محمود شاكر ونَقْد الاستشراق من خلال كتاب (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)

المنهج وما قبله، وأثر ذلك على النقد الشاكريِّ

جرتْ عادةُ المُحْدَثِينَ من الكُتَّابِ والباحثين والدارسين الكلام عن المنهج المُتَّبَع في دراساتهم وأبحاثهم. يرى الأستاذ محمود شاكر أنه قبل الحديث عن المنهج ينبغي الحديث عن ما قبل المنهج؛ لأنه يرى أنَّ الماقبل هذا هو الحاكم الحقيقي لما يجري بعده من بحث ودرس.

إنَّ المنهجَ في رأيه ينقسمُ إلى شطرين اثنين هما المادة والتطبيق؛ فشطر المادة يعني “جمعها من مَظَانِّهَا على وَجْهِ الاستيعابِ المُتَيَسِّرِ، ثم تصنيف هذا المجموع، ثم تمحيص مفرداتِه تمحيصًا دقيقًا”[1]، “أما شطر التطبيق؛ فيقتضي ترتيب المادَّةِ بعد نَفْيِ زَيْفِهَا، وتَمْحيصِ جَيِّدِها”[2]. وهذا المنهج بشطريه كما أوضحَ الأستاذُ ينبني بناءً على ما قبل المنهج (اللغة – الثقافة – الأهواء) كما سيأتي، درجة أن يكونَ الماقبلُ هذا هو “الأساس الذي لا يقومُ المنهجُ إلا عليه”[3].

ما المراد بما قبل المنهج إذًا؟ يرى محمود شاكر أنَّ ما قبل المنهج يتكوَّن من ثلاثة أشياء تحكم عقل الباحث وتحركه لا محالة. وأول مكونات ما قبل المنهج: اللغة التي نشأ الإنسانُ فيها صغيرًا، ثم الثقافة التي تشبَّع بها عن طريق الإيمان بها أَوَّلًا عقلًا وقلبًا، ثم عمل بها ثانيًا، ثم انتمى إليها أخيرًا، ثم تأتي الأهواء بعد ذلك مُكَوِّنًا ثالثًا لما قبل المنهج، وهي حسب تعبيره “تَسْرِي في خفاء وتَدِبُّ، إلا أنَّها لا تَدِبُّ إلا مُتَبَرِّجَةً في تمام زينتها من اللغة ومن الثقافة”[4].

نجد شاكرًا بعد ذلك يهاجم من وصفهم بالمُتَشَدِّقين الذين يرون أنَّ الباحث ينبغي أن “يتجرد من كل ما كل شيء كان يعلمه من قبل وأن يستقبل بحثه خالي الذِّهْنِ خُلُوًّا تامًّا”[5] كما استقبل طه حسين بحثه في الشعر الجاهلي. نرى الأستاذ يعتمد على نظريته في ما قبل المنهج في خضمِّ مهاجمَتِهِ مثلَ هذه الطرائق الدراسية، ويعتمد عليها كذلك في مهاجمته الدراسات الاستشراقية التي تتناول العلوم الإسلامية من لغة وثقافة كما سيأتي بيانُه. إنَّ الإنسان -في رأيِه- يستحيل عليه أن يتجرد من سلطان اللغة أبدًا، ولا يمكنه أن يتجرَّدَ من سطوةِ الثقافة على أيِّ حالٍ، فضلا عن أنْ يَتَجَرَّدَ من بَطْشَةِ الأهواء التي تَسْتَكِينُ في أغوارِ كلِّ نفسٍ إِنْسَانِيَّةٍ.

الصراع بين العالَمين الإسلامي والمسيحي، وأثره في نشوء الاستشراق

وقبل أن يتناول محمود شاكر نقدَ الحركات الاستشراقية وعمليَّاتِ التغريب الحديثة عن طريق نظراتٍ تاريخيَّة متتابعة نجدها مبثوثة في أغلب أجزاء الرسالة نرى محاولتَه الحثيثة تحليل مفهومِ الثقافة وأنَّ “رأس كلِّ ثقافة هو الدين بمعناه العام[6]. إنَّه يرى أنَّ للثقافة مكوناتٍ شتَّى، ولكنَّ أعلى ما يكون فيها هو الدين، ولا يعني بالدينِ هنا معناه الخاصّ، وإنما يعني الدينَ “الذي هو فطرة الإنسان؛ أيَّ دين كان، أو ما كان في معنى الدين”[7].

إعلان

إنَّ ما يحفظ على أمةٍ من الأمم تماسكها وترابطها هو الأصل الأخلاقي الذي يُمليه دينٌ من الأديان. وليس المراد بالأصل الأخلاقي هنا “قواعد عقلية ينفرد العقلُ بتقريرِها ابتداءً من عند نفسه، إنما المراد العقائد التي تملك قدرةَ الهيمنة على النفس الإنسانيَّة والتَّغَلْغُل في ثناياها؛ “لأنها إما أن تكونَ مغروزةً في فِطْرَتِهِ…. وإما أن تكون مكتسبةً، ولكنها مُنَزَّلَةٌ مَنْزِلَةَ العقائد المغروزة فيه”[8]. ولأنَّ “الثقافةَ واللغةَ مُتَدَاخِلَتَانِ تَدَاخُلًا لا انفكاكَ له”[9]؛ فإنَّ اللغة نفسها تفرِضُ على الإنسان طريقة محدَّدةً من البحث والتفكير لا يمكن الحَيْدَةُ عنها.

وإذا ما كانَ الدينُ رأسَ كلِّ ثقافةٍ؛ فليس عجيبا أن يرى شاكر أنَّ أصل الصراع الدائر بين الشرق والغرب هو في أصله صراعٌ دينيٌّ يسعى فيه كلُّ دين إلى فرضِ هيمنتِه على الآخر!

يُقَسِّمُ شاكر الصراعَ الذي دار بين المسيحية الشمالية والإسلام إلى أربعِ مراحلَ هي:

  • المرحلة الأولى: كانتْ صراعًا دائرًا في أرضِ الشام من أجل اختراق دار الإسلام، وفي هذه المرحلة لم يفتر الملوك والأمراء والرهبان عن إمداد المسلمين بما يطلبونه من كتب علوم الأوائل (الإغريق).
  • المرحلة الثانية: كانت صراعًا مُتَفَجِّرًا تدفَّقَ من قلب أوروبَّا، وتَجَلَّى هذا الصراعُ في الحملات الصليبية التي شُنَّتْ على العالَم الإسلامي؛ لاسترداد ما استولى عليه المسلمون بقوة السيف.
  • المرحلة الثالثة: كان الصراعُ فيها مكظومًا؛ فبعد اندحار الصليبيِّين وهزيمتهم ارتدَّ الغربيُّون مُتَّكئينَ اتَّكاءً كاملًا على علوم دار الإسلام.
  • المرحلة الرابعة: كان الصراعُ فيها مُشْتَعِلًا بعد دخول المسلمين القسطنطينية؛ مما أدى إلى حركة إصلاحية كبيرة في العالَم الغربي عن طريق تحصيل العلوم وإصلاح خَلَل الحياة المسيحية.

علم الغربيون أنَّ السلاحَ في هذه المرحلة الرابعة لا يُغْنِي غناءً حاسمًا؛ “فنَحَّوْا أمرَه جانبًا إلى أن يحين حينُه ويصبح قادرًا وحاسمًا. لم يبق لهم [بعد ذلك] إلا سلاح العقل والعلم والتفوُّق واليقظة”[10]. ومن أجل تحصيل هذا السلاح بعثَ الغربيون أعدادًا كبيرة ممن يعرفون اللسانَ العربيَّ من أجل السياحة في أرض الإسلام ثم العودة؛ لإتمام عملين عظيمَين: إمداد علماء اليقظة [الأوروبية] بكنور العالم الإسلامي المعرفيَّة، وأيضًا إطلاع الرهبان على كلِّ ما علموه من أحوال دار الإسلام.

يقول محمود شاكر:

ومن يومئذٍ نشأتْ هذه الطبقةُ من الأوربيين الذين عُرِفُوا فيما بعدُ باسمِ المستشرقين، وهم أَهَمُّ وأعظم طبقة تمَخَّضَتْ عنها اليقظة الأوربية”[11]

وبفضل الطبقة الاستشراقية نشأتْ طبقة السَّاسَةِ -الذين عُرِفُوا فيما بعد برجال الاستعمار- على عِلْم المستشرقين وخبرتهم وتجاربهم، وبفضل هؤلاء الساسةِ نشأت تلك الطبقة التي نذرتْ نفسها لخدمة الدين المسيحي ممن عُرِفُوا بالمُبَشِّرين.

وكان الاستشراق يُعبِّرُ في بداياته الأولى إما عن طالبِ علمٍ يريد أن يتعلم علوم المسلمين؛ ليقشع الجهل عن نفسه وقومه، أو عن راهب ذي حميَّة ودفاع عن دينِه، وكل هَمِّهِ أن يصلحَ خلل المسيحية.

أما بعد ذلك؛ فكان من أجل نقل العلوم الإسلامية إلى الغربيين، وإطلاع الساسة والرهبان على أحوال العالم الإسلامي، ومن ثمَّ قهر تلك النهضة الناشئة التي كانت تقوم في ديار الإسلام على يد خمسةٍ من الأعلام، اختصَّ كل واحد منهم بإرساء قواعد حضارية تقوم عليها نهضة شاملة في العالم الإسلامي. وهؤلاء الأعلام هم: البغدادي (إحياء الأدب وعلوم اللغة العربية)، والجبرتي الكبير (دراسة العلوم الطبيعية والرياضية)، ومحمد بن عبد الوهاب (مكافحة البدع وتنقية العقائد)، والمرتضى الزَّبيدي (بعث التراث اللغوي والديني)، والشوكاني (نبذ التقليد في الدين ونَفْيُ التَّعَصُّب).

النقد الشاكري العام للاستشراق اعتمادًا على مَفْهُومَيِ المنهج وما قبل المنهج

وبعد أن علمنا مفهوم ما قبل المنهج عند الأستاذ، علينا أن نَتَبَيَّنَ أين تقع دراساتُ هؤلاء المستشرقينَ اعتمادًا على مفهوم المنهج وما قبله كما علمنا. إن المنهجَ في شطرِ جمع المادةِ (جمعها من مَظَانِّهَا على وجه الاستيعاب، ثم تصنيف هذا المجموع) ممكن للمستشرق نوعًا ما مع ما فيه من “العوائق الجليَّة، بَلْهَ العوائق الخفيَّة”[12]. أما ما يخُصُّ شطر التطبيق (ترتيب المادة، بعد نَفْيِ زَيْفِهَا وتمحيصِ جَيِّدِهَا)؛ فهذا غير ممكن للمستشرق، بل ممتنع ومستحيل بتعبيره؛ لأنَّ عمل المستشرق قائم كلُّه على خدمة أهداف أقامها وحدَّدَها في نفسِه، وأهداف المستشرق عديدة، “أكبرها شأنًا هو اختراق دار الإسلام، ثم تمزيقها من قلبها، ثم الظفر بالكنوز [الموجودة في العالم الإسلامي]”[13].

وإذا انتقلنا إلى ما قبل المنهجِ؛ فإنَّ الأمر يكون أعسرَ وأشدَّ؛ فكما علمنا أنَّ ما قبل المنهج يتكوَّنُ من ثلاثةِ أشياء (اللغة – الثقافة – الأهواء). إنَّ شاكرًا يعجبُ كلَّ العجب من فتى أعجميّ ناشئ في لسان أمته وتعليم بلده، كيف له أن ينزل ميدان ما قبل المنهج بقدمٍ ثابتةٍ؟! إنَّ “أحسنَ أحواله [عندما يتعلم العربية] أن يكونَ في منزلة طالب عربي في الرابعة عشرة من عمره، بل هو أقلُّ منه على الأرجح، أي هو في طبقة العوامِّ الذين لا يَعْتَدُّ بأقوالِهم أحدٌ في ميدان المنهج وما قبل المنهج[14].

