كيف كان ماكلوهان مُحِقًا عندما قال: الوسيلة هي الرسالة؟

إن البحث في رسائل وسائل الإعلام يجب أن يتجاوز التَّفكير بما يحمله المحتوى من مضامين إلى دراسة الوسيلة التي تنقل هذا المحتوى وتُحدِّد خصائصه. على سبيل المثال، السيارة وسيلة للحركة، ربما تبدو الرسالة الأساسيَّة للسيارة هي التنقُّل، لكن تصميم الوسيلة نفسه يحمل رسائلًا أبعد من ذلك، يمكننا أن نستكشفها من التساؤل: هل صُمِمَّت السيارة بمقعدين أماميين أحدهما للسائق لتعكس ثقافة اقتصاديَّة وسياسيَّة مُحدَّدة؟ لماذا صُمِمَّت السيارة كوحدةٍ مُكعَّبة الشَّكل من بين الأشكال الهندسيَّة الأخرى؟ هل تُعزِّز بنية أوَّل سيارة تَمَّ اختراعها في فرنسا حالة فردانيَّة أم جمعيَّة؟ وهل كانت هذه البنية ستختلف لو كانت أوَّل سيارة قد ظهرت في حضارة غير أوروبيَّة؟  

هذا هو فحوى نظرية مارشال ماكلوهان “الوسيلة هي الرسالة”، التي تُقدِّم طريقة مختلفة وناقدة للتَّفكير في وسائل الإعلام، وتدعونا لتجنُّب التَّفكير بمحتوى الراديو، والتلفاز، والصُّحُف، والمجلَّات، وغيرها. والسَّعي لدراسة الحالة التي تخلقها هذه الوسائل نفسها وأثرها في المُتلَّقي. قدَّم ماكلوهان نظرية “الوسيلة هي الرسالة” في كتابه ” فهم وسائل الإعلام”، معتقدًا أن الوسيلة التي يتِمّ من خلالها نقل الرسالة، وليس الرسالة نفسها، تلعب الدور الرئيسيّ في عَالَم الإعلام ويجب أن تنال التركيز الأكبر من البحث، حيث “إنها تُشكِّل وتتحكَّم في حجم التصوُّر الجمعيّ والترابط الإنسانيّ”، وذلك في كل وسائل الاتصال، بدءًا من محاولات الإنسان الأولى للتواصل من خلال اللُّغة الشفويَّة، حتى الثَّوْرة التكنولوجيَّة التي تنبَّأ بها ماكلوهان، على الرَّغْم من أنه توُفِّي عام 1980، أي قبل اختراع الإنترنت. 

تفترض النظرية أن الوسيلة وَسطٌ غير مُحايدٍ بل ذي تأثيرٍ في الناس، لأن الوسيلة تظهر لتلبية حاجة ما وتتشكَّل بطريقةٍ تستجيب لهذه الحاجات. لكل وسيلة، من آلَة الطباعة إلى الراديو إلى التلفاز حتى الإنترنت، خصائص فريدة تتحكَّم أو تُشكِّل رسالة بحَدّ ذاتها. مناقشة موضوعٍ ما في محطة راديو سيكون مختلفًا عن تقديم نفس الموضوع في برنامج تلفزيونيّ بغض النظر عن المحتوى. وتنبع هذه الاختلافات من تصميم وطبيعة كل وسيلة تتميَّز بلون وشكل وملامح وقواعد تلعب جميعها دورًا في طريقة تلقي الرسالة والتأثير في الجمهور من خلال استقبال حواسنا للمعلومات المُعَالِجة بالطريقة التي تَمَّ تحديدها لنا. إذا حددت صحيفة ورقيَّة مساحة لمناقشة قضية معيَّنة بما لا يتجاوز 400 كلمةٍ، فإن الرسالة هي ليست محتوى الكلمات المنشورة، بل حجم المساحة المخصَّصة لمُعَالَجَة هذه القضية مقارنة بالقضايا الأخرى، وخصائص الصِّحافة الورقيَّة التي لا تتيح خيارات مرئيَّة وتفاعُليَّة بخلاف التلفاز مثلًا. 

حسب النظرية، إن الوسيلة كتكنولوجيا أو اختراع قد تنطوي على وسائلٍ فرعيَّة مُتعدِّدة. بكلماتٍ أخرى، التلفاز وسيلة بحَدّ ذاته لكنه يتكوَّن من قنواتٍ متعدِّدة تُمثِّل كل واحدة منها على حدةٍ وسيلة من الدرجة الثانية تساوي -على الأقل- رسالة. بالإضافة إلى ذلك، “محتوى أي وسيلة هو في سياق آخر وسيلة أخرى”، مثلًا المفردات هي محتوى الكتابة، والكتابة هي محتوى الطباعة، والطباعة هي محتوى التلغراف. عندما ركَّزت معظم نظريات الاتصال على الرسالة من خلال التركيز على ما هو واضح وهو المحتوى، كانت نظرية ماكلوهان أكثر شُمُوليَّة من ناحية النظر للوسيلة بالمعنى الواسع وعَلاقتها بالتغييرات الهيكليَّة والجذريَّة في شؤون الشُّعُوب، والتي يتِمّ التأثير فيها بدهاءٍ على مدى فتراتٍ طويلة من الزمن.

إن الرسالة التي تُقدِّمها الوسيلة هي رسالة المُصمِّم، “مُستحدث” الأداة التي تحمل قِيَم الثقافة والتاريخ والاقتصاديَّات السياسيَّة في المجتمع الذي ظهرت فيه، وهي قِيَم قد لا تكون مشتركة مع مجتمعاتٍ أخرى، لكنها تستمر في التأثير فيها. إن القوَّة التي تفرضها الوسائل تختلف عن القوَّة العسكريَّة، لكن أثرها ومكوناتها الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة لا تقل أهمية عن ذلك. تمتلك وسائل الإعلام الجماهيريّ أثرًا على المدى البعيد، يُساهِم في خدمة ترتيب عالميّ ضخم لمصلحة مجموعة من الأشخاص أو الأنظمة، في حين يقع المُسْتَخدِم دون وعيٍ في تَسلْسُلٍ هرميٍّ إقطاعيٍّ ينتفع فيه طرف واحد. على سبيل المثال، قامت آلَة الطباعة بجعل الكُتُب في متناول أي شخصٍ، وهي بذلك لم تُروِّج للقراءة فقط أو لمحتوى الكُتُب التي يتِمّ طباعتها، بل للفرديَّة التي تجمع القارئ وكُتُبه، الفرديَّة التي تُعَدّ الثيمة الأساسيَّة في الرأسماليَّة واقتصاد السُّوق. 

إعلان

قدَّم ماكلوهان في نظريَّته مصطلح “القرية العالميَّة”، وتنبَّأ بشبكة الويب العالميَّة وطبيعة القِيَم التي تحملها، حيث اختلفت الطريقة التي نحصل بها على الأخبار مقارنة بكيفيَّة الحصول عليها زمن الصِّحافة المطبوعة. وظهرت وسائل التواصل الاجتماعيّ كضرورةٍ بشريَّةٍ مُلحَّة للاتصال ومصدرًا كبيرًا للمعلومات والبيانات، دون أن نسأل أنفسنا: هل فعلًا نحن نحتاجها أم تَمَّ خَلْق حاجتنا لها؟ بدون هذه الوسائل أيضًا، لن يكون عددًا من النشطاء معروفًا لنا على الرَّغْم من أنهم سيكونون أحياءً معنا على الكوكب، لكن الوسيلة هي من سمحت ودعَّمت شُهْرَة بعض الأشخاص وقيَّدت شُهْرَة آخرين. 

تنطوي نظريَّة “الوسيلة هي الرسالة” على فِكْرة الحتميَّة التكنولوجيَّة التي تُحتِّم الرضوخ للتكنولوجيا وللطريقة التي تُحددها للقيام بالأشياء. لم تكن لتضطر أبدًا لإنشاء “ايفنت” على الفيسبوك للدعوة لمُظَاهرة قبل وجود الفيسبوك نفسه، مثلما لم تُفكِّر أبدًا بإجراء مُكَالَمَة لبرنامجٍ إذاعيٍّ من أجل إصلاح الشارع في حيّك قبل اختراع الراديو وبرامجه المجتمعيَّة. هكذا قنَّنت الوسيلة من مشاركتك السياسيَّة أو الاقتصاديَّة، حتى لو امتلأت غضبًا على سياسات المنصَّات ذات الخوارزميَّات المُصمَّمة لدراسة سلوكك وأفكارك، فإنَّك ستحتج على الفيسبوك من خلال منشورٍ على الفيسبوك، مُتجَاهِلًا بأنك عندما “لا تدفع ثمن مقابل السِّلْعَة، تكون أنت السِّلْعَة”، ومُستَبعِدًا خيار التخلي عن تكنولوجيا الفيسبوك كلها. يُهيمن مفهوم الحتميَّة التكنولوجيَّة على الأجيال القديمة مثلما يؤثر في أولاد العصر، لأن الفجوة ما بين “المُهَاجرين الرقميين” و”المواطنين الرقميين” تزداد، ما يجعلهم يبذلون قصارى جهدهم لتبني أي مقترحاتٍ جديدة، بغض النظر عن مدى اقتناعهم بها. 

صُنِفَّت هذه النظريَّة على أنها من نظريَّات التأثير القوي، رغم أنها لم تُغيِّب دور المُسْتَخدِم. ذكر ماكلوهان أن مُعَايشة الوسيلة تتطلَّب “وعيًا حِسيًّا فوريًّا للكيان ككل”، بدلًا من انتقاد العمل الإعلاميّ كجزئيَّاتٍ، وأوصى المُتلَّقين “بالنظر إلى ما هو أبعد من ذلك والبحث عن التغييرات أو الآثار غير الواضحة التي يتِمّ تمكينها أو تعزيزها أو تسريعها أو توسيعها بواسطة الشيء الجديد”، مع الأخذ في الاعتبار أن “ملاحظة التغييرات” في الظروف المجتمعيَّة أو الثقافيَّة تُشير إلى وجود رسالة، أي وجود وسيلة جديدة. على سبيل المثال، إن الطريقة التي صُمِّمَ بها الانستجرام والتي تتيح مشاركة المحتوى المرئي ومعالجته بشكلٍ رئيسيٍّ، وتُعزِّز من انتشاره باستخدام هاشتاجات مُحدَّدة رُوِجَت لنمط الحياة المثاليَّة، حيث يسعى الأفراد لنشر أفضل ما لديهم أو ما يدَّعون أنه لديهم بطريقةٍ تبيِّن وكأن جميع الشرائح المجتمعيَّة تعيش في نمط حياة باذخ. الرسالة التي يحملها الانستجرام كتطبيق تواصُلٍ بحَدّ ذاته، هي تعزيز مستوى اقتصاديّ مُحدَّد، السبب ذاته الذي يجعلنا نشعر أن الناس في تويتر مثقفون بالضرورة، وأن مستخدمي التيكتوك أكثر سذاجة بدون الحاجة لتحليل محتوى كل هذه التطبيقات. 

تتقاطع مبادئ هذه النظريَّة مع مجموعة من النظريَّات والمدارس الإعلاميَّة الأخرى، حيث تُعَالِج نظريَّة الاستخدامات والإشباعات في مناقشة كيفية تلبية الوسائط لاحتياجات الناس عبر العقود، ونظريَّة الغرس الثقافيّ حيال الآثار طويلة المدى في تصدير أنماط حياة مُحدَّدة على أنها “الأنماط المعيشيَّة المثاليَّة”، ونظريَّة التَّبَعِيَّة الإعلاميَّة في ذِكْر العَلاقة بين وسائل الإعلام وخدمة الآيديولوجيَّات العالميَّة، ونظريَّة التحصين والتطهير عند تسليط الضوء على دور المُسْتَخدِمين في العملية، ونظريَّة انتشار الابتكارات عند وصف التوزيع الطبيعيّ لقبول الناس للوسائط الجديدة، ونظريَّة حارس البوَّابة عند توضيح سُلْطَة الحتميَّة التكنولوجيَّة على خيارات المحتوى.

إن الوسيلة، بحسب ماكلوهان، هي التي تُشكِّل تصوُّر المُسْتَخدِم للرسالة، والأهم من ذلك، تُشكِّل الرسالة نفسها. بطريقةٍ تشبه إلى حَدٍّ بعيد قصيدة “غزو من الداخل“، التي كتبها الشَّاعر اليمنيّ عبد الله البردوني، قائلًا: “غُــزَاة لا أشـاهـدهـم وسيف الغزو في صـدري، فقـد يأتـون تبغًـا فــي سجائـرَ لونهـا يـُغـري، وفـي ســروال أسـتـاذ وتحـت عمامـة المقـري، وفي أقراص منـع الحمـل وفـي أنبـوبـة الحـبـر”. غالبًا ما تتبنَّى وسائل الإعلام خِطابًا ساذجًا تقليديًّا حول امتلاك الحقيقة، في الواقع، نحن نسعى وراء الحقيقة، ولكن لا أحد يمتلكها بشكلٍ كامل وحصريّ. فمن الجدير بنا خلال هذه الرحلة تفادي الغَرَق في تفاصيل المحتوى ومضامينه، بل مراجعة بنية الوسائل المختلفة.

تدقيق: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أفنان أبو يحيى

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا