وهل أفسَدَ الدِّينَ إلا المُلُوك؟

لا يرتضي الدِّين تحكُّم المتسلطين وتمكُّن المتجبرين، فيحرِّض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الظالمين، لذلك لا يترك المستبدُ الدِّينَ يتمكَّن من الشعب ويوقظ ضمائرهم وحماسهم، بل يجتهد في تحريف الدِّين، وتغيير وجهته، وتشويه معالمه، واختلال أولوياته.
ويتَّبع المستبدون في كل عصر منهجيَّة محترفة لاستغلال الدِّين، أو على الأقل تحييده:

أولًا: الدِّين المعزول

الصوفيَّة أو الرقائق هي إحدى علوم الدِّين التي تتخصَّص في تربية النفس، وتهذيب الخُلق، وهي جانب من الدِّين عظيم، ولا يكتمل الدِّين بدونه، وليس للدِّين معنى إن لم ينشغل بتهذيب النفس.

غير أن المُستبِد لا يعتبر الصوفية أحد علوم الدِّين، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدِّين، بل يعتبر الرقائق هي كل الدِّين، وما دونها فليس من الدِّين في شيءٍ، ويصبح مَقصِد الدِّين مُنحصِرًا في تربية النفس، والزُّهْد عن الدنيا، والعُزلة عن الناس، والأُنس بالله، وأداء المناسك، فقط لا غير. أو بصيغةٍ أخرى: لا يخرج الدِّين من المسجد، ويتفاخر المتدينون بالبُعد عن السياسة والاقتصاد والأحداث العامة! وهذا الدِّين الانطوائيّ يُرضِي الحُكَّام، ويشجعوه ويتدينوا به، فتراهم في كل مناسبة يقبِّلون المصحف ويغلقوه، وتصورهم الكاميرات في المساجد كل جمعة!

ولا يجرؤ أحدٌ من علماء الدِّين الحديث عن الدِّين الذي يوقظ النفوس لإحقاق الحق ومقاومة الظلم، بل يجد نفسه أمام الرقائق فقط، هذا فقط المسموح به والدِّين المعترف به. فانظر مثلًا لأمثلة الكبائر التي يرددها علماء الديِّن، ستجدها كلها مُنحصِرة في جنس الأعمال الفرديَّة للشعب، كالزنا والخمر وعقوق الوالدين وترك الصلاة، لكن الواقع شهد عشرات الكبائر، التي يتخطى جرمها ليشمل ملايين البشر، كاغتصاب المُلك، وتزوير الانتخابات، وسجن الأبرياء، وتعذيب المعتقلين، وقتل المعارضين، وسرقة المال العام. فهل يجرؤ شيخ أن يضرب مثالًا للكبائر من جنس أعمال الحُكَّام؟!

هل تَرك الصلاة أكبر عند الله من سجن مئات البشر ونزع أظافرهم، وسلخ جلودهم، واغتصاب نسائهم أمامهم؟! 

يقول ممدوح علوان: “إننا نرى أن العصبيَّة الدينيَّة وانتفاضة العلماء تستيقظ ضد كاتب أو شاعر معارض أو مُمثِّلة ظهرت غير محتشمة في فيلم، فتُقام الدعاوى القضائية ضدهم ويُندَّد بهم في خُطَب المساجد والدروس الدينيَّة، لكننا لم نسمع عن واحدٍ من هؤلاء المتحمسين للفضيلة والدِّين أنه قد استنكر سرقة مسئول من أموال الدولة أو الاعتراض على من يصالح العدو، كأن الاقتصاد والغش والاحتلال والأوبئة لا تهدد أدياننا أو حياتنا، ويهددها فقط كلمة في قصيدةٍ أو مشهدٍ في فيلم!”(1).

إعلان

ويقول الكواكبي: “قد عدَّد الفقهاء من لا تُقبَل شهادتهم لسقوط عدالتهم، فذكروا حتى من يأكل ماشيًا في الأسواق، ولكن شيطان الاستبداد أنساهم أن يُفسِّقوا الأمراء الظالمين فيردّوا شهادتهم”(2).

ونتج عن هذا التحريف شعوبًا متدينة، لكنها منحرفة أخلاقيًا، ومن أعلى معدلات الجريمة، والتحرش، وتعاطي المخدرات!

هذه الازدواجيَّة منبعها أن الشعب بالفعل متدين، لكن المشكلة أن معنى الدِّين قد حُرِّف وشوِّه، فبات الدِّين هو العبادات، والمناسك، والمسجد، فقط. مجرَّد رموز خاوية بلا معنى، أما القيم التي يحملها الدِّين، مقاصده التي يبتغيها، تدخلاته في معاملاتنا اليومية، كالعدل والأمانة ورفع الظلم ومقاومة الخيانة، فقد نزعها الحُكَّام من الدِّين، فنتج شعب يقتلك إن تكلمت عن صحابي بسوءٍ، ولا يعتبر تزوير الانتخابات حرامًا أصلًا! لأن الصحابي من الدِّين، أما تزوير الانتخابات لا عَلاقة له بالدِّين! ويثور الشعب دفاعًا عن النقاب، ولا يهمه أن يُورَّث الحكم لقاصر لم يبلغ بعد!

ثانيًا: الجبرية

نشر الأمويون فكر الجبرية الذي يرسخ أن كل ما يحدث في الكون هو إرادة الله، وليس للإنسان قدرة على الاختيار أو التغيير، وقد اختار الله هذا الحاكم للناس، ولو كان فاسدًا ما اختاره الله ليحكمنا! أو أن الله اختار حاكمًا فاسدًا ليختبرنا به! ولم نخسر الحرب لسوء الإدارة، بل هو قضاء الله! وشيوع المرض والجوع والجهل في أوطاننا ليس بسبب الحاكم، بل هو قدر الله وبلاءه! وكل حوادثنا ليست بسببنا، بل بسبب الله!

وحين يستقر في وعي الشعوب أن كل ما يحدث من الله، وأن ليس للبشر قدرة على تغيير الواقع، لا يجتهد أحد لمقاومة الظلم وتغيير الحال، بل يستكينوا ويخضعوا، ويصبح قبول الواقع الظالم هو صبرٌ على البلاء ورضا بالقضاء! أما من يرفض الواقع المخزي لحالنا فهو ساخط على قضاء الله وقدره! 

“يروي المقريزي أنه قيل للحسن البصري: إن هؤلاء الأمويون يسفكون الدماء ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله. فقال الحسن: كذب أعداء الله”(3).

ويقول القاضي عبد الجبار: “قال أبو علي الجبائي: حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر ورآهم لا يأتمرون بأمره، فجعل لا يمكنه حجة عليهم، وأوهم أن المنكِر لفعله قد ظلمه، فقال: “لو لم يرني ربي أهلًا لهذا الأمر ما تركني وإياه، ولو كره الله ما نحن فيه لغيَّره”. وكان إذا انهزم أعداءه يقول: كيف رأيتم صنع الله؟ يضيف ذلك إلى الله تعالى وإرادته، يستدعي بذلك إلى تقوية باطله”(4). 

ويقول د. أحمد أمين: “بنو أمية كانوا يكرهون القول بحرية الإرادة، لا دينيًا فقط، ولكن سياسيًا كذلك؛ لأن الجبر يخدم سياستهم، فالنتيجة للجبر أن الله الذي يسيِّر الأمور قد فرض على الناس بني أمية ودولتهم كما فرض كل شيء بقضاء الله وقدره، فيجب الخضوع للقضاء والقدر”(5).

واستخدم الشعراء هذا المعنى كثيرًا لتأكيد أن الله هو الذي اختار حكامنا.

فقال الأخطل لبشر بن مروان:

أعطاكم الله ما أنتم أحق به      إذا الملوك على أمثاله اقترعوا

وقال ابن جرير لعبد الملك بن مروان:

الله طوقك الخلافة والهدى      والله ليس لما قضى تبديلا

وقال د. سعد الدين هلالي: “كما ابتعث الله وأرسل رسولين: موسى وهارون، كذلك ابتعث الله رجلين: السيسي (وزير الدفاع)، ومحمد إبراهيم (وزير الداخلية)”(6)!

ثالثًا: الله يحب لكم الفقر

راجت فكرة أن المال هو أهم ملهيات العصر، وقد كان النبي فقيرًا، فعلينا أن نتأسى به في فقره، وزهده، وترك الدنيا. والله يحب الفقراء، وهم أسرع في دخول الجنة من الأغنياء!

