إميل دوركهايم والتأسيس السوسيولوجي للحداثة

إنَّ فكرة المجتمع الحديث في السوسيولوجيا الدوركهايمية، تقوم على اقتناع صاحب “في تقسيم العمل الإجتماعي” مثله مثل كلّ مؤسسي الفكر السوسيولوجي خاصة كارل ماركس وأوغست كونت؛ بأن المجتمعات الغربية بشكل عام تعيش مرحلة انتقالية بين نموذجين من الوجود الإجتماعي، يختلف كل واحد منهما عن الآخر بشكل كليّ.

ورغم اختلاف تقدير دوركهايم للمجتمع الحديث، مقارنة مع باقي مؤسسي الفكر السوسيولوجي وخاصة كونت وماركس. فإن أهم ما يميز مقاربته للحداثة هو المكانة التي منحها لتقسيم العمل، باعتباره مصدراً مهماً ومركزياً في تحليل التمايز البنيوي داخل المجتمعات الحديثة.

إنَّ أهم ما يميز تصور إميل دوركهايم لمفهوم تقسيم العمل، هو تجاوزه للمنطق الاقتصادي الضيق في تحليل هذه الظاهرة، إذ يعلن منذ البداية أن تقسيم العمل الإجتماعي بالمعنى الذي يستعمل به هذا المفهوم يتجاوز المجال الصناعي والمنطق الاقتصادي؛ لأنه فعل يمس كل عناصر الحياة الإجتماعية، ولا يقف عند حدود العمل الصناعي أو ينتهي عنده، إلى درجة يسهل معها ملاحظة هذه الظاهرة في كل مجالات الحياة الإجتماعية وعبر كل مستوياتها، وتنتهي كل أشكال التقسيم الإجتماعي للعمل في نظر دوركهايم إلى نموذجين؛ أول متمايز حديث، يقوم على ما يسميه بالتضامن العضوي، لأنه يتشكل من نسق من الأعضاء والوظائف المختلفة، حيث يقوم كل فرد أو عضو منها بدور محدد، وثانٍ غير متمايز أو متمايز بشكل ضعيف، يتأسس على تكرار عناصر متشابهة ومتجانسة تقوم بنفس الفعل، ويطلق عليه دوركهايم بالمجتمع ذي التضامن الآلي.

إن اهتمام دوركهايم بتقسيم العمل الإجتماعي، لم يكن في الحقيقة، وفق دراسة أجراها الباحث المغربي زكريا الإبراهيمي بعنوان “إميل دوركهايم والتأسيس السوسيولوجي للحداثة” ونشرت على موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث في قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، إلا من أجل البحث عن وضع الفرد ومكانته داخل النظام الإجتماعي، وموقعه في صيرورة تطور المجتمع وتمايز بنياته ومؤسساته، بالإضافة إلى نتائج هذا الوضع وانعكاساته على النظام الاجتماعي بشكل عام، قبل الأفعال والعلاقات التي تتم بين الأفراد.

غير أنَّ أهم خلاصة يمكن الانتهاء إليها في هذا الإطار، والتي قد تبدو غريبة عن القراءة الإبستمولوجية للمتن الدوركهايمي، هو المكانة المهمة التي يمنحها دوركهايم للفرد في النظام الاجتماعي كلما تعاظم تقسيم العمل وتنامى..إن المجتمع الحديث، أو المجتمعات المتقدمة لا تختلف في نظر دوركهايم عن الشعوب البدائية، إلا من خلال هامش الحرية الذي تتيحه المجتمعات الأولى أمام الفرد مقارنة مع الثانية، وهذا ما ينسجم في الحقيقة مع كثير من الأطروحات السوسيولوجية المعاصرة للحداثة.

إعلان

وتشير الدراسة إلى أنَّ أهم خطر يواجه المجتمع الحديث من حيث هو مجتمع متمايز بنيويًا ووظيفيًا، هو غياب التوافق الذي لطالما اعتبره دوركهايم عصب الحياة الاجتماعية، والبنية التي لا يمكن أن يكون المجتمع موجوداً إلا بحضورها، وهو الأمر الذي انتبه إليه في الحقيقة بالرجوع إلى ما يمكن تسميته بآليات الاندماج التي يمكن أن يجدها الفرد أمامه لتجاوز حالة الفوضى هذه التي تنتج، أو يمكن أن تنتج عن تنوع الخطابات الاجتماعية وتتعدد المرجعيات الثقافية التي يتشكل منها المجتمع الحديث، وهي لا تخرج في الواقع عن بنيتين اثنتين هما التربية والدين، يتم من خلال الأولى تأهيل الفرد اجتماعيًا، وتحقيق نوع من الإجماع عن طريق الثانية.

