عبد الناصر.. المستبد المستنير
عبد الناصر المستنير
لم يكن عبد الناصر مجرَّد رئيسٍ مصريٍّ لحقبةٍ من مسيرة الوطن، بل كان عصره نقطة انقلابٍ في تاريخ هذا الوطن، وكانت سيرته رمزًا لقيمٍ وطنيَّةٍ وأخلاقيَّةٍ مازالت مستمرَّةً حتّى الآن، حتّى بات عبد الناصر يمثِّل مذهبًا سياسيًّا: الناصريَّة، وأبرز معالمها:
القوميَّة العربيَّة: عبد الناصر هو الرئيس العربيُّ الوحيد الذي استطاع توحيد العرب شعوبًا وقادة، إداريًّا ونفسيًّا؛ فنجح في توحيد مصر وسوريا، وكان من المخطَّط له التحاق العراق وليبيا واليمن.
التحرُّر من الاستعمار: نجح عبد الناصر في جلاء الإنجليز عن مصر، وكان داعمًا للثوَّار في الجزائر، وأفريقيا، ولم يكن دعمه للثوَّر كلاميًّا فقط، بل كان دعمًا سياسيًّا، وماديًّا، وعسكريًّا، ودفع عبد الناصر الثمن نظير ذلك، وعادَى بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإسرائيل.
المساواة الاجتماعيَّة: ترجم عبد الناصر قيم المساواة إلى واقع عمليّ، فأصدر قانون الإصلاح الزراعيّ، وكوتة العمال والفلاحين في البرلمان، ووضع قوانين عادلة للحقوق العمال، ومشاركتهم في الأرباح، وبهذه القرارات تحقَّق قدرٌ هائلٌ من المساواة.
لذلك لم يكن عبد الناصر مجرَّد رئيس، بل كان زعيمًا ورمزًا التفَّ حوله المصريُّون، وأحبُّوه بصدقٍ وإخلاص، لذلك رفضوا استقالته حتَّى بعد هزيمته، وشعروا باليُتم حين وفاته.
وكذلك التفَّ حوله العرب؛ فحين كان يزور دولةً عربيَّةً يجد الآلاف يهتفون باسمه، حتَّى وصل صيته إلى الشعوب الأفريقيَّة في كلِّ أرجاء القارة السوداء، حتَّى نقل أنيس منصور: إنَّك تعرف العربيَّ في أيِّ بلدٍ أجنبيٍّ عن طريق صورة عبد الناصر المعلَّقة في بيته.
ولذلك التفَّت دول الاستعمار، بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وأمريكا، حول هدفٍ واحدٍ وهو هدم عبد الناصر، جسدًا وقيمةً وسيرةً.
أمَّا عن الوسائل؛ فنجد عبد الناصر قد فشل في تحقيق كثيرٍ من أهدافه، وسبب ذلك كلِّه ومصدره يعود إلى خطيئةٍ واحدةٍ قاتلة: وهي انفراده بالسلطة، واستبداده بالحكم.
عبد الناصر المستبدّ
أزمة مارس ١٩٥٤ .. عبد الناصر يفجِّر القاهرة!
في مارس ١٩٥٤ ثارت أزمةٌ مفادها أنَّ مجلس قيادة ثورة يوليو ١٩٥٢ اتَّخذ مجموعةً من القرارات التعسُّفيَّة ضدَّ المعارضة، مثل وقف العمل بالدستور، وحلِّ البرلمان، وحلِّ الأحزاب، وحلِّ جماعة الإخوان المسلمين، واعتقال معارضين، وفضِّ اعتصام عُمَّال كفر الدوار بالقوَّة، ومحاكمتهم أمام محاكم عسكريَّة، وإعدام عاملين.
وكان محمد نجيب رافضًا لهذه الإجراءات، ويريد تسليم السلطة إلى سلطاتٍ مدنيَّةٍ تتمثَّل في انتخابٍ مباشرٍ للجنةٍ تأسيسيَّة تضع الدستور وتقوم بالمهام النيابيَّة لحين انتخاب برلمانٍ في أسرع وقت.
وبذلك ثار خلافٌ بين عبد الناصر ومحمد نجيب، وهو في الحقيقة خلافٌ بين الحكم العسكريِّ والحكم المدنيّ، الحكم الفرديِّ والحكم المؤسسيّ، الديكتاتوريَّة والديمقراطيَّة، وحين زادت ضغوطات وتحكُّمات عبد الناصر وتهميش محمد نجيب، أُضطُّرَّ محمد نجيب لتقديم استقالته.
لكنَّ الشعب ثار لعودة نجيب، وبالفعل عاد رئيسًا، وهنا سجَّل الشعب وقوفه مع الديمقراطية والحكم المدنيّ، وتمَّ الاتّفاق على خارطة الطريق التي وضعها محمد نجيب: انتخاب لجنةٍ تأسيسيَّةٍ لوضع الدستور، ثم انتخاب البرلمان، وإلغاء الأحكام العرفيَّة، وإلغاء الرقابة على الصحف، والإفراج عن المعتقلين.
وقال محمد نجيب: “الوصول إلى الحياة السياسيَّة الكاملة كان وما زال سياستي التي ظللْت أعمل لها في الفترات الماضية، ولم أغفل عنها يومًا واحدًا إيمانًا منِّي بأنَّ إشراك الشعب في أمور بلاده هو الضمان الوحيد ضدَّ كلِّ طغيان”([1]).
لكن عبد الناصر لم يرتضِ هذا الوضع، ولم يكتم معارضته؛ فقال في مؤتمرٍ عام: “لقد أشاع المغرضون أنّّ وحدتنا قد تفكَّكت، وأذاع المضلِّلون أنَّ قوتنا قد تحلَّلت؛ فخرجت الرجعيَّة من جحورها يسندها الاستعمار”([2]).
وقال في اجتماعٍ لمجلس قيادة الثورة: “شعبنا لا يستطيع تقدير مصلحته الحقيقيَّة بسرعة، وربَّما لا تكفي ثلاث سنواتٍ كفترةٍ انتقالية، وشعبنا لا يمكنه تحمُّل مسئوليَّة الحريَّة، وقد سبق للإقطاعيين أن اشتروا أصوات الناخبين. والشعب الذي لا يستطيع أن يتحمَّل مسئوليَّة الحريَّة، لا يمكنه أن يستمتع بالحريَّة”([3]).
لكن كيف يقنع عبد الناصر الشعب والجيش بالطريق الذي اختاره؟
الإجابة: اصنع عدوًّا، وخيِّرهم بين طريقك وطريق العدوّ.