إن امتدَّ خط من هذه الأفكار حتى منتهاها سيؤدي بنا إلى أمة فقيرة ومسحوقة، عالة على غيرها، خارجة عن المنافسة، غائبة عن عالمها، ويستحيل أن تبني حضارة ولا تقيم نهضة، ولا تطور اقتصادًا، بل هي ثقافة ترسِّخ لدين يصلح لتبرير الواقع، والرضا بالحال، والسكوت على الفاسدين السارقين لأموالنا، المنتهِكِين لحقوقنا، كأن من يحاسب الحاكم على مال الشعب فهو يهتم وينشغل بأموال دنيوية حقيرة، أما العابدون فهم زاهدون في الدنيا، وعليهم أن يتفرغوا للآخرة، ويتركوا الدنيا لغيرهم، فيدعوا ما لقيصر لقيصر!

لكن المعنى الحقيقي للزهد لا يمنع التملك وتنمية الثروات، بل يلفت القلب إلى الآخرة، وعدم الاكتفاء بالدنيا، أو بتعبير الصوفية: أن تملك الدنيا في يدك، لا قلبك. 

يقول محمد الغزالي: “كل دعوة تحبب الفقر إلى الناس، أو تُرضيهم بالدون من المعيشة، أو تقنعهم بالهون في الحياة، أو تصبرهم على قبول البخس، أو الرضا بالدَنِية، فهى دعوة فاجرة، يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد، وهي قبل ذلك كله كذب على الإسلام وافتراء على الله”(7).

ومن المفارقات أن رجال الدين المسيحي في فرنسا قبل الثورة الفرنسية كانوا يرغِّبون الناس في الزهد، ويعلمون الناس الصبر على الجوع والفقر، في حين أن عُشر أرض الدولة وعُشر إيرادات الدولة كان مخصصًا لهم، باعتبارهم شفعاء للجميع أمام الرب(8)!

رابعًا: تبرير الدين لجرائم السلطان

بعد اغتصاب الأمويين للحكم، تفشى فسقهم وفجورهم، ففُجع الناس بالانهيار الأخلاقي الطاغي المفاجئ؛ من الخلافة الراشدة الزاهدة، إلى الفسق، والفجور، وقطع الرؤوس، وتفشي الخمر بين الحكام، وفخامة قصور الحكام، وسهراتهم الماجنة من بيت المال.

فتساءل الناس: هل هؤلاء الحكام مؤمنون ولهم الجنة، لإيمانهم بأركان الإيمان، أم كفار ولهم جهنم، لأفعالهم الفاحشة؟ ومن ثمة ثار خلاف عام حول: ما حكم مرتكب الكبيرة؟ 

فحكم عليهم الخوارج بالكفر، وحكم المعتزلة عليهم بأنهم في منزلة بين المنزلتين؛ أي في الدنيا يُعاملون مثل المسلمين، ويُسموا فاسقين، وفي الآخرة يخلدون في جهنم. إذن اتفقت الفرقتان أن مرتكب الكبيرة غير التائب في الآخرة من أهل النار؛ لأن الإسلام إيمان وعمل، وشرطي النجاة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات).

هنا ظهر شيوخ السلطان، (المرجئة)، لتبرير فحش حكامهم، فقالوا: إن الإسلام إيمان فقط، ولا يشترط العمل، ولا يضر مع الإيمان معصية، وبالتالي لا حرج أن يؤمن المرء ويظلم، ويقتل، ويزني، ويسرق، وكأن مجرد اهتزاز اللسان بالشهادتين ينجي المرء! 

ولذلك قال المأمون: “الإرجاء دين الملوك”!(9)

ويروي السيوطي أن يزيد بن عبد الملك بن مروان “أتى بأربعين شيخًا، فشهدوا له: ما على الخلفاء حساب ولا عذاب”(10).

ويؤكد ابن تيمية هذا الحدث فيقول: “كثير من أتباع بني أمية كانوا يعتقدون أن الإمام لا حساب عليه ولا عذاب، وأن الله لا يؤاخذهم على ما يطيعون فيه الإمام، بل تجب عليهم طاعة الإمام في كل شيء، والله أمرهم بذلك. وكلامهم في ذلك معروف كثير.