إنَّ قيمة الأطروحة الدوركهايمية في الدين، متضمنة كما هو معلوم في مستويات كثيرة من مقاربته للظواهر الدينية، لكننا نعتقد أن أهم ما قدمه دوركهايم بهذا الخصوص، لاسيما في الأشكال الأولية للحياة الدينية، وفي كثير من النصوص التي كتبها دوركهايم قبل وبعد هذا النص، فكرتين أساسيتين تتجهان معاً نحو إمكانية إقصاء الدين من المجال الاجتماعي والفضاء العمومي بشكل عام، أو على الأقل تضييق هامش ومجال فعله في هذا الفضاء، أما الأولى، فهي أنَّ فكرة الدين لا تقوم دائمًا على وجود فكرة الله، أو فوق الطبيعي إذ توجد الكثير من الديانات التي لا وجود فيها لفكرة الله، بل وحتى عندما توجد فإن هذه الأخيرة، لا تلعب دورًا مركزيا في ترتيب وتدبير الحياة الدينية والاجتماعية للأفراد، فهي أشبه ما تكون كما يقول دوركهايم بديانات إلحادية: “توجد الكثير من الديانات تغيب فيها فكرة الله والأرواح، أو على الأقل لا تلعب فيها إلا دوراً ثانويا غير مرئي” . أما الفكرة الثانية، فتتأسَّس على أنَّ الديانات التي تتضمَّن فكرة الله، هي نفسها ديانات لا يقدّم فيها الله بشكل واحد ووحيد؛ لأن هذا الأخير يتم إنتاجه اجتماعيًا، وبالتالي فهو يختلف باختلاف المجتمعات الإنسانية:

تعتبر الآلهة كائنات أقوى من الإنسان، لكنها تشبهه، وتعيش معه في المجتمع، إنَّ الرابط الديني الذي يجمع بين الإنسان والكائنات الفوقية سيكون إذن رابطاً اجتماعياً، إنَّ الناس والآلهة إذًا قريبة من بعضها البعض، إنها تمسّ بعضها باستمرار، وتؤثِّر كل واحدة في الأخرى، إن الدين إذاً، هو مجموع القوانين التي تنظم هذه الأفعال وردود الأفعال الاجتماعية

إن اختلاف النماذج والبنيات الاجتماعية، وتاريخ المجتمعات يجعل من الله كائنا مختلفاً كلما انتقلنا من مجتمع نحو الآخر، إلا وكنا أمام تمثل مغاير لله، فهو كائن متعالٍ أحياناً يوجد ويعيش في مكان غير ذلك الذي يحيا فيه الأفراد، ومحايث مرة أخرى يوجد في أي مكان يعيش فيه، وفي كلّ فعل يقوم به الأفراد

يتضمن مجتمع الآلهة كل موضوعات الطبيعة، الحيوانات، النباتات، المياه، أي كل الأشياء التي يتواصل معها الإنسان باستمرار دون أن يحس بأي تمييز بين الروح والجسد، بين النفس والمادة

ويتابع الباحث أنَّ الله باعتباره الفكرة المركزية التي تقوم عليها الحياة الدينية لعدد كبير من المجتمعات الإنسانية، لا يعدو أن يكون ظاهرة اجتماعية يصنعها المجتمع لأنه يحتاج إليها من أجل تدبير الكثير من الأفعال والمشكلات التي تنشأ بين الأفراد، كما أنَّ فكرة الله بدورها تحتاج إلى المجتمع، لأنه لا يمكن على الإطلاق وجود الله كما يرى دوركهايم إلا بوجود المجتمع.

تخفي بساطة هذه الفكرة ووضوحها، وفق الدراسة، عمق العمل الدوركهايمي في نقد المجتمعات التقليدية، وتفكيك بنية المجتمع، حيث لا يلعب الدين فقط دوراً هامشيا في الحياة الاجتماعية، وإنما حيث تنمو وتتعاظم الدعوات لإقصائه من المجال العمومي، وعلمنة الفضاء العام في كل مستوياته، وتخليص الأخلاق من طابعها الديني، في إطار ما يمكن أن نسميه مع دوركهايم الأسس اللائكية أو اللادينية للأخلاق.

يتلخص ما نسميه عمق العمل الذي قام به دوركهايم في هذا الإطار في ثلاثة مستويات كبرى، يفضح كل واحد منها عند مستوى معين تهافت الحاجة إلى الدين وانحسار مكانته في مجتمعات الحداثة، أما أول هذه العناصر وأكثرها قوة، بل إثارة للجدل حتى، فهو اعتبار دوركهايم أن الدين والظواهر الدينية بكل أنواعها، لا تعدو أن تكون مظهراً من مظاهر كثيرة لثنائية المقدس والدنيوي التي تخترق كل البنيات الاجتماعية، وتوجد في جميع النماذج المجتمعية التي عرفتها وتعرفها الإنسانية إلى حدود اليوم، ولأن الدين والظواهر التي يتشكل منها أو تنتجه لا تعكس إلا طبيعة المجتمع الذي توجد فيه، فإن دوركهايم يصر وهذا ما يعطي طابع الجِدّة والفرادة لأطروحته على أن الدين، باعتباره صورة للمقدّس وتعبيرًا رمزيًا عن الحياة الواقعية للأفراد، لا يعدو أن يكون امتدادًا للدنيوي الذي يؤسِّسه ويقوم عليه.

إنَّ الفكرة الثالثة التي تبين أصالة تفكير دوركهايم في المسألة الدينية، وتكشف بوضوح جلي موقع الدين في المشروع الفكري لدوركهايم، وفي المجتمع الحديث كما يتخيله هذا الأخير، تكمن، بحسب الدراسة، في إيمانه الكبير في انسحاب الدين من الحياة الاجتماعية، وغيابه سواء كسجل تفسيري للواقع والعالم بشكل عام، أو كمرجع للقيم الأخلاقية والاجتماعية…إلخ، لأن الدين الحقيقي في المستقبل هو اللادين.

 

إعلان

اترك تعليقا