وهو بالفعل ما قام به عبد الناصر؛ إذ دبَّر ستَّة انفجاراتٍ وقعت في القاهرة، منها انفجاران في جامعة فؤاد الأوَّل، وانفجارٌ في محطَّة السكَّة الحديد، وانفجارٌ في جروبِّي.
يقول خالد محيي الدين: “روى لي بغدادي (وعاد فأكَّد ذلك في مذكِّراته) أنَّه في أعقاب هذه الانفجارات زار جمال عبد الناصر في منزله هو وكمال الدين حسين وحسين إبراهيم، وأخبرهم عبد الناصر أنَّه هو الذي دبَّر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطيَّة، والإيحاء بأنَّ الأمن قد يهتزُّ وأنَّ الفوضى ستسود”([4]).
ثم حرَّض اتحاد النقل المشترك على الإضراب عن العمل؛ فحدث شللٌ لكلِّ مواصلات القاهرة.
ثم أخرج مجموعةً من العمَّال في مظاهرات، واعتدوا على الفقيه الدستوريِّ عبد الرزاق السنهوري، وكان هتافهم: “تسقط الديمقراطيَّة، تحيا الديكتاتوريَّة”، وطالبوا بإلغاء الأحزاب، وعودة مجلس قيادة الثورة!
ثم تمرَّدت مجموعةٌ من قادة الأسلحة الموالين لعبد الناصر، وأعلنوا رفضهم لكلِّ قرارات محمد نجيب، وهدَّدوا مجلس قيادة الثورة بأنَّهم معتصمون، وإن لم تتحقَّق مطالبهم، فليتحمل المجلس العواقب!
ومن هنا كان أمام البلاد طريقين لا ثالث لهما: طريق الفوضى والتفجيرات وتفكيك الجيش وشلل مواصلات القاهرة، أو تبقى السلطة في يد عبد الناصر، وبالفعل تحقَّق مراده، وتمكَّن عبد الناصر، واُعتقل محمد نجيب، ويرجع الفضل للعدوِّ الوهمي المختلق: الفوضى المُفتعلَة.([5])
٢. الانفراد بالحكم .. تأميم قناة السويس نموذجًا
أكثر مثالٍ كاشفٍ على انفراد عبد الناصر بالحكم هو قرار تأميم قناة السويس؛ فيروي هيكل أنَّ عبد الناصر تكتَّم على هذا القرار، وعرضه على مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة قبل إعلانه بساعات، وانفرد عبد الناصر وحده وكتب عدَّة ورقات بخطِّ يده لكلِّ التداعيات المُحتملة لهذا القرار، وسأل نفسه: هل يمكن أن تشترك فرنسا في الحرب؟ واستبعد ذلك.
ثم سأل نفسه: هل يمكن أن تشترك إسرائيل في الحرب؟ واستبعد ذلك.
وتوصَّل إلى أنَّ الخطر المحتمل سيكون من بريطانيا وحدها، وإن فكَّرت بريطانيا بتأنِّي فلن تُقدِم على عدوانٍ عسكريّ([6]).
هنا نحن نقف مع قرار عبد الناصر بعودة قناة السويس لمصر، ونرتضي هذا الهدف ونؤيِّده، لكنَّنا نعارض طريقته ومنهجه ووسائله، فكيف ينفرد وحده بقرارٍ خطيرٍ كهذا؟!
لماذا لم يستشر مجلس الوزراء، والبرلمان، والعسكريين، والدبلوماسيين، والاقتصاديين؟
ألم يكن من الممكن أن يتوقَّع أحدٌ الهجوم الثلاثيّ، فنتلاشى آثاره، أو نستعدَّ له، أو نخفِّف حدَّته؟
أليس من الطبيعيِّ أن تتجهَّز القوات المسلَّحة لهذا القرار؟
وإن كان تأميم القناة ردًّا على عدم تمويل الغرب للسدِّ العالي؛ فهل أُجريت دراسةٌ اقتصاديةٌ تربط تأميم القناة بتمويل السدّ؟
وحق الانتفاع بقناة السويس كان سينتهي في ١٨٦٩؛ فهل أُجريت دراسة جدوى انتظار هذه المدَّة قانونيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا؟
كيف يمكن اختزال كلِّل مؤسسات الدولة في رجلٍ يجلس وحده في غرفته ويخطِّط ويقرِّر ويسوق شعبًا خلفه؟!
هذه هي مشكلتنا الدائمة مع عبد الناصر: أهدافه النبيلة يلوِّثها انفراده المستبدِّ في الإدارة.
وقد أدرك عبد الناصر هذا الخطأ، فقال بعد الهزيمة: “إنَّ من المرغوب فيه إفساح الفرصة لوسائل الرقابة البرلمانيَّة والشعبية لتحقيق حُسن الأداء وكفالة أمانته”([7]).
٣. ناصر وعامر .. صداقةٌ على حساب الوطن
صداقةٌ فريدة
كان عبد الحكيم عامر الصديق الأقرب إلى جمال عبد الناصر؛ فهُما من الصعيد، وكانا صديقين في الكليَّة الحربيَّة، وشاركا معًا في السودان عام ١٩٤١م، وشاركا في نفس الوحدة العسكريَّة في حرب ١٩٤٨م، وكانا الصديقين الأقرب في تنظيم الضبَّاط الأحرار.
ومن قوَّة الصداقة بينهما أطلق كلٌّ منهما اسم الآخر على أحد أبنائه؛ فسمَّى عبد الناصر ابنه عبد الحكيم، كما سمَّى عبد الحكيم ابنه عبد الناصر.
وتوَّجا هذه الصداقة بنسب؛ فتزوَّج شقيق عبد الناصر: حسين أخت عبد الحكيم: آمال.
وكلاهما يُقدِّر الآخر؛ فعبد الحكيم يقول لابنه: “ليس لي إلَّا صديقٌ واحد: جمال”، وردَّد أكثر من مرَّة: “نساء مصر لن يلدن مثل عبد الناصر”، وعبد الناصر يبادله نفس المودَّة فقال: “عبد الحكيم أقرب الناس إليَّ على الإطلاق”([8]).
إذن فنحن أمام حالةٍ من الصداقة والقرب الفريد يطلق عليها سامي شرف لقب: التوأمة.
مُجاملة الصداقة
بعد نجاح ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م كافأ عبد الناصر صديقه عامر؛ فأمر بترقيته من رتبة (رائد) حتى رتبة (لواء) دفعةً واحدة، وهو بذلك يتخطَّى ثلاث رتب، ولم يتجاوز عمره وقتها ٣٤ عامًا! ورغم رفض محمد نجيب هذه الترقية، لكن أصرَّ ناصر ونفذها.
ثمَّ ولَّاه ناصر منصب القائد العام للقوَّات المسلَّحة، ورئيس الاتحاد المصريِّ لكرة القدم، ورئيس اللجنة العليا للسدِّ العالي، رئيس اللجنة العليا لتصفية الإقطاع، ورئيس المجلس الأعلى للمؤسسات ذات الطابع الاقتصاديّ، كما فوَّضه في كل اختصاصات رئيس الجمهورية في سوريا!
ويصعب أن يرتقي رجلٌ كل هذه الدرجات ويجمع كلَّ هذه المناصب إلَّا إن كان فائق القدرات ومتعدِّد المواهب ومتَّسع الاطِّلاع، أو صديقًا عزيز!
يقول سامي شرف: “لم يكن عبد الحكيم لديه ميلًا للقراءة والاهتمام بتنمية مداركه الثقافية، وكانت طريقة تفكيره قَبَلِيَّة؛ فلم يحاول أن يزيد من معرفته السياسيَّة أو العسكريَّة التي كانت مجاله الأساسيّ.
“كان يحتلُّ موقعه بحكم العلاقة الوثيقة والشخصيَّة التي كانت بينه وبين جمال عبد الناصر، وليس من خلال جهده”([9])
ويقول الفريق الشاذلي: “عبد الحكيم عامر فَقَدَ اتِّصاله بالعِلم العسكريِّ منذ كان في رتبة رائد، وكانت تنقصه الخبرة الميدانيَّة والثقافيَّة والعلميَّة”([10])
عشم الصداقة
توغَّل نفوذ عبد الحكيم عامر حتى أُطلق عليه لقب: (الرجل الثاني)، وأحيانًا (الرجل الأوَّل مكرَّر).
حتَّى أنَّ شمس بدران -وزير الحربيَّة- أرسل خطابًا إلى جميع المؤسسسات العامة والشركات يبلِّغهم فيها أنَّه عند خلوِّ أيِّ وظيفةٍ لا بُدَّ من إخطار مكتب المشير عبد الحكيم عامر بها، وأن لا يتمَّ التعيين فيها إلَّا بعد موافقة مكتب المشير([11])
ولم يسمح المشير عامر لعبد الناصر بالتدخُّل في الجيش، ويظهر ذلك في مواقف كثيرة، مثلًا أثناء العدوان الثلاثي ١٩٥٦م ظهر ارتباكٌ وعَجَزَ صدقي محمود -رئيس هيئة أركان حرب القوَّات الجويَّة- أمام عبد الناصر؛ فقرَّر عبد الناصر عزله، وطلب ذلك من عامر، لكن عامر تجاهل هذا الطلب، ولم يُصِرّْ عبد الناصر على طلبه خشية الصدام مع صديقه عامر!
ومرَّت الأيام حتَّى جاءت نكسة ١٩٦٧م وبقي صدقي محمود في منصبه، وتكرَّر ارتباكه وفشله مرة أخرى أمام عبد الناصر، وبعد الهزيمة حكمت عليه المحكمة بالسجن ١٥ سنةً نتيجة إهماله.([12])
وفي أكتوبر ١٩٦٠م قرَّر عبد الناصر السفر بحرًا لحضور مؤتمرٍ أفريقيٍّ في الدار البيضاء، وحرست مُدمِّرتان بحريَّتان سفينة الرئيس والوفد المصري، لكن في الطريق تعطَّلت المدمِّرة الأولى، ثم المدمِّرة الثانية، ممَّا اضطرَّ الرئيس إلى موانيءَ أجنبيَّةٍ لحمايته، وعندما عاد عبد الناصر طلب من عامر مُحاسبة المسئول عن هذا الإهمال، لكن عامر لم يُعِره أيَّ اهتمام، وكالعادة تنازل ناصر حتى لا يغضب صديقه!([13])
وفي عام ١٩٦٢م وَجَدَ عبد الناصر نفوذ عامر يتّسع؛ فأراد عزله عن الجيش، لكنَّه لم يجرؤ أن يخبره بذلك بوضوح! لذا قرر تشكيل مجلس رئاسةٍ يختصُّ برسم السياسة العامَّة ودراسة القوانين قبل أن يصدرها رئيس الجمهورية، ولا يتولَّى أحدٌ من أعضائه عملًا في السلطة التنفيذيَّة، وعيَّن المشير عامر في هذا المجلس، ولزم عن ذلك عزله عن قيادة القوات المسلحة.
لكن رفض عامر الانضمام لهذا المجلس؛ فقدَّم استقالته، وانعزل في مطروح غاضبًا من صديقه!
أجَّل عبد الناصر تشكيل المجلس حتَّى يعثر على عامر ويقنعه، وبالفعل التقيا، وبكى عامر كثيرًا؛ لأنه خشي أن يخسر صداقته، وأَصَرَّ على قيادة الجيش، وقال: “لا ضمان لأمن الجيش دون وجودي شخصيًّا كقائدٍ عام”!
هنا مال قلب عبد الناصر إلى صديقه مرة أخرى، ونسي أنَّ هذا المجلس أُنشئ من الأصل لاستبعاد عامر، أو على الأقلِّ أُنشئ ليكون الأمر شورَى؛ فاتخذ قرارًا صادمًا ومُعاكسًا تمامًا لغرضه الأصليّ؛ فقرَّر تعيين عبد الحكيم نائبًا للقائد الأعلى للقوَّات المسلَّحة حتَّى يتمكَّن بذلك من مزاولة سلطات القائد الأعلى، الذي هو رئيس الجمهورية!([14])
بهذا القرار الصادم مكَّن عبد الناصر عامر أكثر، وأعلى من درجته أكثر حتى بات حرفيًّا (الرجل الأول مُكرَّر).
وحين قرَّر عبد الناصر ألَّا يُعيَّنَ أحد القادة العسكريين إلى رتبة عقيدٍ أو أعلى إلَّا بموافقته، رفض عامر وأصرَّ أن تكون له السيادة العليا والمُنفردة على الجيش.
وترى بنفسك ضعف وقلَّة حيلة عبد الناصر وهو يقول: “عبد الحكيم غير مقتنعٍ بالقيادة الجماعيَّة، وقد ضرب ستارًا حول الجيش، وأنا هل يُعقل أن أعمل بطريقةٍ سريَّةٍ حتَّى أحصل على معلوماتٍ عن الجيش؟!”([15])
حصاد الصداقة (١): فساد
كما عيَّن عبد الناصر صديقه الفاشل قائدًا للقوات المسلحة، بالتبعية عيَّن عامر حفنةًمن الأصدقاء الفاشلين معاونين ومساعدين له، حتَّى تفشَّى الفساد والانحلال الأخلاقيُّ في قيادات الجيش، واشتهرت علاقاتهم المشبوهة بالفنانات حتَّى وصلت إلى الجنود.
يقول الفريق الشاذلي: “كان أسلوب المشير عامر أشبه بأسلوب (العمدة)؛ يبقشش على من حوله بالامتيازات والرتب، والسفر إلى لندن للعلاج أو الرفاهية. وكان اختيار القيادات أساسه: الولاء لعبد الحكيم.”([16])
ويقول أحمد حمروش: “كانت الحاشية التي أحاط المشير نفسه بها قد تمادت في سلوكها اللاأخلاقيِّ واستغلَّت أموال الدولة أسوء استغلال.”([17])
“وكان أمرًا معروفًا ومتداولًا ما يحصل في هذا الجوِّ من تدخين، واتّصالٍ ببعض الفنانات، وبذخٍ يصل إلى حدِّ السفه.
ونتيجةً لعلاقة القادة بالفنانات؛ تزوَّج المشير من برلنتي عبد الحميد، وعلي شفيق من مها صبري، وعبد المنعم أبو زيد من سهير فخري.
وكانت هناك عصاباتٌ في مكتب المشير تشتغل بالتهريب، وبخاصَّةٍ في الأجهزة والآلات والدخان التي كانت تُستورد من اليمن، وقد أدانتهم المحكمة العسكرية.([18])
حصاد الصداقة (٢): هزيمة ١٩٦٧
هذه السُلُطات التي منحها عبد الناصر لعامر بدون استحقاق، والقوة التي تفرَّد بها عامر، والحصار الذي وضعه حول الجيش؛ جميعها تسبَّبت في عزل الجيش عن أيِّ رقابةٍ أو حسابٍ أو حتَّى اقتراح؛ فلا الرئيس، ولا البرلمان، ولا المخابرات، ولا أيّ مجلسٍ رقابيٍّ مستقلّ، ولا الشعب، قادرٌ على متابعة ومراقبة ومحاسبة أي خطأٍ في الجيش.
ونقف عند أخطاءٍ كارثيَّةٍ مرَّت بلا حساب:
التدريب
يقول الفريق فوزي: “بصفتي رئيس هيئة أركان القوات المسلَّحة كنت أُعِدُّ خطة تدريبٍ كلّ عام، وأعرضها على المشير عامر، ويوافق عليها، لكن كنت أُفاجأ أن المشير أوقف تدريب الألوية! وأعلم بعد ذلك أنَّ بعض قادة الألوية (المقرَّبين) طلبوا من المشير عدم تدريب الألوية حتَّى لا يُحاسَبوْا، أو تجري متابعتهم، لتخوِّفهم من ظهور نتائج سيئة!
فكانت النتيجة أنَّه لم يتمّْ تدريب أيّ لواءٍ من الجيش في أعوام ١٩٦٥، ١٩٦٦، ١٩٦٧، وفي أغلب الأحيان تأتي تقارير ضرب النار غير صحيحة، وبياناتها زائفة.”([19])
التعبئة
يقول الفريق فوزي: “كان الارتجال هو السمة المميزِّة لعمليَّة التعبئة. جاء هذا الارتجال استجابة لأوامر ارتجاليةٍ سريعةٍ ومفاجئةٍ من المشير عبد الحكيم عامر بدعوى أنَّ مصر يمكنها أن تحشد اثنيّ مليون فرد، وهم جملة الرجال القادرين على القتال في مصر حسب ظنه. وهكذا تمَّ حشد الرجال الذي لم يُدربوا منذ عام ١٩٥٦.”([20])
ويقول عبد الفتَّاح أبو الفضل– نائب مدير المخابرات: “فوجئت في المحطَّة بحالةٍ من الفوضى لقوَّات الاحتياط يعجز الإنسان عن وصفها. كان الكلُّ في ملابس مدنيَّةٍ ومعظمهم بجلاليبهم الريفية ويحملون بنادقهم، وليس هناك أيُّ زيٍّ عسكريّ، جُمعوا من قراهم على عَجَلٍ وشُحنوْا في السكّة الحديد كالدواب، دون مأكلٍ أو مشربٍ أو راحة.”([21])
ويقول أمين هويدي – رئيس المخابرات العامة: “أثناء مروري على إحدى التشكيلات وجدت أنَّ ٦٠٪ من الأفراد لم يستلموا مرتَّباتهم منذ شهور قبل النكسة بحجَّة ضياع أوراقهم في اليمن! و ٨٠٪ من الأفراد مصابون بالبلهارسيا، وملابسهم إمَّا أكبر أو أصغر من مقاسهم، والطعام لا يكاد يكفي الجنود.”([22])
التجهيز للحرب: يروي السادات أنًَّه في مايو ١٩٦٧م اجتمعت اللجنة العليا للاتّحاد الاشتراكيِّ في بيت عبد الناصر، واقترح عبد الحكيم عامر إغلاق مضيق العقبة في وجه السفن الإسرائيلية، فرد عبد الناصر: “إغلاق المضيق يعني أن الحرب مؤكدة ١٠٠٪”، وسأل عبد الحكيم: “هل القوَّات المسلَّحة جاهزة؟”
فوضع عبد الحكيم يده على رقبته وقال: “برقبتي يا ريِّس ..كلّ شيء على أتمِّ الاستعداد”، فوافق عبد الناصر على إغلاق المضيق، واشتعلت الحرب.([23])
ونقف عند نقطةٍ محوريَّةٍ تمثِّل نموذجًا مثاليًّا للتناطح بين ناصر وعامر، وكفيلةٍ وحدها بمحاكمة ناصر وعامر بتهمة التلاعب بمصير الوطن؛ فقد دار خلافٌ بين ناصر وعامر حول: هل نقوم بالضربة الأولى ضدَّ إسرائيل، أم نتلقَّى الضربة الأولى؟
رأي عبد الناصر: لو قامت مصر بالضربة الأولى ستعادينا أمريكا، وقد صرَّح الرئيس الأمريكيُّ (جونسون) بأنَّه سيعادي صاحب الضربة الأولى، لذا قرَّر ناصر أن يتلقَّى الضربة الأولى ثم يحارب إسرائيل تحت تعاطُف أمريكا معنا، وهذا خيرٌ من ضرب إسرائيل الضربة الأولى فنحارب إسرائيل وأمريكا معًا. وناصر هنا كان متأثِّرًا بالعدوان الثلاثي؛ إذ ضغطت أمريكا على إسرائيل لتنسحب من مصر عام ١٩٦٥م.
أمَّت عامر فكان رأيه: نحن لا نستطيع تحمُّل الضربة الأولى، وحين سُئل قائد القوات الجويَّة، صدقي محمود، عن الخسائر المتوقَّعة إذا تعرضنا للضربة الأولى؟ فأجاب: من المتوقَّع أن تبلغ الخسائر ٢٠٪، هذه النسبة كانت مُرضيةً لناصر، وغير مُرضيةٍ لعامر، والأهمُّ أنَّها كانت غير حقيقيَّةٍ أصلًا، ودُمِّرت كلُّ الطائرات المصريَّة وهي على الأرض.
وحين أعلن ناصر عن نيَّته في تلقِّي الضربة الأولى، اعترض الطيَّارون، وبعد أن رحل ناصر، عاد عامر للطيَّارين وقال: “اتطمِّنوا يا ولاد، والله هتحاربوْا”! واقترح عامر على ناصر أن نستفزَّ القوَّات الإسرائيليَّة بعرباتٍ عسكريَّة، فتضطرُّ إسرائيل لضرب هذه العربات، فنردَّ بضربةٍ شاملة، وعندئذٍ لن تعرف أمريكا من بدأ الحرب، لكن اعترض ناصر.
لم يجد عامر أيَّ وسيلةٍ لإقناع ناصر، فقرَّر أن ينفرد وحده ويتّخذ قرار الهجوم على إسرائيل، وعندئذٍ يضع ناصر أمام الأمر الواقع، فأعدَّ خطَّةً للهجوم (فجرًا)، وأصدر أوامره بتنفيذ الخطَّة، لكن علِمت إسرائيل بالخطَّة، فأبلغت أمريكا، التي أبلغت الاتحاد السوفيتّي، الذي أبلغ عبد الناصر! وحين واجه ناصر المشير عامر بالمعلومات التي وصلته من أمريكا والاتحاد السوفيتي وجد أنَّها صحيحة.
ولك أن تتصوَّر موقف رئيس الدولة حين يخطِّط جيشه لخطَّة سريَّ، فيعلم بها إسرائيل وأمريكا والاتحاد السوفيتي، وهو لا يدري عنها أيَّ شيء. [24
هذا التخبُّط، بل قُل: التناطح والفوضى والتلاعب جعل القادة أنفسهم لا يعلمون مهامهم المطلوبة منهم؛ هل سنهاجم أم ندافع؟!
في ٢٧ مايو أرسل قائد الجيش الميدانيِّ مندوبًا إلى هيئة عمليَّات القوَّات المُسلَّحة يسأل أسئلةً جوهريَّة: ما المطلوب من الجيش الميدانيِّ بالتحديد؟ هل خطَّتنا هجوميَّة أم دفاعيَّة؟ وعاد المندوب دون أيِّ إجابة.([25])
وخلال عشرين يومًا قبل الحرب غيَّر المشير عامر خطط القتال أربع مرات، ممَّا أنهك القوَّات الميدانيَّة التي تحرَّكت عدَّة مرَّاتٍ شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا.([26])
ولاحظ هنا أنَّ طريقة قيادة الوطن في أوقات الحرب كانت أقرب لخصومةٍ بين أصحاب!
ثمَّ قرَّر عامر أن يسحب القوَّات من سيناء، وكلَّف الفريق فوزي بإعداد خطَّة انسحاب، فأعدَّ خطةً لانسحاب القوَّات خلال ٤ أيَّام لضمان سلامة القوَّات، لكنَّه فوجئ أنَّ المشير أبلغ بنفسه وشفهيًّا قادة الفرق والألوية بالانسحاب التامِّ والعاجل خلال ٢٤ ساعة، بلا خطَّةٍ ولا دراسة.([28])
الانسحاب
وبعد الهزيمة الكاسحة، حضر ناصر إلى مقرِّ القيادة، ويروي المشير عامر: “تركني ناصر في القيادة أتحمَّل المصيبة وأحاول الخروج منها، ولما جاء إليها، لم أحتمل النظر إليه أو أن أكلِّمه كلمةً واحدة، وحتَّى أسئلته كنت أتجاهلها.”([27])
ونتيجة هذا القرار الانفعاليِّ الارتجاليِّ الشفهيِّ لم يكن القرار مفهومًا للبعض؛ فبعض الجنود فهموا قرار الانسحاب بأن يفرِّوا من سيناء إلى القاهرة، وكثيرون فهموا أن ينسحبوا إلى قُراهم وبيوتهم، فتركوا المعدَّات العسكرية وانسحبوا، وبعض الضباط انسحبوا وتركوا جنودهم، وبعض الفرق والألوية لم يصلها قرار الانسحاب، وبعضها انسحبت منفردةً دون إخطار القوَّات المجاورة لها، ممَّا أثَّر على القوَّات المتبقّية وأصبحت بلا أيِّ غطاءٍ أو دعم.
يروي الفريق فوزي مشهدًا مخزيًا من هذا الانسحاب فيقول: “أثناء الانسحاب وجدت خمس دباباتٍ جديدةً بدون السائقين، ووجدتُ بالصدفة مدير إدارة المدرَّعات، فطلبت منه سحب هذه الدبَّابات، لكنَّه لم يجد سائقين، وطلبتُ ضرب هذه الدبَّابات بالمدفعيَّة حتَّى لا تأخذها القوَّات الإسرائيليَّة، لكنهم رفضوا!”([29])
وأثناء هذا الانسحاب الهمجيِّ أصبحت قوَّاتنا مكشوفةً أمام الطائرات الإسرائيليَّة؛ فكان طريق العودة مرسومًا بدم الجثث وحريق المركبات المتفجِّرة، وفقدنا ٨٥٪ من معدَّاتنا، وقُتل ١٠ آلاف جنديٍّ و١٥٠٠ ضابط، وأُسِر ٥ آلاف جنديٍّ و٥٠٠ ضابط، حتَّى يُروى أنَّ إسرائيل لم تجد عرباتٍ كافيةً لنقل الأسرى.([30])
يعلِّق السادات على طريقة الانسحاب فيقول: “أيُّ عسكريٍّ يعرف أنَّ الذي يبلِّغ قرار الانسحاب هو مدير العمليات، الذي يضع بدوره الخطَّة اللازمة والجدول الزمنيَّ المناسب لتنفيذ الانسحاب، ويعطيه للوحدات لتنسِّق كلَّ وحدةٍ انسحابها حسب الجدول والخطَّة، ولكن هذا لم يحدث، ولذلك كان أمر الانسحاب الذي أصدره عامر هو في الحقيقة أمرًا بالانتحار.
هذه الصورة كانت واضحةً عسكريًّا أمام عبد الناصر، فلماذا لم يتدخَّل؟! ولماذا لم يعزل عامر ويتولَّى هو القيادة، أو يعهد بها إلى قائد آخر؟!