وقد أراد يزيد بن عبد الملك أن يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز، فجاء إليه جماعة من شيوخهم، فحلفوا له بالله الذي لا إله إلا هو، أنه إذا ولَّى الله على الناس إمامًا، تقبَّل الله منه الحسنات وتجاوز عنه السيئات”(11).

وابن أبي العز – شارح العقيدة الطحاوية – وهو يتحدث عن الحكام الظالمين، يقول: “الصبر على جور الحكام تكفير السيئات ومضاعفة الأجور، فإن الله ما سلَّطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل. فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم، فليتركوا الظلم”(12)!

انظر كيف انتقل من ظلم الحكام إلى ظلم الرعية، وأصبحت الرعية هي الظالمة التي تحتاج إلى توبة، وهي سبب ظلم الحكام! وكيف أخمد ثورة التغيير وجعلها استغفار وذكر! وكيف استخدم الدين ليصبح مخدرًا يمرر من خلاله ظلم الحكام وفسادهم!

وحين حاول مبارك توريث الحكم لابنه جمال، قال الشيخ محمود لطفي، رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية: “إن ورَّث مبارك، فقد ورَّث من هو خير منه قبل ذلك، ولم يعترض الصحابة، وهو معاوية، فماذا تقولون؟!”(13) 

لاحظ أن الشيخ بحث عن تبرير لتوريث الحكم في القرآن، فلم يجد. فبحث في السنة، فلم يجد. فبحث في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فلم يجد. ثم وجد معاوية قد ورَّث الحكم لابنه، فاعتبر فعل معاوية هو حكم الله، ورأي الدين المعصوم، وحجة في الشرع، وعلى كل مسلم أن ينصاع له، ثم كذب وادَّعى أن الصحابة لم يعترضوا، وكل هذا التخبط والتمحك في الدين ليغلف الدين في زجاجة خمر يهديها لرئيسه ليرضى عنه بنظرة!

وقال القديس بوليس: “الحاكم المستبد لا يحمل السيف عبثًا، إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر”(14).

وقال مارتن لوثر: “أمراء هذا العالم آلهة، والناس العاديون هم الشيطان، وعن طريقهم يفعل الرب ما يريد. وإني لأفضِّل أن أحتمل أميرًا يرتكب الخطأ على شعب يفعل الصواب”(15).

ورغم الصمت الجبان لبعض علماء الدين تجاه جرائم السلطان، إلا أنهم يملأون الدنيا صخبًا وثورةً، ويتحولون إلى ثوار ومجاهدين إن لمحوا خطأً لمعارض، فلو أخطأ معارض في حفظ آية، يهبُّون من مرقدهم، ويسنُّون سيوفهم، ويستدعون قواعد الفقه ليحاكموه، وشهد التاريخ عشرات المعارضين حكم عليهم رجال الدين بالزندقة، فقتلهم الحاكم شر قتلة لأسباب تافهة! 

فحين عارض السهروردي الحاكم، امتحنه الشيوخ امتحانًا ساذجًا في الدين، فسألوه: هل يستطيع الله أن يرسل نبيًا بعد محمد؟ فقال: “الله قادر على كل شيء”، فادَّعوا أنه يؤمن بوجود نبي بعد محمد، وحكموا عليه بالردة، وقتلوه(16)!

ورأيتُ باحثًا ينتقد معارضًا لأنه كتب مقالًا بعنوان: (معركة الصبر)، واستنتج من العنوان أن المعارض صدامي ودموي وعنيف؛ لأنه استخدم لفظ (معركة)!

ومبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد الخلافة الراشدة كان تطبيقه يتمثل في مراقبة الحاكم، ومعارضته، وردِّه إن أخطأ، أما بعد ذلك فقد قال بعض الفقهاء بوقاحة: يُستثنى الحكام من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! وحصروا هذا المبدأ في أمر ونهي العوام فقط!

والشرطة في أحد العصور اعتبرت أولويات المنكر: الزمارات التي يلعب بها الصبيان، فطاردت الصبيان في الشوارع لتصادر الزمارات!

يقول: (مايكل كوك): “إن الحملة التي أثارها رجال الشرطة حول الزمارات، ومطاردتهم للصبيان في الشوارع، باعتباره نهيًا عن المنكر، ما هو إلا تصرف يثير الهزء”(17)!

وهيئة الأمر بالمعروف في السعودية لم تعلِّق على قتل المعارض خاشقجي وتقطيع جثته، لكنها منعت الدمية (باربي)؛ لأنها تمثل إهانة للقيم الإسلامية بملابسها الفاضحة(18)!

خامسًا: رأي الحاكم دين

الموظفون في عهد الاستبداد لا يتوقفون عن نفاق السلطة وتأييد آراء الحاكم ومدح أفكاره، وكذلك يفعل الشيوخ، لكن تزداد فداحة النفاق مع الشيوخ؛ لأنهم ينطقون بالآيات والأحاديث، ويشرحون الدين، فلا يقولون: أنا شخصيًا أرى رأي الحاكم صوابًا، بل يستخدمون الآيات والأحاديث والفقه ليُظهِروا كأن الدين نفسه يؤيد رأي الحاكم!

ومن هنا أصبح الدين يسير في زيل الحاكم، فإن تبنَّى الحاكم الاشتراكية مثلًا، فجأة نجد التفسيرات والتأويلات تُقِرُ أن الدين ما نزل إلا للدعوة إلى الاشتراكية، وتظهر أحاديث بالعشرات تتبنى الاشتراكية، كأن النبي تنبأ بها، وتظهر كتب تحت عنوان (الإسلام الاشتراكي)، (اشتراكية الإسلام)، (الاشتراكية الإسلامية)، ثم يأتي رئيس يتبنى الرأسمالية، ففجأة نكتشف أن الدين جاء ليحارب الاشتراكية ويرفع شعار الرأسمالية! 

هذا التطويع للدين جعل من الدين الواحد نسخًا شتى ومذاهب عدة طبقًا لتوجه الحاكم، فأغلب الفرق لم يكن منشؤها ديني وعلمي، بل سبب تكوينها سياسي، ومن هنا نشأ الإسلام السني والإسلام الشيعي، إسلام الأمويين وإسلام العباسيين، إسلام السعودية وإسلام ماليزيا!

لذلك قالوا: الناس على دين ملوكهم!

يقول ابن تيمية: “كثير من المتفقهة وأجناد الملوك يشركون شرك الطاعة، وقد قال النبي لعُدي بن حاتم لما قرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)، فقال: يا رسول الله ما عبدوهم. فقال: “ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرَّموا عليهم الحلال فأطاعوهم”. فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرَّمه، والحلال ما حلله، والدين ما شرَّعه”(19).

مثال (1): منع النساء من قيادة السيارات في السعودية!

منعت المملكة السعودية النساء من قيادة السيارات، ورغم تخلف القرار ورجعيته، وانفراد السعودية بهذا المنع، إلا أنه يظل قرارًا سياسيًا خاطئًا، لكن العجيب أنه قد أفتى عموم المشايخ في السعودية بتحريم قيادة المرأة للسيارة، فقد أصدرت هيئة كبار العلماء فتاوى عديدة بالتحريم، تحت رئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز، كما أفتى بذلك الشيخ صالح الفوزان، ومحمد بن عثيمين!

وهو حكم فقهي عجيب، لا سند له ولا أصل من العقل أو الكتاب أو السنة! 

وفي  26 سبتمبر 2017 أصدر الملك سلمان بيانًا بالسماح للمرأة السعودية بالقيادة. وبمجرد صدور البيان، أيدت هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية قرار الملك سلمان، فأصبح الحرام بالأمس حلالًا اليوم فجأة بقرار سياسي!

مثال (2): أركان الإيمان عند الأمويين

في عهد الأمويين كانوا يأخذون الجزية حتى ممن أسلموا، ليزيدوا خراج الدولة! حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأوقف هذا الجور، وأعلن أن الله إنما بعث محمدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا.

وبعد عهد عمر بن عبد العزيز اشتكى الولاة من قلة المال المجموع بسبب إسقاط الجزية عن الذين أسلموا من الترك وغيرهم في خراسان، وزعموا أن الناس إنما دخلت في دين الله أفواجًا هربًا من الجزية، وشككوا في إسلامهم!

