كيف وظَّف ستة فلاسفة أفكارهم السياسية؟ (مترجم)

يذكِّر الفلاسفة أنفسهم في مناسبات عديدة أنهم يميلون إلى مناقشة العالم بدلاً من محاولة تغييره، لكن ذلك لا يعني أنَّ جميعهم رفض فرصة اختبار أفكاره في الساحة السياسية. تقلد العديد من الفلاسفة المشهورين مناصبًا في الحكم وحاولوا تطبيق نظرياتهم. يلقي هذا المقال نظرة على تجربة ستة فلاسفة سياسيين ممن شغلوا أدوارًا في السلطة. 

كونفوشيوس: وزير العدل لمقاطعة لو

يعتبر «كونفوشيوس – Confucius» مؤسِّس الكونفوشيوسية، أهم فيلسوف في تاريخ الصين. لا تزال العديد من أفكاره سائدة في الثقافة الصينية وشرق آسيا اليوم. تركِّز فلسفة كونفوشيوس السياسية على أفكار الشرعية والنظام الاجتماعي والالتزام بالطقوس والشعائر. ولقد كان مؤثرًا بلا شك في زمانه. عمل كونفوشيوس في العديد من الوظائف الحكومية عندما كان شابًا قبل أن يصبح وزيرًا للعدل في مقاطعة لو – وهي دوقية صغيرة نشأت خلال عهد أسرة تشو. اشتهر كونفوشيوس بأسلوب تدريسه واقترح تغييرات جذرية لمركزية الحكومة.

تسبَّبت خطته التي تقترح هدم جميع القلاع التي لا تنتمي إلى الدولة المركزية في إثارة التمرُّد، لكن هذه الحالة انتهت عندما قرر كونفوشيوس نقل الدوق وشخصيات مستهدفة أخرى إلى برج مملوك لرئيس الوزراء، والذي كان كونفوشيوس يعتقد أنه العقل المدبر للتمرد، وبذلك، لم يجرؤ معظم الجنود على مهاجمة القلعة التي يملكها رئيسهم، وقلة من الذين دخلوا المبنى عادوا عندما أمروا بذلك. لذلك تم ضبط التمرُّد من خلال فكر كونفوشيوس في فهم دور كل فرد في التسلسل الهرمي الاجتماعي.

استمَّر كونفوشيوس في منصبه بعد هذا الحدث، لكنه وجد ذريعة للتقاعد عندما تمادى الدوق في تجاهل واجباته وبعث مرسِلاً بـ مائة حصان سباق وثمانين فتاة راقصة من دولة مجاورة. سافر كونفوشيوس شمال الصين لتعليم فلسفته لكنه لم يكن قادرًا على رؤية العديد من أفكاره تطبّق خلال حياته. و بعد عودته إلى مقاطعة لو في وقت متأخِّر من حياته، عاد للعمل كمستشار حكومي مع التركيز على التعليم.

جون ستيوارت ميل: برلماني في المملكة المتحدة

كان «جون ستيورات ميل – John Sturat MiLl» فيلسوفًا واقتصاديًا إنكليزيًا من القرن التاسع عشر، اشتهر بأعماله في الليبرالية والمنطق والنفعية والاقتصاد السياسي. تم انتخابه لعضوية البرلمان (ممثلاً لمدينة وستمنستر) في عام 1865 كنائب ليبرالي بعد أن قام بحملة لدعم حق المرأة في التصويت، وهو ما يمثِّل تحوُّل جذري في ذلك الوقت وفي وقت لاحق، اقترح ميل تعديلًا قانونيًا إصلاحيًا يوسّع حق الاقتراع ليقول “أفرادًا” بدلاً من “رجال” وكافح من أجل الحصول على دعم مقترحه. تم رفض التعديل بأغلبية 194 صوتًا مقابل 73، واعتبر ميل اقتراح التغيير “ربما الخدمة العامة الوحيدة المهمة حقًا التي أديتها بصفتي عضوًا في البرلمان”.

حاجج ميل ضد وحشية الاستعمار البريطاني في جامايكا، ودافع عن الأيرلنديين ضد تحيز الإنجليز. وعلى الرغم من تصويته بما ينسجم مع دعم الشعوب، فقد ثبت أنَّ مواقفه لا تحظى بشعبية ولم ينجح في اعادة انتخابه، وفي العام الذي أعقب تقاعده المبكِّر من السياسة، وضع كتابه “إخضاع المرأة”، والذي دافع فيه عن حق المرأة بالمساواة في العديد من مجالات الحياة.

ماركوس أوريليوس: إمبراطور روما

كان «ماركوس أوريليوس أنطونيوس – Marcus Aurelius Antoninus» إمبراطور روما بين 161 و180 بعد الميلاد. كان آخر “الأباطرة الخمسة الصالحين”، وشكلت وفاته إيذانًا بنهاية العصر الذهبي من الازدهار الروماني والاستقرار النسبي. كان أيضًا فيلسوفًا رواقيًا مشهورًا بملاحظاته الخاصة، والتي وصلنا منها بكتابه “التأملات-Meditations“.

توفِّر التأمُّلات نهجًا عمليًا للرواقية، وهي فلسفة مكرسة للوصول إلى السعادة من خلال اتباع الفضائل والتصرف وفقًا للطبيعة. جادل الرواقيون بأنَّ الفضيلة وحدها كافية لحياة جيدة، على الرغم من أنَّ إتقان رغبتك في “اللامبالاة” – ما لا يعتبر فضيلة أو رذيلة – كان أيضًا مهمًا. امتلك الفلاسفة الرواقيين أيضًا نموذجًا للكون ونظامًا للمنطق. و بينما يتبع ماركوس أوريليوس عمومًا المدرسة الرواقية، فإنه يستشهد أيضًا بالفلاسفة الآخرين وأفكارهم بما يتناسب مع احتياجاته. وتشكِّل التأمُّلات موردًا لا ينضب من الاقتباسات الملهمة، لكنها ليست منظمة بطريقة تجعل فهم الرواقية واضحًا. 

تميَّزت فترة حكم ماركوي أوريليوس بالاجتهاد وما ذلك كانت فرص العمل محدودة آنذاك. وقد تحمَّل أوريليوس النقد من الكتاب المسرحيين – وهو أمر نادر في روما – وأظهر اهتمامًا جادًا ومهارة في إدارة القانون. كما واجه أيضًا صراعًا أولاً مع بلاد فارس ولاحقًا مع القبائل الجرمانية. وتمت كتابة أجزاء كبيرة من التأملات “على حافة العالم المعروف مع الجيوش البربرية وراء الأفق”، حيث كان يتواجد معظم الفلاسفة الرواقيون. و كان هناك بعض النقاش حول كيفية تأثير فلسفته على ابنه 《كومودوس-commodus 》الذي خلفه وأصبح مجرمًأ. ومع ذلك يعتبر ماركوس أوريليوس أقرب ما يكون إلى ملك/ فيلسوف حقيقي رأته البشرية على الإطلاق.

برتراند راسل: مجلس اللوردات البريطاني

كان «برتراند راسل – Bertrand Russell» فيلسوفًا وعالمًا رياضيًا ومفكرًا عامًا وعضوًا دائما في مجلس اللوردات البريطاني. ويعد راسل  أحد مؤسِّسي الفلسفة التحليلية الذين تناولوا مجموعة واسعة من الموضوعات، مع اهتمام خاص بالمنطق والمعرفة واللغة. ومع ذلك، فقد تجاهل الجماليات لأنَّه -كما أوضح- لم يفهمها ولم يمنعه عدم الفهم من الكتابة عن مواضيع أخرى. 

ورث راسل لقب إيرل من أخيه، وعمل من عام 1931 إلى عام 1970 كرفيق في حزب العمال. ومع ذلك، نادرًا ما حضر أو تحدَّث في أكثر من ست مناسبات فقط. تمحورت خطاباته حول السلام ونزع السلاح والمساعدات الخارجية والحكومة العالمية. و يعتبر خطابه الأخير حول نزع السلاح النووي أفضل ما قدم. 

ترشَّح راسل للانتخابات البرلمانية بصفته ليبراليًا مستقلاً في عام 1907 وكمرشَّح عن حزب العمال في عامي 1922 و 1923. ولم يوافق على القيام بذلك إلَّا حين تأكَّد من  أنَّ المقاعد بأمان في أيدي المحافظين. وعلى الرغم من سجله المختلط في السياسة المؤسسية، فقد كان ناشطًا في معظم حياته لأسباب عديدة وتسبَّب نشاطه باعتقاله في عدة مناسبات. 

سقراط: رئيس أثينا ليوم واحد

كان «سقراط – Socrates» فيلسوفًا أثينيًا يعتبر على نطاق واسع مؤسِّس الفلسفة الغربية. في حين أنه من الصعب تجميع صورة دقيقة تمامًا لكل معتقدات، إلَّا أننا نعلم أنه تحدَّث عن العديد من القضايا الفلسفية. وكما نعلم كان سقراط يحترم القانون بشكلٍ بالغ ورفض انتهاكه حتى عندما كان من الممكن أن ينقذ ذلك حياته. كان من المتوقَّع أن يشارك سقراط، كمواطن في أثينا، بشكل مباشر في الشؤون السياسية من خلال حضور اجتماعات الجمعية – المجموعة الديمقراطية للرجال الذين تم منحهم حق التصويت والعمل في إدارات مختلفة. في إحدى الحوادث الطارئة، أشرف سقراط على الجمعية ليوم واحد.

خلال الحرب البيلوبونيسية، كان انتصار البحرية الأثينية منقوصًا بسبب فشل القادة في إنقاذ الرجال على السفن الغارقة جراء العاصفة التي تعتبر من “أعمال السماء”، ولم يكن الجنرالات مسؤولين عنها، إلَّا أنَّ الغضب العام من الخسائر في الأرواح أدى إلى عقد محاكمة في الجمعية على أي حال. عندما تم إعلان أسماء المسؤولين الذين يشرفون على الجمعية في ذلك اليوم، كان سقراط واحدًا منهم. وعلى الرغم من اختلاف الروايات، فقد يكون ذلك اليوم هو الذي شغل فيه سقراط رئاسة الحكومة الأثينية. و تعهَّد سقراط بالتصرف “وفقًا للقانون”.

كان التصويت على مدى تورط الجنرالات الذين اعترفوا بعدم إنقاذ البحارة الغرقى، حيث اعتقد سقراط ورفاقه أنَّ الاقتراح غير قانوني. و عندما غضبت الحشود، غيَّروا رأيهم جميعًا باستثناء سقراط. في النهاية، وبعد بعض المناورات البرلمانية ، تم التصويت وأدين جميع الجنرالات وأعدم ستة منهم. وقد أبدى الأثينيون الندم على هذا القرار في وقتٍ لاحق، واتّهم الذين أثاروا القضية بتضليل المجلس. ويخبرنا أفلاطون في كتابه محاورة جورجياس أنَّ سقراط قد ذكر هذه الأحداث بشكل قاتم، متذكرًا أنه تعرض للسخرية بسبب “عدم فهمه للإجراءات”، لكنه كان الأكثر تمكنًا قانونيًا بين أقرانه.

بيير جوزيف برودون: برلماني في فرنسا

كان بيير «جوزيف برودون – Pierre-Joseph Proudhon» فيلسوفًا وسياسيًا واقتصاديًا فرنسيًا من القرن التاسع عشر، صاغ مصطلح “الأناركية” ويعتبر على نطاق واسع مؤسس الفكر الأناركي الحديث، والمعروف باسم اللاسلطوية. تدعو الأناركية إلى أسواق حرة نسبيًا وأماكن عمل تعاونية وحكم فدرالي من خلال الجمعيات الأهلية وخطة ثورية تدعو إلى بناء مجتمع جديد.

على الرغم من كونه أناركيًا/ فوضويًا، فقد ترشَّح لمقعد في الجمعية التأسيسية الفرنسية بعد ثورة 1848، واصفًا نفسه بالفدرالي. وأثناء توليه المنصب، شارك في النقاشات حول ورش العمل الوطنية ومراكز توفير العمل للعاطلين عن العمل. وبينما كان متشكِّكًا في فعاليتها المحتملة، فإنه كان يرى أنَّ الحوار يجب أن يظلَّ قائمًا تحسبًا لأي تغيير. 

جادل برودون مطولًا في إجراء تغييرات شاملة في الاقتصاد الوطني، بما في ذلك خطابه الذي امتد لثلاث ساعات ونصف حول ضرورة إلغاء الملكية الخاصة. وقد انتهت ولايته في منصبه عندما تم القبض عليه لانتقاده الرئيس (لاحقًا الإمبراطور) نابليون الثالث. وبحلول وقت إطلاق سراحه، كانت فرنسا إمبراطورية مرة أخرى. في النهاية، حتى هو اعترف بأنه لم يكن سياسيًا مؤثرًا، لكنه ترك كتابان مهمان كتبهما بعد خروجه من عالم الديمقراطية التمثيلية.