لا إجابة .. فقط علامة الاستفهام التي تظهر في الأفق كبيرةً كلَّما كان الأمر عند عبد الناصر يختصُّ بعبد الحكيم عامر.”([31])
وجديرٌ بالذكر أنَّ قرار الانسحاب صدر من عامر بشكلٍ منفردٍ ومستقلّ، فلم يستشر القادة العسكريين، ولا حتَّى استشار عبد الناصر.
فيروي الفريق فوزي: بعد الانسحاب، تردَّد عامر وأراد أن تعود القوَّات لتقاتل عند المضايق، فاتّصل بعبد الناصر وسأله عن رأيه، فرد ناصر: “يعني كنت أخدت رأيي في الانسحاب الأول، جاي دلوقتي تسألني عن رأيي في المضايق؟!”([32])
ويروي السادات قول ناصر له: “والله يا أنور أنا عرفت إن عامر أعطى أمر بالانسحاب، فقلت له: ازاي تعمل كده يا عبد الحكيم؟!”([33])
نهاية الصداقة: مؤامرة
بعد هزيمة ١٩٦٧م، خشي المشير أن يُقدَّم للمحاكمة أو يُعزَل من منصبه، فتآمر مع عددٍ من القادة العسكريين للانقلاب على عبد الناصر، وبدأ بالفعل في تجميع الأسلحة.
ووصلت هذه المعلومات إلى عبد الناصر، فاتّصل بعامر وواجهه، وينقل سامي شرف أحداث هذا اللقاء:
وصل عامر ليجد في استقباله عبد الناصر، والسادات، وحسين الشافعي، وزكريَّا محيي الدين.
بدأ عبد الناصر الحديث وسرد تفاصيل مؤامرة عامر، ثم قال: “كنت أتوقع أن يكون تصرفك يا عامر على مستوى المسئوليَّة، ووفق الميثاق غير المكتوب بيننا، أن من يترك موقعه لا يتآمر، لكن للأسف حدث العكس، لذلك أنا أطلب منك أن تقعد في بيتك.”
انفعل عامر، ورفض التنحِّي!
حاول السادات التدخُّل لإقناع عامر بالتنحِّي، لكن عامر سبَّه وقال: “قطع لسانك، انت بتحاكمني يا رقّاص .. يا .. يا ابن ..”.
وانتهت هذه الجلسة بعزل عامر من مناصبه وتحديد إقامته.([34])
ثم وُجد عامر مسمومًا، وقرائن تشير إلى أنَّ ناصر هو الذي قتل عامر بالسم، وجعل الأمر يبدو انتحارًا.([35])
أي أنَّ الصداقة التي مزَّقت الوطن هي نفسها تمزَّقت!
وقد اعترف عبد الناصر نفسه بخطئة: تفضيل أهل الثقة على أهل الكفاءة، فقال بعد الهزيمة: “أسلوب التعيين ليس أفضل الأساليب، والتعيين فى النهاية قد لا يعطينا إلَّا ما تفرزه مراكز القوى، أو ما تقدِّمه المجموعات المختلفة والشِلَل، وليس ذلك هو المرجوّ، وليس هو ما يحقق لنا الهدف والدور الذى كنَّا نطلبه. إنَّ طريق الانتخاب سوف يعطينا الحلَّ الأوفق؛ أن يتمَّ بناء الاتّحاد الاشتراكيِّ بالإرادة الشعبيَّة وحدها، وأن تقوم قوى الشعب العاملة باختيار قيادتها المعبِّرة عنها والمستوعبة لآمالها الثوريَّة، ثم تدفعها إلى مواقع القيادة السياسية.”([36])
٤. انشغال المخابرات المصرية قبل هزيمة ١٩٦٧م
كلَّف عبد الناصر القوَّات المسلَّحة والمخابرات بمطاردة المعارضين كالإخوان المسلمين وغيرهم؛ فيقول الفريق فوزي: “تمَّ تكليف القوَّات المسلَّحة بسلطة التحقيق القضائيِّ في قضيَّة الإخوان المسلمين عام ١٩٦٥م، وقام بالتحقيق فيها شمس بدران شخصيًّا، واستخدمت القوَّات المسلَّحة أجهزة أمنها الكثيرة والقويَّة، مثل إدارة المخابرات الحربيَّة، والشرطة العسكريَّة، والشرطة الجنائيَّة العسكريَّة التي فُتِحَ لها مكاتب ومندوبين في معظم المحافظات، والقضاء العسكريّ، والسجن الحربيّ.
وقد استخدمت هذه الأجهزة أسلوب القسر والتجاوز على القانون في تطبيق وتنفيذ هذه المهام”([37])
كلُّ هذا الاهتمام والتفرُّغ الذي خصَّصته المخابرات لمطاردة الإخوان المسلمين، وتتبُّع أعضائها، وتحرُّكاتهم، وسجنهم، وتعذيبهم، والتحقيق معهم، ومحاكمتهم، شتّتها عن دورها الرئيس؛ إذ أنَّهم لم ينجحوا في رصد أيِّ معلومةٍ صحيحةٍ عن العدوِّ الإسرائيليّ، ويروي الفريق فوزي نماذج من الأخطاء الكارثيَّة للمخابرات:
المخابرات: “توجد حشودٌ إسرائيليَّةٌ على الحدود السوريَّة” .. غير صحيح، ولم تكن هذه الحشود موجودة!
المخابرات: “الروح المعنويَّة للإسرائيليّين قبل الحرب منخفضة” .. غير صحيح.
المخابرات: “قوَّة المشاة والمدرَّعات المصريَّة ثلاثة أضعاف القوَّات الإسرائيليَّة” .. غير صحيح، وقوَّة المشاة الإسرائيليَّة أكثر من المشاة المصرية بمقدار 1,7، وطيَّارون إسرائيل أكثر ٢٥٠٪ من عدد الطيَّارين المصريّين.
ويستخلص الفريق فوزي: “جميع المعلومات أو التقديرات أو قوَّة العدوِّ أو أسلوب قتاله أو النطاق الأقصى الفعَّال لطائراته كانت خاطئة؛ الأمر الذي جعل تخطيط العمليَّات الحربيَّة خاطئةً كذلك.”([38])
ويقول زكريَّا محيي الدين: “إنَّ الفشل الاستخباراتيَّ المصريَّ كان السبب الرئيس، حيث كانت المخابرات الإسرائيليَّة تعرف اسم كل ضابطٍ مصريّ، بل اسم زوجته، بينما لم تكن المخابرات المصريَّة تعرف أين يسكن وزير الدفاع (موشى ديان)!”([39])
٥. تغييب الشعب
في ٢٣ ديسمبر ١٩٥٨م نشرت جريدة (الأهرام): “٣ ملايين فدّان جديدة لمصر.”([40])
في ٢٢ يوليو ١٩٦٢ نشرت جريدة (الأخبار):”أطلقنا صاروخًا مداه ٦٠٠ كم؛ صاروخًا عربيًّا يمكنه إصابة تل أبيب إذا أُطلق من القاهرة. عبد الناصر يعلن نجاح الخبراء المصريّين في تصنيع صواريخ أرض أرض بعيدة المدى: القاهر والظافر.”
وفي ٦ يوليو ١٩٦٦ أضافت (الأخبار) صاروخًا جديدًا: “الرائد .. صاروخٌ جديدٌ متعدِّد المراحل؛ الصاروخ الجديد مداه ألف كيلومتر، ويستطيع أن يخترق نطاق الجاذبيَّة الأرضيَّة إلى الفضاء الخارجيّ.”
وصرَّح عبد الحكيم عامر: “الأسطول تمكَّن من صنع غوَّاصة جيب تنزل إلى البحر خلال أسبوعين.”
وفي ٢٤ يوليو ١٩٦٥ صرَّح المشير عامر: “الطائرة القاهرة ٣٠٠ من أقوى الطائرات في العالم.”
وفي ٢١ مايو ١٩٦٧ نشرت جريدة (الجمهوريَّة): “دخلُنا البتروليُّ سيكون أكبر من دخل السعوديَّة وليبيا.”
وفي خطاب التنحِّي قال عبد الناصر: “لقد تحرَّكتْ قوَّاتنا المسلَّحة إلى حدودنا بكفاءةٍ شهد بها العدوُّ قبل الصديق .. ولقد كانت الحسابات الدقيقة لقوَّة العدوِّ تُظهِر أمامنا أنَّ قوَّاتنا المسلَّحة، بما بلغته من مستوى فى المعدَّات وفي التدريب قادرةٌ على ردِّه وعلى ردعه.”
كل هذه الأخبار والدعاية الكاذبة الوهميَّة صنعت هالةً من التأييد المطلق والتبعيَّة والثقة في الزعيم مهما فعل، والاطمئنان إلى القادة، وترك كلِّ مقاليد الحكم إلى عبد الناصر دون أدنى شكٍّ أو ريبةٍ في تقصير أو نقص.
أمَّا عن الواقع، فيقول الشاذلي: “القاهر والظافر، كانت هناك عدَّة صواريخ من نوعيَّتهما ترقد راكدةً في المخازن. لقد كانت عيوبهما كثيرة وفوائدهما قليلة. كانت هناك عيوبٌ جوهريَّة في هذا السلاح تجعله أقرب ما يكون إلى المقلاع أو المنجنيق اللذين كانا في القرون الوسطى. لقد كان كبير الحجم والوزن، إذا تحرَّك، فإنه يسير بسرعة ٨: ١٠ كيلومتراتٍ في الساعة، وليست لديه أيُّ وسيلةٍ لتحديد الاتّجاه سوى توجيه القاذف في اتّجاه الهدف قبل تحميل المقذوف، وأقصى مدى يمكن أن يصل إليه هو ثمانية كيلومترات، وكانت نسبة الخطأ تصل إلى ٨٠٠ متر.”([41])
عبد الناصر .. زعيمٌ حتَّى لو فشل!
بعد هزيمة ١٩٦٧م المفجعة تنحَّى عبد الناصر وقال: “الشعب لديه حقُّ أن يعدمني في ميدان التحرير”، ورغم ذلك خرج الشعب إلى الشارع ليطالب بعودته!
وقرَّر مجلس الأمَّة الانعقاد الدائم، وامتلأ المجلس بكلِّ نوَّابه، وكلِّ أعضاء الوزارة، لا لحساب المسئولين، ولا للوقوف على حقيقة مع حدث في سيناء، ولا لاستعادة الوضع، ولا لاسترجاع الأسرى، بل اجتمعوا فقط لمناقشة عودة عبد الناصر للحكم.
وفي خشوعٍ وجلالٍ عظيمٍ وقف رئيس مجلس الأمّة، السادات، ووقف كلُّ الحضور، وتلى السادات خطاب عبد الناصر، وأعلن عودة عبد الناصر للحكم، بعدها استمرَّ التصفيق دقائق طويلة، ووقف نوَّابٌ على المقاعد ورقصوا أمام الجميع!([42])
إنَّ هذا الرقص في هذه الظروف لا يمكن أن يُدَرج تحت باب المجاملة ولا النفاق، بل يُدرج تحت باب البلاهة؛ ففي ظلِّ هزيمةٍ ساحقة، مذلَّة، واحتلال سيناء، ودماء الجنود لم تجفّ، والأسرى المصريين لا نعرف عنهم شيئًا، وبعض جنودنا ما زالوا تائهين في سيناء، كلُّ هذا في كفَّة، ورجوع الحاكم للعرش في كفَّة أُخرى، ونجد رجوع الرئيس عند هؤلاء النوَّاب يمثِّل نصرًا وفرحةً تستحقُّ الاحتفال والرقص، أمَّا الهزيمة، فلا تُهِمّ.
ووكيل مجلس الأمَّة حين علم بموافقة عبد الناصر على العودة، بكى حتَّى أُغمى عليه!([43])
والأغرب أن يشكر البعض عبد الناصر على قبوله العودة للرئاسة، فكتب أنيس منصور: “إنَّ أعباء النكسة تستطيع وحدك يا جمال أن تحملها، لقد قرَّرنا: لا. وشكرًا لله أنَّك قلت لنا: نعم.”
وغنَّى محرَّم فؤاد: “الرئيس أهو وافق وافق .. أبو قلب حنيِّن قام وافق .. واصل سيرك يا زعيم.”
وبعد الهزيمة بشهرين حضر عبد الناصر قمَّة الخرطوم، واستقبله السودانيُّون استقبالًا حافلًا ومهيبًا، حتَّى قالت الصحف الغربية: “لأول مرَّةٍ في التاريخ يحظى قائدٌ مهزومٌ بهذا الاستقبال المهيب!”([44])
إنَّ الشعب لم يفكِّر ولو للحظةٍ أنَّ عبد الناصر المسئول عن هذه الهزيمة، وسبب ذلك:
أولًا: لم يكن عبد الناصر في نظر الشعب موظَّفًا، بل كان الشعور الطاغي أنَّ عبد الناصر هو الأب، ومهما فعل الأب يظل ُّصاحب الفضل والنعم، وله جزيل الاحترام والتقدير لذاته، ومن سوء الأدب معارضته.
