البلوغ والجنس في الدين والمجتمع
البلوغ والتكليف يرتبطان دينيًا بظهور بوادر الوعي الجنسي عند الإنسان، قد لا يكون هذا عند كل الأديان ولكنه من المسلمات في الفقه الإسلامي، فقد وضع الفقهاء عدة دلائل وعلامات يدل ظهورها عند الإنسان على بلوغه، ويقصد بالبلوغ أن يصل المرء إلى سن يصبح فيها محاسبًا على أفعاله ومستحقًا للعقوبة إذا أخطأ، ما يعني أنه أصبح قادرًا على التمييز بين الخير والشر وعندها يتم تكليفه بأداء العبادات، وإذا كان البلوغ هو مفهوم يدل على المستوى الأدنى من الوعي والإدراك لدى الإنسان الذي يجعله مكتمل العقل وبالتالي مسوؤلًا عن كل أفعاله، إلا أن الملاحظ أن علامات البلوغ عند الفقهاء لا تعكس هذا التعريف بحذافيره، فالشعر النابت مثلًا في أجزاء من الجسم ليس موشرًا على اكتمال العقل أو على الأهلية والمقدرة على تحمل المسؤولية، وذلك بعكس علامات البلوغ الأكثر تحديدًا من ناحية جنسية كالدورة الشهرية – الحيض– وخروج السوائل – في أثناء النوم أو غيره- فهي علامات أكثر دقة في التدليل على إدراك الإنسان واستيعابه لمعنى العملية الجنسية.
إذن فإن العلامة الوحيدة التي تقوم دليلًا ملموسًا على اكتساب الطفل لمعرفة وإدراك يبلغان مستوى الكبار هي علامة لا تدل إلا على الإدراك الجنسي فقط، ولا يمكنها أن تعطي مؤشرات على أن الطفل بدأ يدرك مفرداتٍ أخلاقيةً تقع خارج دائرة الجنس كالغش والخيانة والاحتكار والنفاق والغطرسة وغيرها، ومن ذلك نخرج بنتيجة مفادها بأن العقل الديني- متمثلًا في الناطقين باسمه وشارحي نصوص الدين- يختزل البلوغ ويضيق من مفهومه في مجرد اكتمال الإدراك الجنسي، أي أن البلوغ في تصور العقل الديني هو انتقال الإنسان من طور الجهل الجنسي إلى طور الوعي الجنسي، وبطبيعة الحال فلا يمكن اختزال تعريف البلوغ عند العقل الديني في مجرد العامل الجنسي فقط، إلا أن هذا العامل بلا شك يشكل أساسًا ومحورًا لهذا التعريف.
إن هذه الحقيقة لا تضرب بجذورها إلى عصر نشأة وتكون الدين فقط، بل تتعدى ذلك إلى عصرٍ شهدت فيه البشرية تبلور النظرة إلى الجنس باعتباره خطيئة وفعلًا مخزيًا يجب ممارسته في الخفاء ضمن قيود اجتماعية محددة كالزواج أو العبودية، والسؤال الذي يجب أن نوجهه شطر المختصين الأنثروبولوجيين هو عن مراحل التطور التاريخي لوعي الجنس البشري البدائي والمرحلة التي بدأ فيها يلقي نظرة تحقيرية إلى العملية الجنسية ويقوم بتأثيمها خوفًا من نتائجها في تقويض أساس المجتمع، يقول نيتشه بأن العلاقات الجنسية كانت تعتبر امتيازًا وحرمًا خاصًا بالكهول ينبغي أن يظل بعيدًا عن أنظار الشباب حرصًا على صيانة ذلك الامتياز. ولكن الأرجح والغالب أن إبعاد صغار السن عن العلاقات الجنسية كان لدواعٍ سيكولوجية واجتماعية بحتة تتعلق كما يرى فرويد بالتخلي عن المشاعية الجنسية لأجل ضمان تكون عوائل قوية ومتماسكة.
إن البلوغ دينيًا يرتبط بالإدراك الجنسي يليه الوعي الجنسي، وذلك باعتبار أن إدراك الطفل للجنس مرحلة أولى يليها تفكر في الجنس وتعقل له وهذه هي مرحلة الوعي بالجنس، و هذا الارتباط بين البلوغ والوعي الجنسي منشأه عُرْفي اجتماعي في الغالب قبل أن يأتي الدين ليؤكده ويسبغ عليه مشروعيته، فمفهوم البلوغ هو اجتماعي قبل أن يكون دينيًا وهذا يحيلنا إلى نظرية إميل دوركايم في أن العقل الجمعي هو مولد أو لنقل مؤثر كبير على العقائد الدينية، بمعنى أن التصورات المجتمعية كثيرًا ما يتم نقلها إلى مستوى أعلى عن طريق إلصاقها بالدين، والغالب أن هذا هو ما حصل لمفهوم البلوغ باعتباره خطًا فاصلًا يؤدي عبوره إلى دخول حَرَم “التفكير الواعي للعملية الجنسية” عند الإنسان، ولذلك فتحليل وجهة نظر دين ما بخصوص هذا الموضوع لا يمكنه إغفال هذا التشابك بين الديني و الاجتماعي.
إن هذا التشابك والتداخل يضرب بجذوره إلى جذور نشأة الدين و تنزل الوحي وهو ما يزال فاعلًا في شتى العصور اللاحقة، لذلك فإن الحفريات المعرفية في المفاهيم والسلوكيات التي تنسب إلى أحد المجالين يجب ألا يغفل هذا التأثير والتأثر المتبادل بينهما.
وبالعودة إلى العقل الديني المنبثق عن العقل الجمعي وإلى إجماع المفكرين الدينين على التلازم بين البلوغ والجنس – وهو إجماع كما نرى ليس خالصًا من شوائب التأثر بالسابقين وتقليدهم- نجد بأن إشكالًا كبيرًا ينتج من عدم التفريق بين عمومية مفهوم البلوغ وخصوصية مفهوم الجنس، فالبلوغ مصطلح عامٌ جدًا يشير إلى إدراك الإنسان البالغ للصواب والخطأ وتَحمُّله لمسؤوليات جميع أفعاله – وليس الجنسية منها فقط- و يفترض معرفته بجميع الواجبات الأخلاقية، كما ويتوجب عليه أداء الواجبات الدينية من عبادات و شعائر، أما الوعي الجنسي فهو ذو دلالةٍ خاصة ومحصورة كما يدل اسمه ولا يمكن القول بشموليته لمختلف الإلزامات الأخلاقية من خارج دائرة الجنس، وما يؤكد ذلك أن العمر الذي تظهر فيه علامات الإدراك الجنسي ليس واحدًا عند جميع الناس، بل هم متفاوتون في ذلك وظهوره مبكرًا عند طفلٍ ما لا يعني اكتمال الإدراك الأخلاقي لديه، كما أن تأخره عند مراهقٍ آخر لا يعفيه مما وصل إليه وعيه من معرفة أخلاقية.
و ختامًا فإن فك الارتباط بين البلوغ كطور معرفي في مسيرة تكوّن الإنسان الأخلاقي من جهة والوعي الجنسي من جهة أخرى سوف يتركنا نواجه سؤالًا شائكًا يتعلق بمعايير ومحددات البلوغ، والإجابة العملية نجدها في القوانين الحديثة التي صاغها الإنسان بنفسه وذلك بعد أن اجتازت البشرية مرحلة بلوغها وأصبحت مهيأةً أكثر لأخذ زمام التفكير المستقل بعيدًا عن وصاية المنظومات الفكرية التي تنسب القداسة لنفسها، فهذه القوانين وضعت سنًا للبلوغ يلي اكتمال نموه الجسدي وتحصّله على المقدار الأدنى من التعليم المدرسي الذي يفرضه القانون، هذا السن – الثامنة عشر أو السابعة عشر- يأتي بعد خبرة عمر كافية لا يرقى إليها شكٌ في نضج واكتمال الوعي العام لدى الفرد وضمان تمييزه بين الصواب والخطأ في البديهيات الأخلاقية بشكل عام.