أميتاف غوش: عن أكاذيب التاريخ ومحاربة الطبيعة (مترجم)
“بين إرينرايك” يحاور “أميتاف غوش” مؤلِف كتاب (لعنة جوزة الطيب)
عند قراءتي أعمال “أميتاف غوش” في السنوات القليلة الماضية، شعرت بالعرفان ودُهشت لوجودِ شخصٍ _أكثرُ ذكاءً واضطلاعًا مني_ يطارد نفس الأشباح التي أطاردها، باحثًا عن بداياتِ الأزمة المناخية والانقراضات الجماعية في كوكبنا، ليجدها مختبئةً في ضوء النهار: عند تقاطعات الغزو الاستعماريّ والاستخراج الرأسماليّ لثروات البلدان, والذي يستمر في تعريف عالمنا إلى اليوم.
كتاب “غوش” الأخير (لعنة جوزة الطيب) عملٌ ذو اتساعٍ وعمقٍ وبراعةٍ، تحادثنا حوله عبر الإيميل، وهذا نص الحوار:
بين إرينرايك: تبدأ معظم تأريخات الأزمة البيئية الحالية من أوروبا، وكثيرًا ما تبدأ في إنجلترا تحديدًا مع انتقالها إلى الصناعات المعتمدة على الفحم. قبل ذلك بـمئتي عام, وعلى الجانب الآخر من الكوكب, يستهل (لعنة جوزة الطيب) بإبادة جماعية في مستوطنة تابعة لشركة الهند الشرقية في جزر باندا (تجمع جزر قرب اندونيسيا). ما أهمية هذا التحول؟
أميتاف غوش: هذه السرديات مضللة؛ فكما بيّنت “بريا ساتيا” في كتابها (امبراطورية الأسلحة)، كان النمو الهائل لصناعة السلاح الإنجليزية هو سبب الابتكارات التي قادت إلى الثورة الصناعية. ويمكن إرجاع نمو صناعة السلاح في إنجلترا إلى حروبها الاستعمارية في أيرلندا وأمريكا وآسيا, وبهذا المعنى فإن الثورة الصناعية نفسها نتاجٌ للاستعمار الأوروبي. العنف والوحشية الاستثنائيان للغزو الأوروبي للأمريكيتين هو ما سمح للأوروبيين بالتفكير في الطبيعة باعتبارها حزمة من “موارد خاملة” وُجدت _حصرًا_ ليستخرجها الغزاة وينتفعون بها.
بين: هذا تمييزٌ مفيدٌ للغاية؛ فالعنف والاستغلال سبقا التأسيسات الأيديولوجية التي ستبررهما وتحافظ عليهما إلى اليوم.
أميتاف: برأيي أن تصور الأرض كمخزن خاملٍ من الموارد التي وجِدَت أساساً ليستغلها (بعض) البشر؛ يرجع أصله إلى العنف الذي أطلقه الأوروبيون على البشريّ الآخر في الأمريكيتين وإفريقيا. وبالتحديد، فالإخضاع القسريّ لشعوب الأمريكيتين هو ما سمح للنخبة الأوروبية بالتفكير في كل ما على الكوكب باعتباره متاحًا للغزو والاستعباد، بل والإبادة، كما حدث في “جزر باندا”،فمن أجل السيطرة على تجارة منتجات شجرة جوزة الطيب؛ قرر الهولنديون إبادة سكان الجزر واستعباد من تبقى منهم.
في رأيي, يمثل هذا نقطة تحول شديدة الأهمية في التاريخ, ففي المخيلة الغربية، يُضرَب بـ”جنكيز خان” المثل في القسوةِ والوحشية، ولكن “جنكيز خان” لم يبيد سكان مكانٍ ما ليستولي على موارده!, ولم يقضِ على حضاراتٍ مزدهرةٍ كما فعل الأوروبيون في الأمريكيتين. في الواقع، كانَ ونسلُهُ سريعي التأقلم مع ثقافاتِ المناطقِ التي غزوها.
ومع غزو الأمريكيتين, أصبح كل شيء متاحًا فجأةً: الفصائل النباتية, والمعادن, وبالتأكيد: البشر, فتتحول شجرة جوزة الطيب إلى آلةٍ تدرُّ الأرباح ويزرعها المستعمر حيثما أراد، ويصبح البشر الذين رعَوها طوال قرون قابلين للاستبدال كلياً. بهذا المنطق فإن شعوب “جزر باندا” كانت من أوائل من عانى من (لعنة الموارد)، وأزمة العالم اليوم ما هي إلا تجلٍ لهذه اللعنة وانتشارها على مستوى الكوكب.
بين: هل يمكنك أن تتحدث عن نشوء (لعنة جوزة الطيب)؟
أميتاف: الكثير من أفكار الكتاب كانت في ذهني منذ زمنٍ طويل، ولكنها لم تترابط معًا إلا بعد زيارتي لجزر باندا عام 2016م. في ذلك الوقت، لم أكن أعلم أي شيء عمّا حدث حقيقةً في الجزر عام 1621م؛ ولولا سفري إلى هناك لما اطّلعت على ذلك التاريخ. لهذا يمكنك القول أن كتاب (لعنة جوزة الطيب) قد تم تحفيزه عن طريق مكانٍ أو موقعٍ معين: ربما لهذا يتشابه هيكله وشكله مع كتابك (دفاتر الصحراء).
بين: شكرًا! لقد مررت بنفس التجربة في أثناء قراءتي عملك. عندي سؤال حول العلاقة بين رواياتِك ومقالاتِك الأخيرة، والتي لست متأكدًا كيف عليّ أن أسألها سوى بالإشارة إلى أن (لعنة جوزة الطيب) يعيدُ مَركزةَ تاريخ الحداثة بشكلٍ لا يختلف كثيرًا عمّا فعلَته (ثلاثية الآيبس)؛ أي ليس فقط بتغيير المركز الجغرافي, ولكن بإمعان النظر في العلاقات المعقدة بين التواريخ والأقاليم إلى درجة أن مفهوم “المركز” نفسه (أو الهامش) يبدو مثيرًا للتعجب!.
أميتاف غوش: نعم، (ثلاثية الآيبس) غيّرت طُرق تفكيري بالعالم تمامًا. كانت لديّ دائمًا نظرة متشككة في السرديات التاريخية التقليدية، ولكن فقط بعدما بدأت البحث حول (الثلاثية) أدركتُ أن أكثر ما نتعلمه عن تاريخ العالم مكوّن من أنصافِ حقائق وأكاذيب. بالتأكيد، لاحظَ “إمانويل وولرستاين” من قبل أن (95% من كل تاريخ العالم المكتوب قبل عام 1945م ينتمي إلى خمسة شعوب تاريخية: بريطانيا العظمى وفرنسا والولايات المتحدة, والألمان والطليان). تلك كانت الدول التي تعتبر مراكز ديناميكية لتاريخ العالم ومحركات الاقتصاد العالمي.
ولكن الكثير من رأس المال الذي توفّر لتحويل بريطانيا والولايات المتحدة إلى مجتمعات صناعية جاءَ من مخدر (الأفيون) الذي زُرِعَ أساساً بوساطة الراج البريطاني (British Raj) في الهند. وعلى مدار القرن التاسع عشر كان الأفيون السلعة الأكثر قيمة، وفي عام 1839م دخلت بريطانيا في حربٍ مع الصين لتجبرها على استيراده. اعتُبرت حروب الأفيون في الغرب أحداثًا هامشيةً، في حين كانت أحداثها نقاط تحولٍ في تاريخ الصين. وبينما تصبح الصين الآن أكثر مركزية في الأحداث الدولية مما مضى؛ يبدو أن كونهم كانوا على صواب أمرٌ يزدادُ وضوحًا: بالنسبة إلى موقعنا في الحاضر فإن لحرب الأفيون الأولى نفس القدر من تأثير الثورة الفرنسية.
(ثلاثية الآيبس) عن هذا التاريخ بالضبط. وبينما كنت أكتب الثلاثية فكرتُ في ماهية الفاعلية (Agency) لدى المواد النباتية كالأفيون, وهذه فكرة أناقشها في (لعنة جوزة الطيب), لم يكتب البشر التاريخ بقدر ما تمنوا، ولا حتى أقواهم!.
بين: إن التصوّر التنويري عن التاريخ مبنيّ على إقصاء كل ما هو غير بشري، إقصاء كل ما يعدّ من (الطبيعة)، وهذا كان أحد الأسباب التي سحرتني في تطبيقك مفهوم الخيال العلمي “إعادة التحويل الأرضي” (terraforming) على تاريخ الاستعمار، وبالأخص على التدخلات البيئية المفروضة من المستعمِرين لإعادة تشكيل المستوطنة على الطراز الأوروبي. هذا _كما تطرحه_ يجب أن يفهم كشكلٍ من أشكال الحرب، والذي يقع في قلب الأزمةِ الكوكبيةِ الحالية.
أميتاف غوش: بكَونِ كلمة (terraforming) “إعادة التحويل الأرضي” آتية من الخيال العلمي وتُعرّف بالإشارة إلى الكواكب الأخرى؛ فهذا يحكي شيئًا مهمًا. لأن تحويل المواقع المستعمَرة (وهو بالضبط ما يفهم من عبارة “التحويل الأرضي”) هو بالتأكيد أحد أهم أبعاد الاستعمار الاستيطاني.
تبنى المستعمرون الإنجليز منذ القرن السابع عشر هذه المهمة علنًا: أرادوا أن يعيدوا خلق “إنجلترا جديدة” على صورة إنجلترا. تطلّب الأمر إعادة تكوين كاملٍ للبيئة، وجزءٌ منها تمَّ عبر تدخلات بشرية واضحة مثل بناء السدود وإزالة الغابات. ولكن معظم عمليات التكوين هذه أُنجزت عبر نشر عوامل وكيانات غير بشرية، مثل الماشية والجراثيم، والتي اعتبرت منتمية إلى نطاقٍ آخر هو (الطبيعة). عَلِمَ المستوطنون تمام العلم أنهم كانوا “يعدّلون” فيما أسموه الطبيعة، لكنهم تمسكوا بالفكرة المغرورة القائلة أن الطبيعة مجالٌ يتّبع قوانينه الخاصة ولا يتأثر بالتدخل البشري. ومكنّهم هذا من التنصل من مسؤوليتهم عن التحولات البيئية التي نجمت عن مواشيهم أو الأمراض التي نشروها. لقد خدم المستعمرين تصور الطبيعة كأداة لـ”إدارة الضمير” (مستعيراً تعبير “برييا ساتيا”). لم ينطلِ الأمر على السكان الأصليين، ولكن بالنسبة إلى المستعمرين كانت (الطبيعة) كنطاقٍ منفصلٍ تمامًا عن النطاق البشري فكرةً شديدة الأهمية.
لهذا، كما أعتقد، لم يتحدد مفهوم “إعادة التحويل الأرضي” حتى منتصف القرن العشرين، وتبلور خلال ذلك في العلاقة مع الكواكب الأخرى, رغم أن التحويل الأرضي كان مُمَارساً منذ قرون هنا على الأرض، ولكن كان يجب على هذا المفهوم أن يُقمَع طويلاً من أجل الحفاظ على فكرة (الطبيعة كأداةٍ لإدارة الضمير)، ونجحَ هذا القمع في تحقيق غرضه. ليس صدفةً أن إنكار التغيّر المناخي منتشر بشكلٍ أوسع في بلدان المستعمرات البريطانية. واليوم يتنصلُ المنكِرون من مسؤوليتهم عن التحولات المناخية بنفس الأسلوب الذي تنكّر به أسلافهم وتنصّلوا.
بين: أوحيتَ عدة مرات في الكتاب أن بحلول التغير المناخي وجائحة كوفيد-19 فإننا نرى الأرض تعمل بفعالية وحيوية، هل هذا مجاز أم أنك تأخذ الفكرة إلى أبعد من ذلك؟
أميتاف غوش: إليك مجازًا آخراً. حين يكون الفيل جالسًا أو نائمًا، يمكن لإنسان أن يأتي ويهمزهُ برمح في جانبه ثم يهرب، على الأقل لبعض الوقت؛ لأن الفيل كبير الحجم ويحتاج بعض الوقت ليستجيب. على المقياس الجيولوجي؛ فالمدة بين همزِ الفيل واستجابته ستكون _بطبيعة الحال_ أطول وقد تمتد إلى قرون. وهذا شديد الشبه بما نراه الآن: الفيل يطاردنا ونحن لا يمكننا الهرب بالسرعة الكافية!.
إنني شديد التأثر بالشباب وبالحركات الناشطة المتعددة التي تتوسع حول العالم الآن. تُدينُ هذه الصحوة بالكثير لأولئك الذين ذاقوا الويلات على يد الاستعمار الأوروبي: سكان البلدان الأصليون والسود. إن مشاهدة مدى التأثير الذي أحدثته حركة “الصخرة الثابتة” (Standing Rock) على سبيل المثال؛ يثلج الصدر.
وما يثلج صدري بالأخص أن مثل هذه الحركات ليست سياسية بمعنىً ضيق؛ وإنما تدعو إلى أساليب تعامل وتفكير بديلة عن علاقة البشرية مع الأرض. هم يرون العالم (الطبيعي) ممتلئاً بالحيوية والفعالية، وهذا أمرٌ مشجعٌ للغاية.