هل كان ماركوس أوريليوس رواقيًا غليظًا؟

مقال مترجم للكاتب: ماسيمو بيلوتشي 

يُتهم الرواقيون خطأً بغلظتهم ونبذهم  للمشاعر… قد يبدو عنوان المقال مُكررًا، ولكن دعونا نطرح سؤالًا، هل يقمع الرواقيون -جميعهم- مشاعرهم؟ أليست تلك طريقتهم في خوض معارك الحياة برصانة ورباطة جأش؟
في الحقيقة، الإجابة هي لا، ولا حتى ماركوس أوريليوس ، والذي تُصادف ذكرى مولده الثمانمائة وتسع وتسعون بعد الألف في السادس والعشرين من أبريل لهذا العام. 

ثبُت عن ماركوس تدوين يومياته المعروفة بـ “التأملات” والتي نقتبس منها ما يلي: 

“حين تمتلئ مائدتك بالأطباق الشهية الفاخرة، بإمكانك إدراك طبيعتها الأصلية إذا أمعنت قليلًا،  فهذا الصحن عبارة عن سمكة، وذاك أيضًا ماهو إلا رفاة طائرٍ أو خنزير؛ أو ربما ذكّرت نفسك بأن نبيذ فاليرني الرائع ليس إلا عصير عنب، وأن هذ الرداء الأرجواني الأنيق ماهو إلا صوف غنم مصبوغ في دم المحار، أما إذا تأملت علاقتك الحميمة، فستجدها مجرد احتكاك لقطعة من الجلد، يتبعها نوع من الرعشة وطردٍ للمخاط.” (6.13)

لا تبدو هذه التأملات كأفكار شخص ذواقة يٌقدر الطعام والمشروبات اللذيذة (فنبيذ فاليرني كان أفضل شراب يمكن لروماني قديم الحصول عليه)، ناهيك عن شخصٍ رومانسيّ الهوى، ولكن ماركوس كان يُبشر بأسلوبٍ  يصفهُ عُلماء النّفس الحديث بـ “إعادة الصياغة”، ويمكن تفسير سبب كتابته لما سبق ذكره تحديدًا، على أنه طريقته للتخفيف من حدّة ارتباطه العاطفيّ بأشياء من الأفضل رؤيتها في إطار مختلف وأقل جاذبية بعض الشيء. وكما يقول لنفسه “لا تتحمس كثيرًا لمآدب العشاء، تذكر أنّ الطعام وظيفته التغذية، وأنك لا تحتاج صنوفًا من الحيوانات المختلفة في صحنك كي تستمتع بوجبة لذيذة. وإذا انتابك الكِبْرُ يومًا لكونك إمبراطورًا، فما عليك إلا أن تتذكر، أن ذاك اللون الأرجواني الخلاب الذي تزهو به، قد استُخلص من دم قشريات البحر. ولا تحاول الانغماس في الجنس، قدر المستطاع؛ ففي النهاية لديك أربعة عشر ولدًا.”

إذن فالملك والفيلسوف الأشهر في التاريخ لم يكن يحاول قمع عواطفه (الشيء الذي وصفه الرواقيون بأنه مستحيل ومرفوض، على حدٍ سواء)، ولكن عوضًا عن ذلك، حاول ماركوس التحكم بها وضبطها، إذا ما ازعجته وأخذت منحىً مثيرًا للقلق. وفي واقع الأمر، فقد كان أحد أهم الأهداف للممارسة الرُواقية هو بلوغ القدرة على تحويل المشاعر، إن جاز التعبير، من مشاعر سلبية، مثل الخوف والقلق والحقد إلى أخرى إيجابية، كالحب والبهجة والإحساس بالعدالة. 

إعلان

“إن الملك والفيلسوف الأشهر في التاريخ لم يكن يُحاول قمع عواطفه، وإنما عوضًا عن ذلك، فقد حاول ضبطها إذا ما أزعجته وأخذت منحىً مثيرًا للقلق.”

ومن أكثر الانتقادات التي أواجهها بشكل مستمر كممارس للرواقية، هو أننا -نحن الرواقيون- نبالغ كثيرًا في تقدير المنطق، وكأن أكثر مشاكل المجتمع الحديث (أو الروماني القديم) هو التطرف في المنطقية. وقد اتخذ ماركوس أوريليوس من المنطق بوصلة أخلاقية للأفعال، فقد كان يُذكِّر نفسه قائلاً:

“اعمل، ولكن ليس كشخص بائس، ولا كمستحق لشفقة أو إعجاب؛ ولكن عوضًا عن ذلك اجعل صوب عينيك شيئًا واحدًا فقط وطوع إرادتك للتصرف وفقًا له: أن يكون عملك من عدمه، مدفوعًا بما يستوجبه الضمير وصلاح المجتمع.” (9.12)

إذن لا ينبغي لنا الإقدام على شيء، مدفوعين بقوة مشاعرنا، لأنه -حتى وإن حسُنت نوايانا – لا مفر من الوقوع في الخطأ. ولا يجب أن تضيع حياتنا في محاولات لإثارة إعجاب أو اكتساب تعاطف (لتغذية احتياجات الأنا العاطفية)،  فلنتخذ من المنطق منهجًا بديلاً، لدفع الإنسانية إلى الأمام؛ ولنساهم بكل ما أوتينا، لجعل هذا العالم مكانًا أفضل، مع إشراقة كل يوم جديد.

لقد ألف ماركوس “التأملات” بينما يمكث على الحدود الألمانية، يواجه خطر الماركومانيين والقبائل الشمالية، ويُقاتل لأجل حماية إمبراطوريته. وقد واجه خلال فترة حكمه الكثير من الأهوال، التي تتطلب رباطة جأش لضمان استقرار الإمبراطورية: فقد كان عدوان البارثيين يهدد حدوده الشرقية من جهة، وخيانة أقرب مساعديه وأجدرهم بالثقة من جهة أخرى، إضافةً إلى الطاعون الذي اجتاح البلاد وحصد أرواح الملايين، ثم ظنون خيانة زوجته له التي قضَّت مضجعه. لا عجب في أنه قضى وقتًا غير قليل في تذكير نفسه بأهمية الهدوء، والتصرف بصورة أكثر عقلانية ومنطقية، في خضم تلك الكوارث التي ظلّ الكون يمطره بها من كل حدب وصوب.

لا يزال أحد الأساليب التي اعتاد بها ماركوس مواجهة مشاكله، يُستخدم إلى يومنا هذا في علم النفس الحديث، ألا وهو: فكّر كثيرًا ودقّق النظر في الأشياء حتى تراها من منظور أشمل:

“كم هو ضئيلٌ جدًا نصيب الإنسان من هذا الزمن الغامض والأزلي، والذي سرعان ما يذهب به طي النسيان وتبتلعه الأبدية، وكم هو ضئيلٌ جدًا نصيبك من الكمال الماديّ، وروح الكون، وكم ضئيلة تلك الحفنة من التراب التي تزحف عليها اليوم من أرض الله الواسعة. ” (12.32)

تجدر الإشارة بأنه ليس المقصود هنا أن لا نولي شؤوننا ومشاكلنا قدرًا من الأهمية، فكما نعرف، في نهاية المطاف، مصيرنا هو العدم. ولكن الهدف من ذلك هو مقاومة السلوك الإنساني الشائع، والذي أطلق عليه اليونانيون القدامى مصطلح (الغطرسة) -أي المبالغة في تقدير أهميتنا وإمكاناتنا-.

ليس لديّ أدنى فكرة عما تعتقدون، ولكنّي على استعداد للرهان بمبلغ لا بأس به، أن العالم المتحضر يُمكنه التقدم كثيرًا إذا ما تبنّى قادته وساستهم عادات ماركوس أوريليوس في التواضع والتأمل الذاتي.

أوه، وبتأكيد، لنستخدم المنطق أكثر قليلًا. 

نرشح لك: الفلسفة الرُّواقية

 المصدر: https://iai.tv/articles/marcus-aurelius-the-unemotional-stoic-auid-1227

 

إعلان

فريق الإعداد

ترجمة: ريهام عطيه

اترك تعليقا