وحين سُجن أحمد فؤاد نجم، وجد أمَّه في زيارته حزينة وتبكي على وفاة عبد الناصر، فقال نجم: “كيف تبكي على رجل سجن ابنك؟ فأجابت: عبد الناصر لم يكن رئيس دولة، بل كان وتد الخيمة!”
يقول د. إمام عبد الفتاح إمام: “هذا الخلط بين وظيفة الأب في الأسرة، التي هي مفهومٌ أخلاقيّ، ووظيفةُ الحاكم الذي هو مركزٌ سياسيٌّ يؤدِّي في الحال إلى الاستبداد، ولهذا يستخدمه الحكَّام عندنا في الشرق للضحك على السُذَّج؛ فالحاكم أبٌ للجميع وكبير العائلة، وهذا يعني أنَّ من حقه أن يحكم حكمًا استبدادًا؛ لأن الأب لا يجوز أخلاقيًّا معارضته، فقراره مطاعٌ واحترامه واجبٌ على الجميع.”([45])
ثانيًا: في نظر الشعب عندئذ لم يخطئ عبد الناصر؛ لأنَّ كلَّ معلومات الشعب كان مصدرها الصحافة والإعلام الرسميّ، وكلُّ وسائل الإعلام حينئذٍ كانت تكرِّر وتؤكِّد إنجازات الرئيس، فالصواريخ مصريَّة الصنع جاهزة، والغواصات تتجهَّز، والسيَّارات تُصنَّع للتصدير، والمحطَّات النوويَّة تُعدّ، ومئات الأفدنة تُزرع، والمصانع تدور، وجيشنا مستعدّ، وسنحرِّر فلسطين، ونرمي الإسرائيليّين في البحر، وخطابات الزعيم تزيدنا ثقة، وأغاني عبد الحليم وأم كلثوم عن عبد الناصر تطربنا.
أمَّا المعلومات التفصيلية عن أسباب الهزيمة، وما يدور بين القادة من مؤامرات، وعدم تدريب الجنود، وفشل الصواريخ، ووهميَّة الوعود، وتخبُّط القرارات، كلُّ ذلك لم يعلم الشعب عنه أيَّ شيء؛ لذلك كان طبيعيًّا أن يرى الشعب حينئذٍ أن عبد الناصر لم يخطئ!
***
نحن هنا لا نقيِّم عبد الناصر، ولا يعنينا الحكم عليه شخصيًّا، بل ما يعنينا تقييم أسباب الفشل والنجاح.
ونجد عبد الناصر نموذجًا يشهد أنَّ الحاكم مهما بلغ من الاستنارة والوطنيَّة، فإنَّ الاستبداد هو الآفة القاتلة المُميتة.
ونختم بمقولة نجيب محفوظ حين قال: “إنجازات عبد الناصر كلُّنا نعرفها، لكنَّ الخطأ الأكبر الذي وقع فيه: الديكتاتوريَّة. وهي المفسِّرة لأيِّ مصيبةٍ حدثت، وهي أمُّ الكبائر السياسيَّة، وهي التي قضت على كلِّ طيِّب، وعلى عبد الناصر نفسه.”([46])
[1]. (الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر) ص١٨٤
[2]. (الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر) ص١٩٥
[3]. (والآن أتكلم) ص٢٧٢
[4]. (والآن أتكلم) ص٣٠٥
[5]. (الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر) ص١٦٣-٢١٠
[6]. (قصة السويس) ص١١٩ – ١٣١
[7]. بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨
[8]. (ناصر وعامر – الصداقة والهزيمة والانتحار) ص٢٠
[9]. (سنوات وأيام مع عبد الناصر) ج١ ص١٥٧
[10]. قناة الجزيرة .. برنامج (شاهد على العصر) ج٥
[11]. (مذكرات عبد اللطيف البغدادي) ج٢ ص١٧٢
[12]. (سنوات وأيام مع عبد الناصر) ج١ ص١٥٥، (مذكرات عبد اللطيف البغدادي) ج١ ص٣٣٦
[13]. (حرب الثلاث سنوات) ص٤٠
[14]. (مذكرات عبد اللطيف البغدادي) ج٢ ص١٧٨-١٩١، (حرب الثلاث سنوات) ص٣٣
[15]. (مذكرات عبد اللطيف البغدادي) ج٢ ص١٩٨
[16]. قناة الجزيرة .. برنامج (شاهد على العصر) ج٥
[17]. (ثورة 23 يوليو – مجتمع عبد الناصر) ص٥٠٩
[18]. (ثورة 23 يوليو – مجتمع عبد الناصر) ص٣٠٦
[19]. (حرب الثلاث سنوات) ص٦٠
[20]. (حرب الثلاث سنوات) ص٥١
[21]. (كنت نائبًا لرئيس المخابرات) ص٢٥١، نقله (في تشريح الهزيمة) ص٥٨
[22]. (الفرصة الضائعة) ص٩٥
[23]. (البحث عن الذات) ص١٨٦
[24]. (العشاء الأخير للمشير) ص142، (حرب الثلاث سنوات) ص113، (في تشريح الهزيمة) ص183
[25]. (الفريق مرتجى يروي الحقائق) ص6، نقله (في تشريح الهزيمة) ص196
[26]. (حرب الثلاث سنوات) ص111
[27]. (العشاء الأخير للمشير) ص145
[28]. (حرب الثلاث سنوات) ص151
[29]. (حرب الثلاث سنوات) ص157
[30]. خطاب عبد الناصر في مجلس الأمة في 23 نوفمبر 1967، (في تشريح الهزيمة) ص59
[31]. (البحث عن الذات) ص191
[32]. (حرب الثلاث سنوات) ص156
[33]. (البحث عن الذات) ص191
[34]. (سنوات وأيام مع عبد الناصر) ج1 ص153
[35]. قناة الجزير .. برنامج (سري للغاية) .. حلقتان بعنوان: موت الرجل الثاني .. تاريخ بث البرنامج: 2/5/2002، 6/6/2002.
[36]. بيان 30 مارس 1968
[37]. حرب الثلاث سنوات) ص42
[38]. (حرب الثلاث سنوات) ص118
[39]. جاءت ملاحظة زكريا محيي الدين في تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية. مذكرة للرئيس بتاريخ 31 يوليو 1967، نقله (في تشريح الهزيمة) ص64
[40]. (ميراث النكسة) ص171-178
[41]. (حرب أكتوبر – مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي) ص96
[42]. مئوية الزعيم – وقائع جلسة رفض التنحى، مبتدا، 15/1/2018
[43]. (ميراث النكسة) ص160
[44]. (الطاغية) ص262
[45]. (الطاغية) ص44
[46]. https://www.youtube.com/watch?v=i21PDTdfUFw