بالارتفاع كذلك. حيثما طالت العملية بما يكفي –فنلقل في كوريا الجنوبية أو تايوان- فإن معدل الأجور يبدأ في مقاربة ما يجنيه مراهق أمريكي لدى العمل في مطعم ماكدونالدز. وأخيرًا فالناس لم يعودوا مستعدين للعيش على مطامر النفايات. (لا تزال «سموكي ماونتنز» قائمة لأن الفلبين لم تشارك في النمو القائم على التصدير مع الدول المجاورة حتى عهد قريب).   

إن فوائد النمو الاقتصادي القائم على الصادرات في اقتصادات التصنيع الحديثة التي تعود على كثير من الناس بالنفع ليست مسألة تخمين. فدولة كأندونيسيا لا تزال فقيرة لدرجة أنه يمكن قياس التطور من حيث معدل ما يجنيه الفرد لتأمين طعامه، منذ عام 1970، ارتفعت حصة الفرد اليومية من السعرات الحرارية من 2,100 إلى 2,800 سعرة. لا تزال هناك نسبة صادمة تشكل الثلث من الأطفال يعانون سوء التغذية –بينما كانت النسبة أكثر من النصف عام 1975. يمكن ملاحظة تحسينات مشابهة بامتداد حافة المحيط الهادئوحتى في دول كبنغلادش. هذه التحسينات لم تحدث لأن الأشخاص ذوي النوايا الحسنة في الغرب فعلوا شيئًا – فالمساعدة الأجنبية أبدًا لم تكن كبيرة، أو انعدمت تقريبًا. ولا حتى هي نتيجة للسياسات السلمية للحكومات الوطنية القاسية والفاسدة. هي النتيجة غير المباشرة وغير المقصودة لما تفعله الشركات متعددة الجنسيات عديمة الرحمة وأصحاب الأعمال الجِشاع الذي لا يعنيهم سوى استغلال فرص الربح التي توفرها العمالة الرخيصة. إنه ليس بالمشهد التثقيفي، ولا يهم ما أساس دوافع المتورطين فالنتيجة كانت نقل مئات الملايين من الفقر المدقع إلى شيء لا يزال مروعًا ولكنه مع ذلك أفضل بكثير.

إذًا ما السبب وراء غضب مراسليّ؟ لماذا تُغضِب صورة العامل الإندونيسي الذي يخيط الأحذية الرياضية مقابل 60 سنتًا للساعة أكثر من صورة عامل أندونيسي آخر يتقاضى 30 سنتًا للساعة محاوِلًا إطعام عائلته على رقعة أرض ضئيلة أو أكثر من صورة فلبيني ينقب في كومة نفايات؟

وأعتقد أن الجواب الأساسي يعد نوعًا من الحساسية، فعلى عكس مُزارع الكفاف الجائع، تعمل النساء والأطفال في مصنع الأحذية الرياضية بأجور استعبادية لمصلحتنا وهذا يُشعِرنا بالدناءة. وبذلك هناك مطالب تتدعي الصلاح لمعايير العمل الدولية؛ علينا رفض شراء تلك الأحذية الرياضية ما لم يحصل العمّال في صناعتها على أجور لائقة وما لم يعملوا في ظروف مناسبة.

وهذا يبدو منصفًا، لكن أهو فعلًا كذلك؟ فلنفكر بالعواقب.

بدايةً، حتى لو سيضمن هذا للعمال في الصناعة التصديرية في دول “العالم الثالث” أجورًا أعلى وظروف عمل أفضل، فإنه لن يفعل أي شيء للفلاحين وعمال اليومية وجامعي القمامة وهلم جرًا ممن يشكلون النسبة الأكبر من المواطنين. وفي أحسن الأحوال فإن إجبار البلدان النامية على الالتزام بمعايير العمل لدينا من شأنه أن يخلق طبقة أرستقراطية من العمال تاركين الأغلبية الفقيرة في حالة ليست بأفضل.

ومن الممكن ألا تفعل ذلك حتى. فالامتيازات الراسخة لصناعات العالم الأول هائلة. والسبب الوحيد لقدرة الدول النامية على المنافسة مع تلك الصناعات هي قدرة الأولى على توفير العمالة الرخيصة لأرباب العمل. وبحرمانهم هذه القدرة فقد تُحرَم منهم كذلك احتمال استمرار النمو الصناعي، بل وعكس النمو الذي حققته. وبما أن النمو الاقتصادي القائم على الصادرات بجميع مساوئه “نعمة كبيرة” للعمال في تلك الدول، وأيًا كان ما يحد هذا النمو فهو يعارض مصالحهم. وإن سياسة الوظائف الجيدة من حيث المبدأ لكن بدون وظائف عمليًا قد تريح ضميرنا لكنها ليست لصالح المستفيدين المزعومين.

قد تقول أن ليس على بؤساء الأرض أن يجبروا على العمل في الوظائف الشاقة وخياطة الأحذية الرياضية لصالح الأغنياء. لكن ما البديل؟ هل يجب تقديم المساعدة الأجنبية لهم؟ ربما –على الرغم من أن السجل التاريخي لمناطق من مثل جنوب إيطاليا تقترح أن مساعدة كهذه تعزز التبعية الدائمة. وعلى أية حال، ليس هناك أدنى احتمال للحصول على مساعدة كبيرة. هل على حكوماتهم تزويدهم بعدالة اجتماعية أكبر؟ بالتأكيد –لكنهم لن يفعلوا ذلك، أو على الأقل ليس لأننا سنخبرهم بأن يفعلوا ذلك. وطالما ليس لديك بديل واقعي للصناعة القائمة على الأجور الضئيلة، فإن معارضتك تعني أنك تميل إلى إنكار أفضل فرصة للفقراء بيأس، تلك الفرصة لديهم للتقدم لأجل ما هو جمالي- أي تلك الحقيقة بأنه لا تعجبك فكرة أن يتقاضى العمال أجرًا زهيدًا لتزويد الأغنياء في الغرب بقطع الأزياء.

وباختصار فلا يحق لمناظريّ التظاهر بالفضيلة. فهم لم يفكروا بالمسألة. وعندما تكون آمال مئات الملايين معلقة، فالتفكير بالأشياء ليس ممارسة أخلاقية جيدة، بل إنه واجب أخلاقي.

المصدر

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

ترجمة: أبرار وهدان

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا