مفهوم العدالة عند الإغريق (مترجم)

تعتبر العدالة واحدة من المسائل الهامّة في تاريخ الفلسفة، ولم يكن الحال مختلفًا في الفلسفة الإغريقيّة، إذ كان الإغريق يرون أن العدالة هي فضيلة للروح والجسد. كانت العدالة لدى أفلاطون وأرسطو تعني الصلاح وكذلك الرغبة في الامتثال للقوانين؛ فالعدالة عند أفلاطون أسمى الفضائل قيمة (bhandari,2002)،  إذ أنّ العدالة عند الإغريق هي الروح التي تحرّك الإنسان من أجل أن يؤدّي واجبه على نحوٍ مُلائم، كما أنّ تعزيز التوازن والتناغم في الفكر والتصرّفات سمةٌ اجتماعيّة بارزة في الفكر الإغريقي.

في الواقع؛ آمن الإغريق بقوانينهم بحسب أنّها ذات أصل خارق للطبيعة ولكونها مبادئ عامّة تجسّد القوانين التي يؤمن بها الأفراد، وتتّسم قوانينهم بأنّها مثاليّة ودائمة ولا تخضع للتغيير بإرادة الناس. إنّ الطبيعة هي مصدر القوانين، وواجب الدولة يتمثّل في تطبيق هذه القوانين لا خلقها، وإنّ القانون عند الإغريق أخلاقيٌّ لأنه ينبع من الطبيعة، وبالتالي يُشَكّل أساسًا للمدينة الصالحة. كما يرى الإغريق بأنّ القانون واحدٌ للجميع، وبطريقةٍ أخرى يعني القانون الحرية. ويعني مفهوم الحرية طاعة القانون عند الهيلنيّين. “وتمثّل دولة المدينة كنيسةً ومؤسسةً في نفس الوقت، وهو ما يعزز عدل المواطنين وصلاحهم، ويمثّل العدل حمايةً للعلاقات الإنسانيّّة. وعلى هذا سنناقش في هذا المقال نظرية العدالة عند كبيري مفكري الإغريق: أرسطو وأفلاطون.

١-نظرية العدالة عند أفلاطون:

وُلِد أفلاطون الأثيني لأسرة نبيلة حوالي عام ٤٢٧ قبل الميلاد، كان تلميذًا لسقراط وأكبر الفلاسفة الإغريقيين أثرًا، وكان أكثر الفلاسفة تأثيراً عليه هو سقراط، والذي كان يرى أن العدالة هو المبدأ الحقّ للحياة الاجتماعية. وناقش أفلاطون موضوع العدالة في أكثر أعماله تأثيراً 《الجمهورية-the Republic》. وأكّد الاستاذ 《باركر-Barker》بأنّ “مفهوم العدالة هو مفصل فِكرِه” (Barker,1952).

في الحقيقة؛ شهد أفلاطون العالم في عصره مقسّمًا إلى مدن، يقف فيها كلّ مواطن “في مدينته بوصفه محاربًا” لمواطني بقيّة المدن، ورأى الظلمات والآثام تنتشر، ورأى الجهل يتفشّى في ستار المعرفة (Wayper,1954)، ورأى أنّ السمة العامة لسياسة عصره هي الجهل والأنانيّة السياسيّة، والتي خلقت العداء بين المدن.

“وبالتالي وضع أفلاطون صوب عينيه إبدال الجهل غير الكفء بالكفاءة غير الجاهلة، وتنحية الأنانيّة والاضطرابات وإبدالها بالتناغم، وبالتالي تحقيق التخصّص والوحدة، ولهذين الشعارين وُجّهت تعاليم الجمهورية” (Barker,1952). إن عين الفيلسوف البصيرة يمكن أن ترى أكثر من عين أي شخص آخر، وهذه العين البصيرة هي السبيل الذي تبنى فيه المدينة الفاضلة، والتي ستواجه اللا-اختصاص والتشظّي، واللذان كانا من بين أمراض عصره. (Sabin,1949) رأى أفلاطون في العدالة الدواء الشافي للمدينة من هذه الأمراض، وأنّ عين الفيلسوف البصيرة يجب أن تركّز عن البحث عن العدالة ومكانتها، وهذا ما سيبحث عنه أفلاطون في كتابه،  حيث اتّبع فيه منهج (الإقصاء-the elimination)، فهو يكشف ويحدّد مكانة العدالة بمساعدة صورته عن المدينة الفاضلة، ويقصي المفاهيم التي لا تسهم في تحقيق صورة المدينة الفاضلة، ويرى أنّ مفاهيم العدالة الأخرى هي مفاهيم تمثّل مراحل مختلفة في تطوير مفهوم العدالة والأخلاق، ويعرض فيما بعد نظريّته.

إعلان

فيما يتعلق بالعدالة فهناك لها مفهومان، أحدهما فرديٌّ والآخر اجتماعيّ. يرى أفلاطون العدالة في الحياة الفرديّة إعطاءً لكل جزءٍ من الروح مكانته، وفي الحياة الاجتماعيّة، لكلّ فردٍ ولكلّ طبقةٍ مكانها الملائم، ويرى أفلاطون أنّ طبيعة الإنسان صُنِعَت من الحكمة والشجاعة والرغبة،وأنّ لكلّ طبقةٍ اجتماعيّةٍ مكانةً تلائم سيطرة إحدى هذه الطبائع. كما يرى أفلاطون أنّ العدالة سمةٌ لا غنى عنها في الحياة الأخلاقيّة، وشرطٌ في حياة الفرد والدولة المثاليّة، وما واقع الدولة  إلّا انعكاسٌ لنظريّة العدالة التي تتبنّاها.

إضافةً إلى ذلك؛ يرى أفلاطون أنّ العدالة انعكاسٌ للدولة المُثلى، والتي يُقَسَّم فيها المجتمع إلى ثلاث طبقات؛ كلُّ طبقةٍ تمثّل انعكاسًا لعنصر العقل والروح والرغبة، فلكلِّ رجلٍ عملٌ على أساس مبدأ التخصُّص الوظيفيّ، ويكون النظام التعليميّ مخطّطًا، ويُحرَص في هذا النظام على أن يكون القادة فلاسفةً متحررين من الهموم الاقتصاديّة والأسريّة في ظلِّ نظامٍ شيوعيّ، كما يقوم هذا النظام أيضًا على المساواة بين الذكور والإناث. أمّا مفهوم العدالة عند أفلاطون؛ فيقوم على اندماج الفرد في مجتمع، ويشمل واجبات الإنسان كافّة وليس محض واجبٍ قانونيّ. (bhandari,2002)

وفي نظريّة أفلاطون للدولة؛ يرى وجود خمسة أشكال للحكومات، الارستقراطية: وهي حكم القلة، والتيموقراطية-timocrasy: والتي يكون فيها الحكام مدفوعين بالشرف، والأوليغارشية-oligarchy: والتي يسعى فيها الحكّام للثروة، والديموقراطية: وهي حكم الجموع، والطغيان الذي هو حكم الفرد الواحد الأنوي.

في كتابه الجمهورية وضع إفلاطون الخطوط العريضة لما يعتبره الدولة المثالية. والتي هي شكل من أشكال الارستقراطية الفكرية- Intellectual Aristocrat، والتي تقوم على نظامٍ طبقيٍّ مكوّنٍ من ثلاث طبقات؛ هذه الطبقات هي الحكام، والمحاربون، والحرفيون. ولكل طبقة فضيلتها، فللحكام فضيلة الحكمة، وللمحاربين فضيلة الشجاعة، وللحرفيين فضيلة ضبط النفس والطاعة الحسنة.

ومن أجل أن يرضى الناس عن طبقتهم الاجتماعية، يجب على الدولة أن تنشر “كذبة ملكية” وهي أن الرب قد خلق الناس بثلاثة صنوف، خلق الصنف الأفضل من ذهب، وخلق الصنف الثاني من الفضة، وخلق الصنف الثالث من الحديد والنحاس، يصلح الصنف الأول للحكم، ويصلح الصنف الثاني ليكونوا محاربين، والبقية حرفيون بأعمال يدوية (sharing,2001). “تعمل هذه الطبقات الثلاثة بوفاق، والتي ستضمن أقصى قدر من الرفاه في جميع أنحاء الدولة. ويجب أن ينسب كل فرد للطبقة التي تلائمه، وهذا سيحقق التناغم والوحدة في الدولة ولكل الفرد فيها (Dunning,1966)، فذكر أفلاطون:

“حسنا، أخبرني سواء كنت صحيح أم لم أكن، تذكر المبدأ الأساس الذي وضعناه لأساس الدولة، كل رجل يجب أن يمارس عمل واحد، والذي يلائم طبيعته، وتمثل العدالة هذا المبدأ أو جزء منه على الأقل، وسنكرر ما ذكرناه وهو أن كل إنسان يجب أن يقوم بعمل شيء واحد فقط.”

وفي نظريته عن الأخلاق رأى أفلاطون أن جوهر الروح هو العقلانية والخلود، وبأن عالم المُثل هو عالم الأفكار ومصدر الخير. وأن الجسد هو مادة والأخيرة هي مصدر الشر، وأن الجسد هو سجن وقتي. وأن الغاية الفضلى في هذا العالم هو الانعتاق من الجسد وتأمل عالم المُثل. كما يرى أفلاطون وجود ثلاثة أرواح وهي الروح الحكيمة والشجاعة والمعتدلة، فلا تكون الروح حكيمة  إلا  إذا حكمت كل دوافع الجسد. ولا تكون الروح شجاعة  إلا إذا ساعدت وطاعت الجزء العقلاني، ولا يكون الشخص حائزاً على فضيلة الاعتدال، إلا إذا أطاع كل من الروح والجسد طريق العقل، وبالتالي تكون الروح معتدلة بهذه الطريقة . ولو قامت هذه الأجزاء الثلاثة بوظيفتها يتحقق الانسجام. ولا تتحقق غاية الحياة إلا إذ كان الإنسان (شجاعاً، وحكيماً، ومعتدلاً، وعادلاً)، وأن خير الفضائل هي العدالة، والتي لو حققها الإنسان لأصبح سعيداً، أي أن الإنسان لن يحقق السعادة  إلا إذا تأمل المُثل وحقق خير الفضائل.

عند أفلاطون، تعتبر العدالة هي الفضيلة الأساسية بل أم الفضائل، وهي تنتمي لجميع الأرواح الثلاثة، ففي الروح المفكرة تتحق العدالة بالفكر السليم، وفي روح الشجاعة تتألف من 《الحساسية-sensibility》، وفي روح الحرفي بالاعتدال. إن  الحكمة هي عدالة العقل، والشجاعة هي عدالة القلب، والاعتدال هي عدالة الحواس، والورع هو عدالة علاقتنا مع الرب، وهي مرادفة للعدالة بشكل عام، يجب أن يدرس الرجل من أجل أن يصبح عادلاً، ويقترب من صورة الرب، ولا يمكننا أن نصل للعدالة إلا من خلال 《الإنسان الجماعي-collective man》 أو الدولة. ومن أجل أن يصل الإنسان الجماعي أو الدولة أو الفرد إلى الوحدة الحقيقية، فيجب أن تدمج المصالح الفردية في المصلحة العامة، و أن تندمج الأسرة بالدولة، ويجب ألا يكون الفرد مالكاً، وأن  تنتمي العائلة للدولة، والتي هي عائلة كبيرة، وأن الدولة هي أب للأطفال، ويجب أن تعلمهم. (Weber,200)

ويُلاحَظ أن محتوى العدالة لا يقتصر على القانون عند إفلاطون، بل له جوانب فردية واجتماعية. أن العدالة هي مبدأ《اللاتدخل-non-interference》 والتي تضبط بشكل معقول طبقات مختلفة من المجتمع وعناصر مختلفة من روح الفرد. وهي مبدأ التخصص الوظيفي، والتي تدفع كل شخص لأن يؤدي وظيفة التخصصية في المجتمع، ويقود التخصص إلى الكفاءة، و العدالة هي المهندس المعماري الذي يجعل باقي الفضائل تتناغم مع بعضها البعض، وهي تسمح وتكمل الفضائل، ومن بينها الشجاعة والتحكم بالنفس وتجعلهم محكومات بشكل معقول، وهي التي تربط أفراد المجتمع ببعضهم البعض.

٢- نظرية أرسطو طاليس في العدالة:

ولد أرسطو طاليس في《ستاغيرا-Stagira》في منطقة《تراقيا-thrace》 في العام ٣٨٤ قبل الميلاد، وتوفي في العام ٣٢٢. كان أعظم تلامذة أفلاطون واستلهم العديد من الأفكار من تعاليم معلمه، وآمن كمعلمه بأن العدالة أساس الدولة، وبأنه لا يمكن لأي دولة أن تدوم لمدة طويلة من الزمن من دون أن تتأسس على مفهوم العدالة الصحيح. ومن هذه الفرضيات أسس أرسطو لنظريته في العدالة. ولم يضع نظريته من العدم، بل استلهم العديد من أفكاره من كتاب الجمهورية لإفلاطون. اعتقد أرسطو أن لكل شيء غاية، وغاية الإنسان السعادة، وبالتالي جعل السعادة أساس مهم له في حواراته، وكما عرف العدالة التوزيعية في حياة الأفراد كما يلي:

” إن العدالة نسبية للأشخاص، والعدالة التوزيعية هي أن  تعطى قيمة للأشياء تلائم الشخص الذي يتحصّلها.” (Arstotile,1980)

في الحقيقة يرى أرسطو أن العدالة للفرد هي تناغم الروح، والعدالة للمجتمع هي المساواة النسبية والتناسب في التمتع بالقيم. وفي فلسفة أرسطو السياسية، وضع معيار أساسي في العدالة مقتضاه معاملة المتساوين بشكل متساوي، ومعاملة غير المتساوين بشكل غير متساوي ولكن بشكل يناسب الفروقات الحقيقية؛ فذكر في كتابه (السياسية- Politics):

“إن الغاية في جميع العلوم والفنون هي الخير، وفوق كل خير هو العدالة- وهكذا فإن الخير في العلوم السياسية هو العدالة- بتعبير آخر الخير العام. فيعتقد جميع الأفراد أن العدالة هي ضرب من ضروب المساواة. ولكنهم يؤمنون بفروق فلسفية أساسها الأخلاق.

وهنا يبقى سؤال معقد، ما الذي يجب أن يتحقق، هل المساواة أو اللامساواة على وجه التحديد؟ هنا التعقيد الذي على يتوجب على  الفيلسوف أن يجيب عنه.” (Aristotle, 1953)

إن العدالة عند أرسطو كما هو الحال عند إفلاطون هي فضيلة فعل، وهذا الفعل ينبع من واجب يلزم الفرد أن يؤديه تجاه أبناء مجتمعه. وفي نظرية أرسطو السياسية، يوجد نوعين للعدالة، العدالة التوزيعية والعدالة الإصلاحية، تعنى الأخيرة بالنشاطات التجارية الإرادية، وتوفير الحماية، وغيرها من الجوانب التي تخص حماية جوانب الملكية والشرف والحرية والحياة (bhandari).

وأمّا العدالة التوزيعية فتعنى بمنح كل شخص ما يناسب أملاكه أو طبقته الاجتماعية. يتعلق نمط العدالة هذا بالامتيازات السياسية. ومن وجهة النظر هذه، فإن لكل منظمة سياسية معايير للقيمة، وبالتالي لها عدالة توزيعية.  في الديموقراطية فإن معيار القيمة هو أن تولد حراً، وفي الأوليغارشية أن تكون غنياً، وفي الارستقراطية أن تولد من أسرة نبيلة- يرى أرسطو أن ميلاد الشخص من الطبقة الارستقراطية هو فضيلة بحد ذاته. “أن العدالة التوزيعية تقتضي أن يمنح كل شخص ما يناسب اسهاماته في المجتمع. وهي تقلل الصراع والخلط بواسطة محاربة لامساواة المتساوين أو مساواة اللامتساوين. إن عدالة أرسطو هي عدالة تناسبية، أي أن حقوق وواجبات الأفراد وما يتحصلون عليه من امتيازات يجب أن تساوي قيمتهم واسهاماتهم الاجتماعية.”(ibid)

يرى أرسطو في فلسفته السياسية أن المجتمع الأول هو الأسرة، والتي تتألف من الأب والزوجة والأطفال والرقيق، وتوجد في الأسرة علاقتين، الأولى بين الزوج والزوجة والثانية بين السيد والرقيق، وكلا العلاقتين طبيعيتان. يكون الأب هو الحاكم المطلق في الأسرة، فهو من يقود الرقيق باعتدال، و يقود زوجته بوصفها حرة، وأن يقود أولاده بالمودة والقدم (Arstotile,1953).

إنّ أكثر المجتمعات الإنسانية شمولاً هي الدولة، ويكون هدف الدولة هو خلق الناس الصالحين، يعيشون حياة فاضلة وسعيدة. وأن أسمى الفضائل هي الفضائل الفكرية، وأن هدف الدولة ألا تخلق محاربين أنما أفراد يستطيعون أن يديموا السلام، ويلائم السلام الحياة الفكرية. ويجب على الدولة أن تكون قوية كفاية لحماية نفسها. ولا يجب على الدولة أن تخوض حرباً إلا للدفاع عن النفس أو إخضاع الرقيق أو الأشخاص الرديئون. يجمع الإغريق الثقافة بالشجاعة وهكذا فإن أسمى صنوف الناس هم من يخضعون أدنى صنوف الناس.

وبالتالي يؤكد أن معاملة الأفراد يجب أن تراعي الفروق في الإمكانية والثروة والأصل والحرية. ويجب أن يتم معاملة المتساوين بشكل متساوي واللامتساوين بشكل غير متساوي. وعلى الرغم من أن الفرد سابق على الدولة في الزمان، إلا  أن الدولة تسبق الفرد بالأهمية، وذلك لأن الكل له أسبقية على الجزء. إن الإنسان حيوان اجتماعي، وهدفه الطبيعي أن يعيش في مجتمع. وأن هدف المجتمع العقلاني هو سعادة الفرد، وبالتالي فإنه في المجتمع الطبيعي، يعد هدف كل من الدولة والفرد متناغمين. ويرى أرسطو أن قيمة الأفراد تتحدد بشكل الحكومة التي تديرهم. ولا تكون الحكومة جيدة إلا إذا قصدت مصلحة المجتمع، وتكون سيئة في خلاف ذلك.

وأيا كان، يرى أرسطو “وجود ثلاثة أشكال للحكومة الجيدة” وهي《الموناركية-monarchy》، و《الأرستقراطية-Aristocracy》، 《والدستورية-polity》وكما توجد ثلاثة أشكال سيئة للحكومة وهي حكم الطاغية، والاوليغارشية، والديموقراطية، وبالتالي تكون الحكومات إما حكم الأكثرية أو القلة أو حكم الرجل الواحد. وأن أفضل أنواع الحكومة هي الحكومة الملكية، والتي يسود فيها رجل واحد ذو قيم أخلاقية ومفكر. وثاني أفضل أشكال الحكومات هي الحكومة الارستقراطية والتي يسود فيها قلة من الأشخاص ذوي الجودة العالية”. وبالتالي توجد فروق بين حكم الأفضل “الأرستقراطية” وحكم الأغنى (الأوليغارشية)، وذلك لأن الأفضل لا يجمعون الثروات. وكما توجد فوارق بين الديموقراطية والحكم الدستوري، وفيما عدا الفوارق الأخلاقية بين النظامين، فإن النظام الدستوري يحتوي على عناصر أوليغارشية. ولكن بين الموناركية وحكومة الطاغية يوجد فرق أخلاقي فحسب. يعتقد أرسطو أن الموناركية أفضل من الحكومة الدستورية. ولكن فساد الأحسن يقود لأسوأ النتائج، لهذا فإن حكومة الطاغية أسوء من الأوليغارشية ومن الديموقراطية. وبهذه الطريقة يدافع أرسطو بعض الشيء عن الديموقراطية. وذلك حينما أكد بأن كل الحكومات الفعلية هي سيئة، ولكن الديموقراطية هي أفضل الحكومات السيئة. يؤكد أرسطوطاليس أن الديموقراطية تنشأ عن الاعتقاد بأن جميع الأفراد متساوين في جميع النواحي، وتنشأ الأوليغارشية من الاعتقاد بأن أسمى الرجال هم أغناهم، ولكل منها نوعاً من العدالة لكن ليس أفضل مفهوم للعدالة(Russel,1961). في نظريته الأخلاقية أثار أرسطو سؤالاً يتعلق بخير الإنسان – الخير الذي هو الغاية النهائية لكل غايات الإنسان (Aristotle).

وفقا لأرسطو فإن الغاية العظمى لكل الناس هي السعادة، والتي هي نشاط للروح. ويؤكد هنا أرسطو أن أفلاطون كان  صائبًا حينما رأى أن للروح جزأين، جزء عقلاني وآخر لاعقلاني حيواني، وينقسم الجزء الحيواني إلى نباتي وشهواني (Aristotle). ومن هذا التعريف للسعادة يتضح لنا أنها لا تتطابق مع اللذة. إن اللذة الوحيدة الجيدة هي الكمال الجسدي في الشباب. وأن أعلى اللذة تحضر أعلى سعادة. بينما تكون المتعة في جميع درجاتها جيدة بشكل عام، وهي تكون جيدة أو سيئة وفقًا لارتباطها بنشاط جيد أو سيء.

إن الغاية الأخلاقية للسعادة  لا يمكن الحصول عليها من تصرفات لا أخلاقية مثل إهمال الوظائف العقلية والجسدية والانهماك بتحقيق المصالح الاقتصادية. إن سعادة الإنسان تتجسد بطريقتين، الأولى: هي إخضاع الجزء الحيواني من الإنسان، المتمثل برغباته وشغفه وشهواته للجزء العقلاني. وأما الثانية فهي ممارسة التفكير من خلال البحث عن المعرفة وتأمل الحقيقة. في الحالة الأولى تتجسد السعادة بالفضائل الأخلاقية مثل (الاعتدال، والشجاعة، الحرية، الشهامة، اللين، الحقيقة، الصداقة، وأعلى الفضائل وهي العدالة). وفي الحالة الثانية تعبر عن نفسها بواسطة الفضائل الفكرية والتي هي على نوعين:

١. التفكير العقلاني والذي نبحث فيه بالطبيعة عما هو ضروري وبالحدس الذي يوجهنا للحقيقة (العقل والعلم).

٢. العقل العملي والذي نتأمل به مسائل مهمة لنا (مثل الفن والتفكير العملي).

كما يؤيد أرسطو فكرة حرية الإرادة وينتقد سقراط الذي رأى أن نظرية الأخلاق تقوم على إنكار الإرادة الحرة. فوفقاً لسقراط أن من يعتقد الصواب يجب أن يفعل الصواب. ولكن هذا الرأي -حسب ارسطو- يجعلنا ننكر دور الإنسان في اختيار الشر. وإذا لم يستطع أن يختار الشر، فلن يستطيع اختيار الخير. وعلى العكس من ذلك، يرى ارسطو أن الإنسان يمكنه أن يختار بين الخير والشر، وذلك لأن مذهب سقراط يجعل كل نشاطاتنا لا إرادية، ولا تنعدم إرادتنا إلا بالإكراه، ولكن بكل حال من الأحوال لم يواجه أرسطو ما واجهه الفلاسفة المحدثون أنصار نظرية الإرادة الحرة من مشاكل جعلت نظرية الإرادة الحرة من بين النظريات التي واجهت إشكالات فلسفية جمّة. (Stace,1962)

الخاتمة

إنّ كلًا من فلسفة أرسطو وأفلاطون في العدالة متشابهتان، وتكملان بعضهما البعض، إلّا أنّ بينهما فروقًا أساسية، فعلى سبيل المثال تركّز نظريّة أرسطو للعدالة على الحقوق، بينما تركّز نظريّة أفلاطون على الواجبات. تقوم نظرية عدالة أرسطو على المبدأ القائل: كلُّ شخصٍ ينال ما يستحقّ”، وعلى العكس من ذلك تقوم فلسفة أفلاطون في العدالة على فكرة “يجب على كل شخص أن يفعل ما يلائمه من واجبات”. وبالتالي فإن النظام الأول هو نظام واجبات، بينما الثاني هو نظام واجبات أخلاقية.

يؤسّس نظام أرسطو للمساواة أعضاءً مختلفين في داخل المجتمع، بينما يؤسّس نظام أفلاطون طبقية تتألّف من ثلاث طبقات لكلٍّ منها عدالتها، ولكلٍّ منها وظائفها، وعلى كلِّ مواطنٍ أن يؤدّي واجباته كعضوٍ في المجتمع، بينما تؤسَّس العدالة الأرسطية على تصنيف كامل ودقيق للعدالة. لا يسعى أرسطو لخلق طبقات مشابهة، ولكن تؤسَّس نظريته في العدالة على عناصر مختلفة بين الروح-العقل، والروح والرغبة.

وعلى الرغم من هذه الفوارق، إلا أنّه يوجد تشابه بين أفكارهما. فكلٌّ منهما يسعى  لخلق نظامٍ يحقّق الوحدة والتناغم والفضيلة والسعادة في المجتمع، وكما يسعيان لمنح كل مواطنٍ ما يلائم سعته أو طبيعته. إنّ عدالتهما توزيعية، كما أنّها تيولوجية ووظيفية، لا أخلاقية وقانونية فحسب.

————————————-

المصادر:

1 – Aristotle (1953) Politics, Translated by Jowett, London, Reprinted Oxford At the Clarendon Press, pp.26- 125.

 

2 – Aristotle,(1980) The Nicomachean Ethics, Translated by Commentaries and Glossary by Hippocrats G. Apostle, D. Redial Publishing, London, Book E, 5.

 

3 Barker, E.,(1952) Greek Political Theory – Plato and His Predecessors, London, 4th edition, pp.149- 153.

 

4 – Bhandari, D.R.,(2002) Reprint History of European Political Philosophy, Bangalore, Bappco, the Bangalore Press, pp. 5-54.

 

5 – Dunning, W.A.(1966) Political Theories-Ancient and Medieval, Allahabad, Copyright, Vol. 1, pp. 28-29.

 

6 – Plato’s Republic, Jowett’s Translation, The Modern Library, New York, pp. 147-148.

 

7 – Russell, Bertrand,(1961) History of Western Philosophy, pp.185-201.

 

8 – Sabin, G.H.(1949) A History of Political Theory. 3rd edition, p. 52.

 

9 – Sharif, M.M.,(2001) History of Muslim Philosophy, Delhi, Adam Publishers, Vol. 1, pp. 98-104.

 

9 – Stace, W.T.,(1962) A Critical History of Greek Philosophy, London, Macmillan, p. 320.

 

10 – Wayper, C.L.(1954), Political Thought, England, 1st edition, p. 16.

 

11 – Weber, Alferd,(2000) History of Philosophy, Indian, Translated by Frank. Thilly, India, Surjeet Publication, 2nd Reprint, p. 73.

 

إعلان

اترك تعليقا