نقد مفهوم الطبيعة البشرية عند ماركس (1)
هناك علاقة ملتبسة على الدوام بين مفهوم الطبيعة البشرية وكافة حقول الفلسفة، فكيما نؤسس أي نظرية في المعرفة علينا أن نحدد أولًا الفارق بين ما يمكن اعتباره علمًا حقيقيًا وعلمًا زائفًا، وهذا بدوره يدفع للجدال حول ما هو ذاتي وما هو موضوعي، وإذا كان الذاتي لا يفتأ يعبر عن ما يمكن أن نسميه بالطبيعة البشرية، وإذا تخلصنا من المفهوم المثالي عن الذات باعتبارها كيانًا مجردًا، وتحدثنا عن الذات باعتبارها العقل، بكل ما تحمله كلمة العقل من مردودات خاصة بالمعرفة والإدراك واللاوعي أيضًا، خاصة إذا نظرنا إلى هذا العقل كبنية مادية جامعة لكل هذه الأشياء نسميها بيولوجيًا بالمخ، أي أننا سنساوي بين هذه المدلولات الثلاثة (الذات والعقل والطبيعة البشرية) وبينما نحن نعلم أيضًا أن الإنسان يعرف العالم من خلال عقله، فإن ذلك لابد وأن يدخلنا بدوره في إطار تحديد ما هو العقل أي ما هو طبيعي وفطري في الإنسان بشكل أو بآخر؟
لذلك كان أمام الفلسفة عدة طرق في هذا الشأن، إما بتجاهل الذاتي تمامًا على اعتبار أن العقل هو نتاج المادة ومبرمج على اكتشافها تلقائيًا فيزول الفارق بالتالي بين الذاتي والموضوعي من خلال نفي فكرة الذاتية في الأساس (أي تحييد فاعلية الطبيعة البشرية)، وإما باللجوء لتحليل ما هو ذاتي من أجل تحديد ما هو ما موضوعي بشكل أكثر دقة حتى لو قاد ذلك إلى إنكار إمكانية الوصول لجواهر الموضوعات وهو ما نجده على سبيل المثال في المثالية الألمانية، وإما باعتماد ما هو ذاتي ومشترك بين البشر باعتباره الطريق الوحيد الذي لانملك سواه لمعرفة العالم وهو ما نجده مثلًا في المنهج الظاهرياتي لدى هوسرل.
وبتناول مفهوم الطبيعة البشرية في الفلسفة الماركسية ومقارنتها بالبرهان الفلسفي المصحوب بهذه الدراسة وببعض النتائج العلمية لعلم النفس الحديث تتكشف لنا عدة نتائج من بينها:
- عمد ماركس إلى استخدام مفهوم الفاعلية الحسية كمبدأ أساسي لتفسير الطبيعة البشرية وهو ما يعني أن الإنسان يدرك العالم من خلال عمله الخارجي (عن الذات) في هذا العالم
- نتيجة لذلك المبدأ بالنسبة لماركس يكون وعي الإنسان ناتجًا عن تفاعل الظرف المادي الخارجي، أي قوى الإنتاج مع العلاقات الاجتماعية القائمة، وهو ما يعني أن الأخلاق والدين والسياسة ما هم إلا نتاج الواقع المادي الخارجي.
- بناءً على ذلك يكون السلوك الاجتماعي كله ناتجًا عن الاقتصاد، والتاريخ كله ما هو إلا تاريخ الاقتصاد، أي أن النظرة الاقتصادية الاختزالية عند ماركس تتولد في الأساس من مفهومه عن الطبيعة البشرية.
- العمارة الماركسية في مجملها هي نتاج لمفهوم ماركس عن الطبيعة البشرية (وهي في الإجمال عبارة عن صفحة بيضاء تخط عليها طريقة عمل الإنسان في الواقع كما تشاء) وحتى طريقة العمل هذه تكون خاضعة للقوانين الموضوعية الخارجية للواقع، وهو ما يعني أن الإنسان ما هو إلا نتاج لتفاعل القوانين الخارجية للواقع.
- مجمل العمارة الماركسية تقوم على وضع المفهوم الماركسي للطبيعة البشرية في مركب واحد مع مفاهيم أخرى كالتقسيم الطبيعي للعمل والملكية الخاصة.
قد يعجبك: الدين كأفيون للشعوب: الدين والاقتصاد من منظور كارل ماركس
وبنقد مفهوم ماركس عن الطبيعة البشرية تتضح لنا عدة نتائج:
- على خلفية علم النفس الحديث لا تكون الطبيعة البشرية صفحة بيضاء بل كيانًا ضامًا لعدد وفير من الغرائز النفسية والآليات المعرفية التي تتفاعل مع الواقع لا طبقًا للقوانين الخارجية للواقع فقط، ولكن طبقًا للقوانين الداخلية لتلك الغرائز والآليات أيضًا.
- السلوك الإنساني الفردي والاجتماعي ووعيه والدين والسياسة والأخلاق هم نتاج لتفاعل الظرف الموضوعي الخارجي مع الطبيعة البشرية.
- ينتج عن ذلك اشتباك مع الاختزالية الاقتصادية القائمة في جوهر الفلسفة الماركسية وفي مجمل إنتاج ماركس.
- بتغيير مفهوم الطبيعة البشرية عند ماركس يمكننا إحداث قدر كبير من التنقيحات والتعديلات على النظرية الماركسية، وتغيير موقف الماركسية تجاه إمكانية تأسيس مذهب أخلاقي سيكون مثالًا على ذلك.
وسوف ينقسم هذا البحث إلى عدة أقسام كالتالي:
- شرح مفهوم الطبيعة البشرية
- مفهوم الطبيعة البشرية عند ماركس
- تأثير مفهوم الطبيعة البشرية على إنتاج ماركس الفكري
- نقد مفهوم الطبيعة البشرية عند ماركس
- نموذج على التغيرات التي يمكن أن تلحق بالنظرية الماركسية حال تغيير مفهومها عن الطبيعة البشرية
- النتائج
مفهوم الطبيعة البشرية:
هل هناك ما يمكن أن يوصف بالطبيعة البشرية أصلًا، وإذا كان هنالك مجال لما يمكن وصفه بالطبيعة البشرية فكيف ستكون وما هي ماهيتها وأركانها، بيد أن هذه الأسئلة في إمكانها أن تؤدي إلى عدة أمور، إما إلى أن ننسب أي ظاهرة اجتماعية أو ثقافية أو مبدأ ديني لمفهوم الطبيعة البشرية بشكل اعتباطي وهو ما حدث مرارًا وتكرارًا خلال تاريخ الفكر وتاريخ الجماهير، وهو ما يعني ضياع المفهوم وتعرضه للنهب، وإما أن نتجاهل هذا المفهوم أصلًا لاعتباره غير قابل للتحديد، ففي الأول يتم توسيع المفهوم لحدود لا يحتملها أصلًا، وفي الثانية يتم نفيه تمامًا من الوجود على اعتبار أنه لا يوجد ما يمكن أن نسميه طبيعة بشرية بالأساس وأن أي سلوك سيكولوجي أو اجتماعي سيكون مرده التأثير المحض للبيئة الخارجية، وليس مرد كلا الأمرين إلا للصعوبة البالغة التي تكتنف تحديد ماهية الطبيعة البشرية.
بيد أن هناك طريق ثالث لا يتأتى إلا بتحديد ما هي الشروط الأساسية لما يمكن أن نسميه بالطبيعة البشرية -إذا كانت موجودة من الأساس-، ومن ثم تحديد مصدر هذه الطبيعة، وسؤال المصدر لا ينفصل عن سؤال الكيفية.
لكي يمكن أن نجترئ على وصف سلوك ما أو عدة سلوكات باعتبارها طبيعة بشرية، فلابد أن تكون أولًا مشتركة بين أفراد الجنس البشري، وثانيها أن تكون مشتركة بين أفراد الجنس البشري على اختلاف التصنيفات الجغرافية والبيئية والإثنية والثقافية، ووصف سلوك ما باعتباره منتشرًا لا يكفي وحده لاعتبار السلوك فطريًا وداخلًا في الطبيعة البشرية، لكن إلى جانب ذلك لابد أن يكون هذا السلوك عابرًا للثقافات والبيئات المختلفة، وإلا ستكون الثقافة المحلية لمكان ماهي المسئولة عن هذا السلوك، علاوة على ذلك وهو الأهم من كل شيء أن يتم استبعاد أن يكون هذا السلوك ناتجًا عن عوامل تشترك فيها كل البيئات الإنسانية، وإلا تم اعتبار هذا السلوك بيئيًا محضًا لا علاقة له بأي ميول أو غرائز فطرية.
يبدو أن هذه الشروط تصعب المهمة على أي بحث جاد، لكن تخطيها بشكل اعتباطي يجعل من استخدام مصطلح الفطرة الإنسانية عرضة للضلال والاستخدام في غير محله مما ينتج عنه دعاوى عريضة مبنية على أساس غير متين لم يُثبت مسبقًا، وهو ما دفع تاريخ الفكر والعلم الحديث إلى التضييق الدائم من استخدام هذا المصطلح إلى أضيق حدوده عند الاعتراف فقط بغريزتي الحفاظ على البقاء والجنس وحدهما كغرائز أساسية وفطرة إنسانية، وهو مايعني تعرض أية محاولة جادة لتوسيع هذه الحدود للنقد اللاذع والوصم بالذاتية المفرطة.
لكن وعلى الأقل سيكون لدينا حتى الآن صنفين من الغرائز يمكن اعتبارهما عابرين للثقافات والبيئات المختلفة.
أما عن سؤال المصدر فهو أصعب وأكثر إثارة للجدل بسبب دخوله إلى حقل الدين واللاهوت، فبافتراض وجود ما يمكن أن نسميه بالطبيعة البشرية، سيعقب ذلك افتراض ضمني لوجود علة لهذه الطبيعة، وهي بالنسبة للشخص المتدين ستكون إلهية بالطبع، لكن بالنسبة إلى أي منهج علمي لن تكون هذه الإجابة كافية بسبب حاجتها إلى الاستدلال المبني على الأدلة التجريبية، وبسبب تجنب العلم الدخول إلى هذه المناطق لاعتبارها داخلة في حقل الميتافيزيقا لا العلم، أصبح استخدام مصطلح الطبيعة البشرية عرضة على الدوام للدخول إلى منطقة العلم الزائف الذي يفتقر إلى أن يطرح نفسه مصحوبًا بتبيان الطريقة التي يمكن بها نفيه “إمكانية النفي” على حد تعبير فيلسوف العلم “كارل بوبر”، وهو ما جعل العلوم الإنسانية الوضعية في حالة نفور دائم من استخدام مصطلح كهذا المصطلح، وتم الاستعاضة عن ذلك المفهوم بالارتباط الشرطي في العلوم السلوكية والدراسات الثقافية التي ترد كافة مناحي السلوك الإنساني لتأثيرات البيئة حصرًا، بيد أن الفلسفات المادية أيضًا كانت على نفس مستوى الحذر من هذه القضية، وهو ما يفسر الموقف الرافض للماديين الجدليين مثلًا لعلم النفس التطوري حال ظهوره في منتصف القرن العشرين(1).
قد يعجبك:الماركسية والدين: رؤية فنية.. الأم الإغريق نموذجاً
بظهور علم النفس التطوري كان الحل الثالث لأزمة الفطرة البشرية قد بدأ في الظهور معه، فقبل المحاولات الأولى لعلماء النفس التطوريين كانت الفطرة الإنسانية إما أن تكون إلهية المصدر أو لا تكون، بمعنى أن تكون محرومة من حق الدراسة العلمية في الحالتين، لكن بظهور فكرة أن تكون هذه الطبيعة تطورية المصدر أي ناتجة عن مرور العقل البشري بمراحل من التطور البيولوجي عادت الطبيعة البشرية إلى حيز العلم وبقوة، حقيقة الأمر أن داروين نفسه قد أشار إلى ذلك في فترة مبكرة من نشر نظريته في النشوء والارتقاء في القرن التاسع عشر(2) لكن على استحياء يفتقر إلى توافر الكثير من الأدلة المادية والآليات المنهجية التي توافرات بعد ذلك لعلم النفس التطوري(3)، وظهور الداروينية الاجتماعية بعد ذلك كان مرده هذه الفكرة الداروينية الملهمة، لكنها كانت في الأساس فلسفة عنصرية أكثر منها علمًا حقيقيًا وهو ما أدى إلى سقوطها السريع وحلول المدارس السلوكية والدراسات الثقافية القائمة على إرجاع السلوك البشري للبيئة حصرًا(4)هذا إذا أخذنا في الحسبان أن محاولات فرويد وكارل يونج الباكرة في دراسة العقل الباطن كانت اعترافًا مسبقًا بوجود ما يمكن أن نسميه بالفطرة الإنسانية لكن هذه أيضًا مع تراث التحليل النفسي كله قد تراجعت نظرًا لغياب القدرة التامة على التجريب، فتم وصفها في النهاية بمجرد تأملات باطنية، لكن مع تطور الدراسات التطورية في منتصف القرن العشرين وما يليه، وبظهور عدد لا بأس به من الحفريات القادمة من مجتمعات الصيد وجمع الطعام، أصبح من الممكن التأصيل لعلم يبحث مباشرة في أصل الطبيعة البشرية وفي وصف مناحيها أيضًا وهو علم النفس التطوري.
الميزة في علم النفس التطوري أنه يقدم منهجية علمية سليمة تقوم على خلفية التطور(5)، من خلال دراسة مجتمعات الصيد وجمع الطعام التي تطور فيها العقل البشري منذ ما يزيد عن مائة ألف عام(6)، ومن ثم القيام بدراسات عبرثقافية على أفراد معاصرين ينتمون إلى ثقافات وبيئات مختلفة ومقارنة سلوكاتهم بتلك المثبتة بسلوكات البشر في المجتمعات البدائية تلك، وفي حالة إذا كان سلوك ما سيتم وصفه تجريبيًا باعتباره عابرًا للثقافات وفي حالة أن يكون هذا السلوك مرده الظروف البيئية التي تطور فيها العقل البشري منذ ما يزيد عن مائة ألف سنة أكثر من كونه ناتجًا عن الظروف التي يمكن أن تشترك فيها البيئات والثقافات المعاصرة –هذا في حالة وجود مشتركات بيئية عالمية- فإن هذا السلوك يمكن تصنيفه كجانب من جوانب الطبيعة الإنسانية.
خلاصة الفكرة التي يقوم عليها هذا العلم الحديث العهد والوفير الأهمية هو أن العقل البشري ذو طبيعة مادية قائمة على تشابكات الخلايا العصبية في المخ، ونحن نعلم أن هذه الخلايا يحكمها بيولوجيًا شريط المادة الوراثية المرقم عليه الجينات، وعلى افتراضٍ مبدئي مفاده أن نفس هذه الجينات التي تتحكم في العمليات الحيوية الأخرى كالحركة وهضم الطعام فإنها ستتحكم أيضًا في العمليات الكيميائية الداخلة في الأعصاب(7)، وبما أن الجهاز العصبي متمثلًا في جزئه الأهم أي المخ هو مصدر السلوك، أي المخزنة عليها ذكرياتانا ومشاعرنا وقدرتنا على الإدراك والتفكير، وأن هذه الخصائص للعقل البشري هي مصدر سلوكه ككل ومصدر قدرته على المعرفة والتواصل مع العالم، على اعتبار كل هذه الفرضيات المثبتة تجريبيًا من قبل، فإن أسلافنا الأوائل من البشر الذين عاشوا منذ ما يزيد عن مائة ألف عام في مجتمعات الصيد وجمع الطعام قد تطورت لديهم الجينات السلوكية التي تمنحهم القدرة على تكييف سلوكاتهم مع البيئة المحيطة، وأننا أبناء العصر الحديث ورثنا هذه الجينات رغمًا عنا في مادتنا الوراثية القادمة من هؤلاء الأسلاف(8).
إذن فإن علم النفس التطوري يحمل معه إمكانية نفي نتائجه أيضًا، وذلك إذا تم إثبات أن أيًا من السلوكات والآليات النفسية التي سيتم وصفها كفطرة إنسانية لم يكن عابرًا للثقافات أو حتى ناتجًا عن مشتركات بيئية عالمية، وهو ما يعني أهليته لأن يكون علمًا حقيقيًا.
والأكثر من ذلك أن بعض النتائج الهامة تصب في ناحية أن بعض الآليات النفسية المشتركة(9) بين أفراد الجنس البشري في عصرنا الحالي تعمل على العكس من الظروف البيئية الحالية التي منوطُ بها أن تأتي بسلوكات معاكسة لها، كالآلية النفسية التي تدفع الإنسان المعاصر لأن يكون فوبيات من العناكب والثعابين الأقل انتشارًا في البيئات المدنية الحديثة، لكنها لا تدفعهم لأن يكونوا في نفس الوقت فوبيا مرضية من مصادر الكهرباء(10)، بالرغم من أن الأخيرة واسعة الإنتشار وأكثر خطرًا على الإنسان المعاصر، ومرد ذلك هو أن أسلافنا كانوا قد طوروا آليات نفسية مثبتة على جينات سلوكية تدفعهم للخوف والحذر من الأشياء التي تسبب خطرًا فعليًا في هذه البيئات القديمة والتي لم تكن من بينها الكهرباء بالطبع، أي أن الأفراد الذين امتلكوا هذا الجين السلوكي نجحوا في البقاء والتناسل وبالتالي في أن يكونوا أسلاف الإنسان المعاصر وأن يمنحوه مورثاتهم التي ستعمل في العصر الحديث أيضًا بصرف النظر عن اختلاف الظروف، هذا مجرد مثال بسيط قد يكون أقل أهمية من بقية الآليات النفسية الغريزية التي تشارك مع البيئة في التحكم في سلوك الإنسان(11)، صحيح أن البيئات الحديثة تولد سلوكات ثقافية وإنجازات علمية مضادة للسلوك الغريزي (بالتوسع في التحذير من أخطار الكهرباء والسيارات مثلًا) لكنها لا تولد فوبيا ولا تحد من أثر الفوبيات الغريزية إلا بالقدر اليسير.
هناك مثال آخر وهو الاستمرار في السلوك الغريزي لدى النساء باعتبار الرجال الأمتن جسديًا والأوفر في البنية العضلية هم الأكثر جاذبية على الرغم من أن الأكثر قدرة على توفير بيئة مناسبة للزوجة والأطفال في العصر الحديث هم الرجال الأوفر ذكاءًا، ومرد ذلك هو تفوق الرجال ذوي البنية العضلية على أقرانهم في مجتمعات الصيد على توفير الموارد، ونحن نعلم أن الانجذاب الجنسي هو ناتج آلية نفسية قبل أن يكون بنية فيسيولوجية أي أن البنية العضلية القوية للرجل لا تعني بالضرورة متعة جنسية أكبر أو صحة أوفر أو سلوكًا إيثاريًا أفضل، وهو ما يدفع للتساؤل عن سبب إبقاء النساء على توجيه غريزة الانجذاب على نفس النحو رغم تغير الظروف –وفي هذا الشرح تبسيط مبالغ فيه بالطبع-، ولا يعني كل ذلك إلا أن يكون الإنسان المعاصر بتعبير ديفيد باس كائنًا يحمل رأسًا بدائية في مجتمع حديث، صحيح أن السلوكات الثقافية الحديثة ستحد من أثر هذه الغريزة أو تلك إلى حد بعيد لكنها لا تستطيع أن تلغي وجودها أو تنفيها لأننا نكون بصدد آلية مثبتة في الجينات.
هنالك فرع آخر من فروع علم النفس يثبت أن هنالك مشتركات عابرة للثقافات يمكن ضمها للطبيعة البشرية، تلك المشتركات قد تكون أكثر أهمية بالنسبة لنا في فرع فلسفة المعرفة، فكما أن علم النفس التطوري ساهم في إثبات أن الغيرة الجنسية والميل للحصول على المكانة الاجتماعية جوانب أصيلة في الطبيعة الإنسانية، فإن علم النفس المعرفي ساهم في الإشارة إلى أن هناك آليات ثابتة للإدراك والتفكير قائمة في العقل البشري(12)، ومشتركة بين أفراد النوع البشري، هذه الآليات المشتركة تعني أن البشر رغم اختلااف مستويات ذكاءاتهم وأنواعها، ورغم اختلاف بيئاتهم وثقافاتهم إلا أنهم محكومون بمجموعة من الآليات المسئولة عن استخدام السببية والللغة والإدراك البصري والسمعي وتخزين الذكريات واسترجاعها(13)، وهو ما يعني التوجه مرة أخرى إلى السؤال المتعلق بفلسفة المعرفة والذي يدور حول الذات والموضوع، وهل نحن نقوم بإدراك العالم كما هو أم أن هناك هنالك انحرافات لابد منها تحول بين إدراكنا التام للمواضيع الخارجية في العالم، أي أننا نرى ونعرف العالم كما هو؟ أم مع بعض الانحرافات الناتجة فطريًا في الرؤية والمعرفة.
هذه النتائج الخاصة بالطبيعة الإنسانية سوف تكون محل تفكير مقارنة بنظرية المعرفة القائمة عليها النظرية الماركسية، وسوف يتم الاستفادة من نتائج علم النفس المعرفي مع التأصيل ببرهان فلسفي خاص بهذا البحث لنقد الشكل الحالي من الجدل الماركسي وعلم الاجتماع الماركسي، وكذلك الاستفادة من نتائج علم النفس التطوري لنقد عدم إمكانية تأسيس مذهب أخلاقي في الفكر الماركسي كنموذج على أهمية التغيرات التي يمكن أن تلحق بالنظرية الماركسية حال تغيير مفهومها عن الطبيعة البشرية.
هوامش 1- باس، ديفيد: علم النفس التطوري، ترجمة د. مصطفى حجازي، دار نشر كلمة بأبوظبي، بالتعاون مع المركز الثقافي العربي ببيروت، أبوظبي 2009، ط1: 75 2- نفس المصدر: 64-65 3- نفس المصدر: 157-166 4- نفس المصدر: 94-95 5- نفس المصدر: 123 6- نفس المصدر: 82 7- وبالرغم من ذلك فإن علم النفس التطوري يرفض فكرة الحتمية الجينية ويستبدلها بتفاعل بين الطبيعة البشرية والبيئة المحيطة، ولا ينفي إمكانية تغيير التأثير الجيني بالحد من فعله ووتقليل أثره، أنظر نفس المصدر: 76-77 8- مثال على ذلك تفضيل النساء للرجال ذوي الموارد الأعلى على خلفية مجتمعات الصيد وجمع الطعام، أنظر نفس المصدر المصدر: 126-128 ،وانظر أيضًا نفس المصدر164) 9- لا يعني ذلك أن علم النفس التطوري يفهم الآلية المشتركة باعتبارها موجودة في مائة بالمائة من البشر بل باعتبارها موجودة في السواد الأعظم منهم عبر كل الثقافات، أي أنه يفترض مبدئيًا وجود تباين ضئيل على مستوى الغرائز المشتركة وهذا التباين الضئيل نفسه هو الذي يدفع عجلة التطور للأمام 10- نفس المصدر: 218 11- كالغيرة الجنسية والبحث عن المكانة الاجتمعاعية وتفضيل الرجال ذوي الموارد أنظر مثلا نفس المصدر: 243-275 12- Sternberg, David- Sternberg, Caren: Cognitive Psychology, Wardwarth publishings, USA 2012: electronic edition, 6th edition: 3 عن نسخة إلكترونية معتمدة من الكتاب 13- نفس المصدر السابق: 13