لماذا نشعُر بالاطمئنان والراحة عندما نقوم بمُمارسة طقوسَنا الدينيّة؟

أولًا علينا أن نُعرِّف الدين، سأُعرّفهُ حسبَ علماء الاجتماع الدينيين، أو علماء اجتماع الأديان. يقول علماء الاجتماع أنّ الدين قضية إشكالية مُعقدة، يصعُب بشكل سلس تحديدُها، ضبطُها، تعريفُها بدقةٍ كبيرة، لكنهُم أثبتوا أنهُ ظاهرة ثقافية مُعينة أكثر مما هيّ طبيعية، هو مجموعة من المُعتقدات المُتعالية، والأفكار الغيّبية الخارقة، والمُمارسات الاحتفالية والطَقسّية، التي تتمثَل بالقيَّم الفُضلى، كالتمسُك بالجماعة أو عبورهم، حسب فَهْم الإنسان إنهُ عَبرَ من المُدنَس إلى المُقَدَّس، أو الانتقال من الحياة الآنيّة إلى الحياة الأخروية شعوريًّا وروحانيًّا، الدين هو “تابوه” لا يُمكن المَساس بهِ بالسهولة التامة، لأنهُ مجموعة من الترتيبات الزمنية التي ترسخت في اللاوعي سواء عِنْدَ المُسلمين: فإن “الله” هو القوى العُليا السامية، أو عِنْدَ المسيح: “الفناء في الذات المصلوبة”، أو عند الهندوس: “الإلهة شيفا”. بالأحرى إنّ الدين هو عقائد مُتوارثة نتيجة عمليات انتخاب تأريخي، صُممت لهدفٍ ما، كالسيطرة وإدارة الأفراد أو لأهداف شخصية أو ثانوية أو خاصة، حسب تحدُر الدين في المنطقة المعينة من الكرة الأرضيّة (هذا مُختصر، سيكون لي شرحٌ كامل عن أصل الدين ونزعتهُ وكل ما يتعلق بهِ، في مقالاتٍ لاحقة، سأعتمد بذلك على مؤلف كتاب الغُصن الذهبي العظيم جيمس فريزر وغيرهُ).

الطقوس الدينية هيّ ليست إلا مُحفزات أفيونية دماغية تعمَل على إفراز هرمونات إيجابية عن طريق حركاتٍ وخطوات مُحددة، هذهِ الهرمونات مثلُها مثل الأدوية والعقاقير المُهدئة التي تُغير المِزاج بشكلٍ إيجابيٍّ ومرِح.

سأذكُرُ الهرمونات المُتعلقة بالدِّماغ وبعدها كيفَ ترتبط هذه الهرمونات مع الطقوس الدينية، والعقائد المُعينة:

أولاً: هرمون السيروتونين: هذا الهرمون من أهم الهرمونات، وظيفتهُ هي التحكم في المزاج العام لدى الإنسان؛ مثلًا لو ماتَ شخصٌ قريب عليك سينخفض هذا الهرمون، أو حصلَ أمرٌ سيّئ ستشعر بالكآبة، لكنك لو ربحت 5 مليار ستفرح ويرتفع، وطبعًا أغلب العقاقير التي تعالج الاكتئاب مثل البروزاك و”MAOI” هي مُحفزات لإنتاج هرمون السيروتونين.

ثانيًا: هرمون الدوبامين: مادة كيميائية تتفاعل في الدَماغ لتؤثر على كثيرٍ من الأحاسيس والسلوكيات بما في ذلكَ الانتباه، والتوجيه وتحريك الجسم. يؤدي الدوبامين دورًا رئيسيًّا في الإحساس بالمتعة والسعادة والإدمان، وهذا الهرمون من أساسيات الإدمان مثل مادة النيكوتين، فهي تُحرض على إفراز هذا الهرمون؛ لذا ترى المُدخنين يدمنون على النيكوتين. وأغلب المُخدِّرات محفزة لهرمون الدوبامين، كذلك “الميث الأبيض”.

إعلان

ثالثًا: الأدرينالين: ووظيفته إسراع عدد نبضات القلب.

رابعًا: الأوكسيتوسين: هذا الهرمون وظيفته زيادة الشعور بالحب والثقة والتعاطف مع الآخرين، ويقلل الشعور بالخوف ويقوّي العلاقات بين الأفراد.

خامسًا: المورفين أو الإندورفين: وهذا الهرمون وظيفته يقلل الشعور بالألم، أغلب الْبَشَر يتألمون إذا لم يلعبوا الرياضة أو إذا لم يذهبوا إلى لعمل، لأنهُم مدمنين على هرمون المورفين.

أثناء ممارسة الطقوس الدينية يعمل الجسم على إفراز خليط من الهرمونات، منها ما يقوم بتخفيف الألم (المورفين)، ومنها ما يربط الطقس بالشعور بالسعادة (دوبامين)، ومنها ما يربط الوقوف بين يد الإله بشعور الحب (السيروتونين).

إن الدين عبارة عن خلطة من المواد الكيميائيّة وجميع أتباع هذا الدين يصبحون مدمنين، كمِثال إذا كُنتُ أعبدُ البقر وهُناك مجموعة من الأصدقاء يعبدون البقر وذهبنا لمُمارسة هذهِ الطقوس في المعبد، فأنا سأشعر بالراحة والسعادة والحب، ليس لأن البقر هو الرب بل لوجود الدوبامين، يتبادر لي بأن البقر هو الرب.

أما إذا كان شخص ما قامَ بإنكار وجود البقر -الرب- سيقوم الدماغ بمحاربة هذا الشخص لأنهُ يطعن سعادتي وحبي للرب. إن الأطفال منذ الصغر يدمنون على تلك الطقوس وتترسخ بهم أكثر، إلى أن يكبروا فتبقى مترسخة بهم هذهِ العقائد، ولا يستطيعون التخلص منها بسبب الإدمان.

هناكَ عقاقير لها تأثيرٌ شبه روحاني، يُثير فينا تناولها تأثيرًا يبقى لفتراتٍ طويلة، لها تأثيرٌ نفسي على المُخ والسلوك، قد استُخدِمت لأغراض دينية مُنذ زمن ما قبل التأريخ، ولا يزال لها تأثير الاحتفالات، يُشير العلماء “دوبلن، جريفنثز، روك”، أنَ الهلاوس البصرية بشكلٍ خاص قد قُدح زنادها بواسطة عمليات فيسيولوجية عصبية، لها سرٌ داخلي، مثل المشاعر المُتخيلة “الأورا”، التي تسبق نوبة الصداع النصفي.

يُقال: لا يستطيع علم الأعصاب أن يُبرهن على ما إذا كانَ المخ البشري قد خلقهُ الرب أو العكس بالعكس، وبهذا تكون هناك حاجة للحجج الفلسفية أيضًا، لكنَ النزعة الطبيعانية لا تدعمُ الرأي السابق، تکنيکات تصوير المُخ لا تظهر لقطات فوتوغرافية “للنرفانا”. وليس من المُرجح أن يكونَ هناك خطٌ ساخن للسماء مبني داخل الفصوص الصَدغية أو الجبهية -جهازُ بثٍ للرب-. وعلى عكس ذلك فإن الخبرات الدينية من نوبات صرع الفص الصدغي أو التَحفُز الاصطناعي، والتي كانَت تُفسَر على أنها تأثيرات فوقَ طبيعية بواسطة الضحايا العاجزين أو المؤمنين المُتطَبعين اجتماعيًّا، هي فيما يَحتمِل مُجرد كاميرات أو أشكالَ وحوشٍ خرافية.

الحديث عن أنّ أنموذج الرب داخل المُخ قد يكون ناقصًا عند المُلحدين، أو يُمكن جزّهُ بعملية استئصال “للرب”، لهو حديثٌ مضحك وإن كان مُضَلّلًا، على أنهُ قد يحدث أن تكنيكات الحَفز العقلي في المستقبل قد تخلق آلهةً ما، نوعًا من أشياء متخيَّلة فائقةً أصلها مما بعد الحداثة ويكونُ ذلك بواسطة انتخاب ثقافي.

هُناكَ حجج فلسفية مُفعمة بالقوة توفر دعمًا قويًّا للزعم بأنهُ لا يوجد رب يتجاوزُ خيالَنا، ينبغي ألا يُسبب ذلكَ دهشة لأي فرد لا يکون معميًّا أيديولوجيًّا، وذلك لأنهُ كما لاحظتُ ذات مرةٍ ريتشارد دوكنز: “نحن كلنا ملحدون فيما يتعلق بمعُظم الآلهة التي آمنت بها البشريةُ بأي حال، وبعضنا يمضي ما هو أبعد فحسب بإلهٍ واحد”، إلا أنهُ على الرُغم من القرون التي امتلأت بالمناقشات الحاسمة والتقدم العالمي، فإن الإيمان والمعتقدات الدينية ما زالت واسعة الانتشار، هذا الاستمرار الذي ربما يكونُ نتيجةً للتفكير بالتمني المُلازم لذهنية البَشر، والتهرب من مواجهة ما هو محضَ سخافةٍ أو عملية دفع قُوى أثناءَ الطفولة، يدلُّ على أن هناك قوى أُخرى لها دورها غير التنوير، والعقل والتشَكّك.

إنَ الطبيعة أقوى من التبصُّر العَميق، “المخ البَشري هو في جزءٍ كبيرٍ منها، ماكينة لكسب المُجادلات، ماكينة لإقناع الآخرين بأن صاحبها على صواب، وبالتالي فهي ماكينة لإقناع صاحبها بالشيء نفسهُ”. فالمُخ مثل محامٍ ماهر: فهو عند إعطائهِ أي مجموعة من المصالح ليدافع عنها، يشرع في إقناع العالم بجدارتها الأخلاقية والمنطقية، بصرف النظر عما إذا كان لها في الحقيقة أيٌّ من الاثنين. المُخ البشريّ مثل المُحامي، يريدُ النصر، وليس الحقيقة، وهو مثل المحامي يکونُ أحيانًا مثارًا للإعجاب لاتصافهِ بالمهارة أكثرَ من اتصافه بالفضيلة.

ما هي الأدلة أو الشروط التي يطرحها عُلماء اجتماع الدين، في جدلية “لماذا التديُن مُستمر على طول العصور”؟

أولًا: النجاح التكاثُري: يَجِب أن تؤدي السمة، على الأقل في الفترة المتوسطة، إلى صلاحيةٍ بيولوجية أعلى، وبالتالي فإنَ الأفراد الذين لديهم هذهِ السِمة ينبغي أن تكونَ لديهم في المتوسط ذريةٌ أكثر من مُنافسيهم داخل النوع ممن ليس لديهم هذه السمة أو لديهم تحقُق لها بدرجة أضعَف، كما أن ذريتهم يجب أن تنتج أيضًا في المتوسط المزيد من الذرية، وهلُمَ جرا. لا يكفي وجود سلالة كثيرة إذا كانوا هُم لا يَتكاثرون، لأنَّ الأمرَ هكذا يكون فيهِ طريقٌ مسدود للتطور.

ثانيًا: التوارث: يَجب أن تكون السمة -جُزئيًّا على الأقل- مَحتومة وراثيًّا، ذلكَ أن ما يورث هو الذي يُمكن لهُ وحدهُ أن يكونَ موضوعًا للانتخاب، السمات التي يتِمُ اکتسابها بالتعلُم، أو بالتأثيرات البيئية عمومًا، لا يُمكن أن تدخُل خط الخلايا الجرثومية، يعترف الجميع بأن هذا لا يعني أن السمات الموروثة تكون دائمًا مُستقلة عن البيئة، سنجد على عكس ذلكَ أن القُدرات المعرفية والمهارات السلوكية بالذات، كلها تَعتمد بقوةٍ على الظروف البيئية، قُدرة الإنسان على الكلام مثلًا فطرية ولكنها لا يُمكن أن تنمو بدون بيئةٍ لغوية، يتم اكتساب اللُغة بسرعة وبدون جهدٍ كبير، بشَرط وجودِ الحوافز المُناسبة الكافية والمختصة.

ثالثًا: التحقق: إن السمة يجب إلى حدٍ ما أن يكون لها أساس فيزيقي يتَحدد وراثيًّا، وإلا فإنها لا تكونُ جزءًا من الطبيعة، وبالتالي لا يُتاح التوصل إليها بمناهجِ العلم الطبيعي. والسمات المعرفية والسلوكية يجب أن تستَهل بعملياتٍ عَصبية، تحقق السمات، الذي يمكن وصفهُ عند مستويات مختلفة “وراثية، وبيوكيميائية، وعصبية، فيزيولوجية وتشريحية، وسيكولوجية، وسلوكية”، هو الميكانزم التقريبي الذي يُحدِث الانتخاب مفعولهُ فيهِ.

رابعًا: ميزة انتخابية: القيمة التكيُفية لإحدى السمات يَجب أن تكون قيمة يُمكن إدراكها، ليس هذا بالطبع شرطًا للتكيُف التطوري؛ لأنَ هذا يعني من قبل أن هناك ميزة انتخابيًّا، إلا أنهُ يجب أن يَكون واضحًا، وليس فحسب مُشترطة، أن السمة مفيدة انتخابيًّا، وبالتالي، فإنهُ يَجب أن يتم عمليًّا إثبات أنَ السمة مُفيدة لحائزها، وكيفَ أنها تُساهم في النجاح التَكاثري، يُشير هذا إلى الميكانزم أو إلى الوظيفة التطورية “أحيانًا يسمى هذا بأنهُ تصميمٌ لغرضٍ خاص”. ولكن هذه الفكرة بما فيها من استعارة مجازية تبدو فكرة ذات إشكالية، وذلك لأنهُ حسب النظرية التطورية: “لا يوجد تصميم ولا مُصمم داخل أو وراء الطبيعة”. فيما يعرض لا يحتاج التكيُف لأن يكون هو الحال الأمثل وكثيرًا ما لا يكون هناكَ حتى أي معيار مُقنع لقياس ذلك، وبالإضافة لذلك فإن الإنتخاب الجنسي يكونُ عادةً متعارضًا مع الانتخاب الطبيعي، وفيهِ إضعاف لاحتمال البقاء على قيد الحياة.

هناكَ مَنفعة عِصابية تُسَهل إيقاعية الكلام؛ كتَب نيتشه في العلم المَرح “العبادات وسيلة للتَسكين أمامَ آلهةٍ مجنونة” صـ 102.

حسنًا، فالثواب والعقاب، طريقان يُفتحان ويُغلقان بالمَجان، ومستواهُما يرتَكنُ عادةً بخلق موادٍ تزييفيّة. في هذهِ الأيام العلمُ قادر على توفير تلكَ “التسكينات”، طالما تتعَلق المسألة بالانحياز نحو مشاعرنا لتحقيق الفضيلة، وبالتأكيد هي مشاعر نسبية وتحملُ قدرًا من الوقت، لكنها مثلَ تلكَ التي يتعبها أولئكَ الذينَ يُعانون من قفزٍ وقفرٍ متواصل معَ الوجود.

يكتُب أونفراي عن مُفارقةٍ غريبة: إن الدين يأتي استجابةً لفراغ وجودي عند من يعلم أن عليه أن يموت يومًا ما، وأن استقرارهُ على الأرض محدودٌ في الزمن، وأن كُل وجودٍ يندرج مسرعًا بين عدمين، لكن الخُرافات تُسَرِّع العَملية لتجعل الموت يحلُ فوقَ الأرض باسم الخلود في السماء، وهي بذلك تُفقدنا الشيء الوحيد الذي نملكهُ: المادة الحية لوجودٍ يتم قتلهُ في مهدهِ، بدعوی زوالهِ، لكن مبدأ “لا تكن حتى لا يكون عليك أن تموت” هو حسابٌ خاطئ، ذلك أننا نؤدي للموت الضريبة مرتين، في الوقت الذي كانَ بالإمكان الاكتفاء بمرة واحدة.

المراجع/
- أولفير ساكس، نزعة إلى الموسيقى.
- مقارباتٌ مُنشَقة مُقارباتٌ كلاسيكية في سيسيولوجيا الدين.
- التطور البيولوجي للعقل، فولاند.
- تطور العقل من البكتيريا حتى باخ، دانيال دينيت.
- أصل الدين، فويرباخ.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مريم حمدي

اترك تعليقا