وسنة 110هـ وضع الأمويون شروطًا للإسلام الصحيح التي يجب أن تتوفر في المسلمين الجدد حتى تعترف الدولة بإسلامهم، ومن هذه الشروط:

  • الاختتان: والذين أسلموا لم يكونوا أطفالًا أو صبية حتى يسهل عليهم الاختتان!
  • إقامة الفرائض: والإقامة تتطلب مستوى أرفع من الأداء، فأداء الصلاة لا يكفي!
  • وحسن الإسلام: وهو شرط غير محدد، يقرره الوالي طبقًا لهواه!
  • وقراءة سورة من القرآن: والقوم لم يكونو عربًا، بل كانوا من الترك، فكان من الصعب عليهم قراءة سورة من القرآن بالعربية!

وقد كتب عامل الخراج في خراسان إلى واليها (أشرس): “ماذا نصنع والناس قد أسلموا وبنوا المساجد؟”

فأجابه الوالي: “خذوا الخراج ممن كنتم تأخذونه منه”.

وهنا انفجرت الثورة ضد الأمويين، ففي إقليم (السغد) خرج سبعة آلاف من المسلمين الجدد، وانضم إليهم عدد كبير من القراء والعلماء.

وتكررت ثورتهم في (بخارى)، فتجمعوا في الجامع يصيحون: “لا إله إلا الله، محمد رسول الله، يا محمداه”(20).

وهنا لم يكتفِ المستبد بفرض رأيه على الدين، بل جعل الدين كله في جيبه، وجعل نفسه حكمًا ومقياسًا للدين الصحيح والباطل! هو واضع للدين! وجعل أحد أركان الإيمان عنده: الاختتان! 

إن هذا التحريف والتجريف جعل دين الله العظيم ألعوبة وأضحوكة! 

سادسًا: تحريم الخروج على الحاكم

حتى تكتمل الترسانة الدينية الدفاعية التي يشكلها رجال الدين حول الحاكم يجب أن يأمِّنوا الحاكم من كل ثورة ضده، أو اعتراض عليه، أو ذم يمسه، لذا وضع علماء السلطان حزمة من الأحاديث والقواعد لتصبح درع السلطان ضد معارضيه، وتصبح مسوغًا وتقنينًا للتخلص من المعارضين، من هذه القواعد:

– “السلطان ظل الله في الأرض”(21)!

– “الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن”!

– “إمامٌ ظلوم خير من فتنة تدوم”!

– “كما تكونوا يُولَّى عليكم”(22)!

وخالد القسري، أحد ولاة الأمويين، يجسد فكرة أن الخليفة ظل الله على الأرض، وقضاء الله الذي لا يُرد، فقد قتل أحد عُمَّاله رجلًا، وطالبه الناس بالقود/ القصاص، فقال: واللّه لئن أَقَدْتُ من عاملي لأقيدنَّ من نفسي، ولئن أَقَدْتُ من نفسي ليقيدن أمير المؤمنين من نفسه، ولئن أقاد أمير المؤمنين من نفسه، ليقيدنّ رسول اللّه من نفسه، ولئن أقاد رسول اللّه من نفسه .. هاه هاه(23)! 

فهو يرى أن الله اختار رسوله، والرسول اختار خليفته، والخليفة اختاره وليًا، وهو اختار عُمَّاله، فالاعتراض على عُمَّاله يعني الاعتراض على الوالي، ومن ثم الخليفة، ومن ثم النبي، ومن ثم الله!

ولم تنجو المسيحية من هذا الاستغلال، فقال القديس بولس: “من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله”(24)!

سابعًا: الدين متهم بالتخلف

بعد أن حرَّف المستبدون هذا الدين وشوَّهوا معالمه، فبات يدعو إلى السلبية، والانعزالية، والرضا بالظلم، ويؤمن بالخرافة، ويدافع عن الجبرية، ويشجع على الفقر، ويبرر الجرائم، وينقاض خلف كل مستبد، وبذلك تكوَّن دين مغشوش ومُزيَّف، أفيون للشعوب، وأداة لاستسلام القطيع، دين مائع يُساق حسب الهوى.

وبذلك وضعوا الدين في قفص الاتهام، ثم كال له البعض الاتهامات بأن الدين هو سبب تخلفنا، ومصدر الرجعية، وعنوان للفشل!

وينقل محمد حسنين هيكل حوارًا بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس الباكستاني أيوب خان، فسأل أيوب خان عن سبب تخلف الشعوب الإسلامية. 

فرد عبد الناصر: التخلف له أسبابه من سوء توزيع الثروات، وسوء استغلال الموارد، ونهب استعماري دام عشرات السنين.

لكن الرئيس الباكستاني عاد يسأل: لماذا الشعوب الإسلامية بوجه أخص؟ وأضاف: هناك خطأ ما عند المسلمين، خطأ في الإسلام ذاته، خطأ في الكتاب(25).

وكمال أتاتورك أحد أبرز المؤمنين بهذه الفكرة، واعتبر أن نهضة تركيا لن تكتمل إلا بمحو كل مظهر إسلامي، حتى إلغاء الآذان واللغة العربية ومنصب المفتي!

وقال (مونتسكيو): “الحكومة المستبدة أكثر ملاءمة للإسلام”(26)!

ودعني هنا أتحفظ لساني وأضبط قلمي وأتجرأ لأقول: إن الدين (بهذا التحريف) هو فعلًا أفيون الشعوب، إن الدين (الذي ينتقيه المستبدون) هو اختراع وأداة الحكام للسيطرة على شعوبهم، إن هذا الدين (المزور) ليس إسلامًا وتسليمًا لله، بل هو استسلام وتذلل إلى الحكام والمستبدين. وبالتالي فهذا الدين ليس إسلام القرآن، ليس إسلام محمد، بل هو إسلام مغشوش، وهو فعلًا سبب تخلفنا وتراجعنا، وعلينا أن نكفر به ونلعن واضعه لنعود إلى الإسلام الحق الذي أنزله الله على رسوله، القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، الدين الحق الذي هو ثورة على الظالمين واللصوص والمضطهِدين، الدين المنطقي والأخلاقي والمصلحي.

يقول القرضاوي: “إذا أُريد بالدين: الدين الخرافي الذي يقوم على الجبرية في العقيدة، والشكلية في العبادة، والسلبية في الأخلاق، والجمود في الفكر، والتقليد في الفقه، والنفاق في السياسة، مثل هذا الدين لا يمكن أن يسبِّب تقدم المسلمين، الدين الذي يُعلِّم أصحابه: دع الخلق للخالق، واترك الملك للمالك، ويرى الفساد والظلم ويقول: أقام العباد فيما أراد. الدين الذي يُعلِّم الناس التواكل وإهمال السنن الكونية، لا يمكن أن يقوم عليه تقدُّم”(27). 

وصدق عبد الله بن المبارك حين قال: “وهل أفسد الدين إلا الملوك”؟!

المصادر:

1. (حيونة الإنسان) ص155

2. (طبائع الاستبداد) ص34

3. (المعتزلة) ص42 نقله عن (الخطط) ج4 ص181

4. (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) ص143

5. (ضحى الإسلام) ص747 

6.  

7. (الإسلام المفترى عليه) ص55

8. (مقدمة قصيرة عن الثورة الفرنسية) ص47

9. (المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية) ص156

10. (تاريخ الخلفاء) ص184

11. (منهاج السنة) ج6 ص430

12. (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان) ص615، نقله عن (شرح العقيدة الطحاوية) ص430

13. (الاستبداد مظاهره ومواجهته) ص363، نقله عن (تطور الفكر السياسي السني نحو خلافة ديمقراطية) ص19

14. (الطاغية) ص140

15. (الطاغية) ص145

16. (التجليات الروحية في الإسلام) ص462

17. (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي) ص818

18. السعودية تحظر باربي، الدستور  http://bit.ly/2Sossgf 

19. (مجموع فتاوى ابن تيمية) ج1 ص98 

20. (الإسلام والثورة) ص222-226، (تاريخ الطبري) ج7 ص55

21. نُسب هذا القول للنبي، وفي سنده سعيد بن سنان، وهو متروك. وحكم عليه الدارقطني بالوضع. وقال عنه البخاري: منكر. (أسئلة الثورة) ص149

22. نُسب هذا القول للنبي، لكن رواه اليبهقي مرسلًا، وضعَّفه ابن حجر والألباني. (أسئلة الثورة) ص153 

23. (الأغاني) ج22 ص14

24. (الرسالة إلى أهل رومية)، نقله (الديمقراطية والوعي السياسي) ص48

25. (القرآن والسلطان) ص14

26. (روح الشرائع) ج2 ص178

27.

إعلان

اترك تعليقا