لماذا تصرف المليارات على أبحاث علمية لا فائدة منها؟
سؤالٌ يتكرّر طرحه بعد كلّ تجربة فضائية ناجحة لناسا أو بعد كلّ تجربة علمية في مجالات أخرى قد تبدو غريبة للمجتمع، خصوصًا أنّ المسافة بين المجتمع العلمي وبين المجتمع العام أخذت تصغر نتيجة ثورة الاتصالات، فبات المجتمع الذي يهمّه بالدرجة الأولى الأكلُ والشّرب والرواتب والاقتصاد والسياسة والضرائب (وهذا طبيعيّ ويجب أن يكون في كلّ مجتمع)، بات يسأل: لماذا تصرف المليارات على أبحاث علمية ؟ ما فائدة الصعود للفضاء؟ وما العائد المادي منه؟
لماذا نصرف كلّ هذة المليارات المملْيَرة على أبحاث علمية دون عوائد مالية؟
يبدو السؤال في قمة المنطقية، ولكن ما هو غير منطقيّ فيه أنّ الذي يسأل لم يتعرّف حقيقةً على تكلفة هذة المشاريع الضخمة الخارقة للعادة؛ فهو لم يعرف أنّ معظم ما يعيش فيه الآن من رفاهية تكنولوجية كانت قد أتت من نظريات علمية لم يكن لها علاقة بأيّ خطة تجارية ولم يبدُ عليها أصلًا أنها ستحقّق ثورات اقتصادية.
فسؤالٌ طفوليٌّ مثل هذا: لماذا يتغيّر لون الحديد عند تسخينه؟ أدّى لاكتشاف ميكانيكا الكمّ المسؤولة عن كلّ الثورة التكنولوجية التي نحن فيها اليوم.
فكيف يكون البحث العلمي مفيدًا؟
إنّ المجال الأساسيّ للعلم الطبيعي هو دراسة الطبيعة وظواهرها، وبما أننا -البشر- جزء من الطبيعة، فكلما درسنا الطبيعة أكثر كلما عرفنا كيف نؤثر بها ونتأثر بها، وبالتالي كيف نستفيد منها لأقصى حدّ ممكن. فبمعرفة أننا جزء من عملية تطوّر بايولوجية أخذت ملايين السنين، وأنّ ال DNA البشري هو جزء من DNA الحياة كلها وهو نتاج العمليات الطبيعية، فهذا فتَح المجال لثورة وراثية نعيش بداياتها اليوم، والتي ستغيّر من طبيعة جنسنا من الناحية التكيّفية ومكافحة الأمراض والعلاج الجيني وغيرها في الوقت القريب، وبالتالي سنصبح أقدر على حماية جنسنا. وكلما استطعنا معرفة الذي يحصل بالدماغ سنستطيع التعامل معه وبالتالي مع الناس بشكل أكبر.
ويمكنك أن تقيس هذا على كلّ مجالات العلوم الطبيعية التي قد لا تمُتّ بمنفعة مادية مباشرة، ولكنها بالمحصّلة هي سبيل البشرية للقوة والتقدم. ولا يخفى على أحد أنّ أقوى الدول والمجتمعات اليوم هي أكثرها علمًا وبحثًا علميًا بل وإنفاقًا على البحث العلمي.
ولكن ما هي حقًا ميزانية ناسا مثلًا؟ وهل فعلًا تصرف المليارات الممليرة على البحوث العلمية الخارقة للعادة هذه، كأن تصعد للمريخ أو تبحث عن حياة بالفضاء مثلًا؟
تقلّ ميزانيّة وكالة ناسا كلّها أقل عن 1% من ميزانية الدخل القومي الأمريكي، وقد تقدّمت ناسا بعدة طلبات للكونجرس لرفع ميزانيتها لتصبح 1% وتمّ رفض الطلب.
وتنفق أمريكا، التي تُعتبَر أقوى دولة في العلم وإنتاج المعرفة العلمية، سنويًا تقريبًا 3% فقط من دخلها القومي على البحث العلمي ، تخيّل!
أما الصين فهي ثاني أكبر دولة انفاقًا على البحث العلمي بما نسبته 2.1٪ من دخلها القومي فقط.
الاتحاد الاوروبي مجتمعًا، الذي يمتلك قاعدة فضائية ويمتلك مصادم الذرات سيرن (الذي يحاكي لحظات الانفجار الكبير الكوني، وهو أكبر مصادم ذرّات بالعالم)، وكلّ مراكز أبحاث أوروبا وكلياتها العريقة تنفق فقط 1,94% من دخل أوروبا القومي.
ألمانيا وحدها تنفق 2,8 % فقط من دخلها القومي على البحث العلمي.
العالم العربي مجتمعًا يُنفق أقل من 0,5٪ على البحث العلمي ، وهي أقل نسبة انفاق بالعالم.
فستجد أنّ الإنفاق على البحث العلمي لا يشكّل كلّ هذا الرعب، فإذا حسبت ما ينفقه العالم العربي ثمن السجائر يوميًا فستصعق إذًا.
واذكر مقولة في هذا تقول:
إنّ هذه الفكرة العلمية قد لا تحمي بلادك عسكريًا ولكنها ستجعل منه قيمة تستحق أن تدافع عنها.
وهذا يعني أنه لايجب أن يكون للعلم فوائد مادية مباشرة، فالأبحاث العلمية في الذرّة قد تحمي بلادك من الغزو، هذا صحيح، أما الأبحاث في التشريح أو الكيمياء أو البايولوجي أو الوراثة أو الطب، قد لا تحمي بلادك من الغزو ولكنها ستعطي بلدك قيمة ستجعل منها بلادًا يُستحق الدفاع عنها..