وإذا كان أمرُ اللغة بهذا العُسْرِ؛ فإنَّ شرطَ الثقافة أشدُّ وأعتى؛ لأنَّه حتى يتَحقَّقَ فإنه على المستشرق أن يؤمنَ بها أولا عن طريق القلب والعقل، ثم عليه أن يعمل بها ويُفَعِّلَها في واقعِه، ثم عليه بعد ذلك أنْ ينتمي إليها انتماءً حقيقيًّا، وكل هذا محضُ مُحَالٍ؛ لأن هذه القيود الثلاثة ممتنعة على المستشرق امتناعًا لا مفرَّ منه. ولكل أمة من الأمم ثقافتها التي تميزها، ولا وجود لما يسميه البعضُ ثقافةً عالميَّةً؛ “أي ثقافة واحدة يشتركُ فيها البشرُ جميعًا ويمتزجون على اختلافِ لغاتهم ومِلَلِهِم ونِحَلِهِم وأَجْنَاسِهِم وأَوْطَانِهِم[15]. وإذا كان لكل أمةٍ ثقافة تخصُّها؛ فإنَّ المستشرق واقع في مأزِقِ اللغة والثقافة. وليس الأمرُ خاصًّا بالمستشرق وحده، بل يشملنا نحن العرب والمسلمين أيضًا إذا ما أردنا أن ندرس معارف أمة أخرى من الأمم.

وإذا ما انتقلنا إلى الجزء الخاصِّ بالأهواء النفسيَّة التي تسيطر على نفس الباحث أثناء بحثه؛ فإنه من المعلومِ أنَّ الاستشراق واقع في بحرٍ من الأهواء من فرع رأسِه إلى أخمَصِ قدمِيه، لا يكاد يخرج منه؛ ذلك أنه لا يدرس الإسلامَ دراسةً “يُرَادُ بها الوصول إلى الحقيقة المُجَرَّدَةِ، بل الوصول المُوَفَّق إلى حمايةِ عقل هذا الأوربِّي المُثَقَّف[16]؛ “فما كتبه الاستشراق من حيثُ هي كتبٌ أو دراساتٌ مكتوبة للمثقف الأوربي خاصة، ولهدف بعينه، حقيقةٌ باحترامِ كلِّ أوربي مثقف”[17]، “أما من حيث هي كتب أو دراسات علمية جديرة باحترامِ مثقف غير أوربي؛ أي أبناء لغة العرب وأبناء دين الإسلام؛ فهذا عندئذٍ موضع نظر”[18].

خاتمة

بهذه الطريقة ينقد محمود شاكر الاستشراق نقدًا فوقيًا عاليًا لا يعنيه النظر في أجزائه ونتائجه بقدر ما يعنيه أن يبحث في دوافعه ومحركاته وأصوله الحاكمة لما قبل المنهج. وإذا ما كان المستشرق غريبًا عن لغة العرب والمسلمين، وثقافتهم، وتحكمهم أهواء تسري فيهم -بحكم الاختلاف اللغوي والثقافي- سريانَ الدم في العروق؛ فإنه لا يمكن الوثوق بأيِّ حالٍ من الأحوال في نتائج هذه الدراسات والأبحاث الاستشراقيَّة، وإنْ بُذِلَتْ فيها جهود.

[1]كتاب المتنبي ومعه رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، أبو فهر محمود محمد شاكر، شركة القدس للنشر والتوزيع، 1987، ص 22.
[2]المصدر السابق، ص 22.
[3]المصدر السابق، ص 22.
[4]المصدر السابق، ص 28 : 29.
[5]المصدر السابق، ص 29 : 30.
[6]المصدر السابق، ص 31.
[7]المصدر السابق، ص 31.
[8]المصدر السابق، ص 33.
[9]المصدر السابق، ص 68.
[10]المصدر السابق، ص 46.
[11]المصدر السابق، ص 48.
[12]المصدر السابق، ص 63.
[13]المصدر السابق، ص 51.
[14]المصدر السابق، ص 67.
[15]المصدر السابق، ص 75.
[16]المصدر السابق، ص 61.
[17] المصدر السابق، ص 62.
[18] المصدر السابق، ص 62.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبدالعاطي طُلْبَة

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا