جون لوك: عملاق الفلسفة (1)

الجزء الأول

بلغ جون لوك العقد السّادس من عمره، ولم تحفل حياته بما يُنبِئ أنّ هذا الفيلسوف سيصبح أحد أهمّ العقول في الفلسفة الغربيَّة. وقد كان العام 1689م عامًا محوريًا في حياة لوك ،فقبلَه كان جون لوك مهمّشًا لم يُنشَر له إلّا بعض المؤلّفات غير الهامّة وكانت في كثير من الأحوال  تُنشر دون اسمٍ، ولكن بعد 1689م تغيّر كل شئ بين ليلة وضحاها، ومع نشر اثنين من أعظم مؤلّفاته وخلاصة فكره، وهما  أطروحتان رئيسيّتان: «رسالتان في الحُكم المدني»  و «مقال في الفهم البشري»  واللتان ستجعلان  العالم يلاحظ  هذا الفكر القوي.

نشأته وكتاباته المبكّرة

ولد جون لوك في الثّامن والعشرين من أغسطس عام 1632م  في أسرة متوسّطة تقطن مدينة وينجتون Wrington   – سومرست-،  وهي بلدة صغيرة تقع جنوب بريستول بإنجلترا، امتلك والده جون لوك الأب بعض الأراضي والممتلكات، واستمرّ في مزاولة مهنة المحاماة وتولّى عدّة مناصب إداريّة في الحكومة المحليّة. وقد ذكر لوك قسوة والده عدّة مرّات كما أشار إلى حنان والدته البالغ، وكانت عائلته من الطّائفة البيوريتانية، وكان والده ضابطًا في سلاح الفرسان البرلمانيّ في الحرب الأهليّة الإنجليزية، بقيادة ألكسندر بوبهام Alexander Popham.

عمل بوبهام عضوًا في البرلمان عام 1645م، ممّا سمح له بالتّوصية بــ لوك للالتحاق  بمدرسة وستمنستر عام 1647م. وفي ذلك الوقت، كانت مدرسة وستمنستر تعدّ أفضل مدارس إنجلترا، وتركّزت الدّراسة في تلك المدرسة بشكل أساسيّ على دراسة اللّغات القديمة: مثل اللاّتينية واليونانيّة والعبريّة.

كان لمدرسة وستمنستر صلة بـ كليّة كنيسة المسيح Christ Church  في أكسفورد بحيث يمكنها التّوصية أيضًا بطلاّبها للدّراسة هناك، وهكذا التحق لوك  بكليّة  كنيسة المسيح  بناءً على هذه التّوصية في عام 1652م. وكان المنهج الدّراسي في كنيسة المسيح متعمّقًا  في القانون الآرسطي  وكان مطلوب أيضًا من الطلاب أن يصقلوا مهاراتهم في التّحليل من خلال المُناظرات والجدل بالحجّةِ. لم يستمتع لوك إطلاقًا بهذا الأسلوب في الدّراسة، وقضى معظم وقت فراغه في قراءة الأدب والذّي كان معظمه مترجما عن الفرنسيّةِ، أمّا عن بداية اهتمامه بالعلوم والطّب فقد بدأ في أكسفورد، حيث بدأ تعليمه غير الرّسمي في هذه المواد عندما قرأ بويل  Robert Boyle وبيير جاسندي Pierre Gassendi وديكارت René Descartes، وصرّح لوك فيما بعد أنّ كتابات ديكارت التّي قرأها خلال دراسته في أكسفورد كانت بمثابة جَذْوَة من اللّهب، أشعلت اهتمامه بالأسئلة الابيستمولوجية الشّائعة في عصره (المتعلّقة بالمعرفة).

إعلان

لم يقتصر اهتمام لوك في كنيسة المسيح على المواضيع العلميّة والطّبيّة، ولكنْ امتدّ اهتمامه ليشملَ أهمّ الأسئلة السّياسيّة والدّينية في عصره. وقد دعم لوك الاسترداد الملكيّ  لتشارلز الثّاني  بعد وفاة أوليفر كرومويل عام 1660م، على الرغم من أنّ ذلك يعني إعادة تأسيس نظامٍ ملكيّ قويّ وسلطويّ. واستجابةً  لإدوارد باجشو زميل دراسته في أكسفورد، كتب لوك عملاً قصيرًا بعنوان   «رسالتان في الحُكم المدنيّ»  وكان رأيه معارضًا لزميله باجشو؛ حيث  أقرَّ لوك سلطة القاضي المدنيّ في تحديد شكل العبادة الدّينية. ويعكس هذا العمل إيمان لوك المبكّر بأن استرداد النظام الملكيّ من شأنه تحقيقَ السّلام والاستقرار السّياسيّ. وفي بداية الأمر، عزم  لوك نشر جزءٍ من هذه الرّسالة؛ ولكنّه  استقرّ في النهاية على عدم نشر أيّ منها. وظلّت تلك الأُطروحة غير منشورة حتى عام 1967م. عمل لوك مدرّسًا عام 1661م، كما عُيِّن في عدّة مناصب في أكسفورد: محاضرًا في اللّغة اليونانيّة ثمّ في البلاغة، وأخيرًا في الفلسفةِ الأخلاقيّةِ. وسرعان ما تحمّس لنشرِ عمله الثّاني، والذّي جاء بعنوان «مقالات في  القانون الطّبيعيّ». والتّي كانت على الأرجح نصوصًا لمحاضراتٍ تمّ تنظيمها ومراجعتها في عام 1664م. على أيّة حال، فقد لوك اهتمامه  بالمشروع، ولم يتمّ نشرها أيضًا حتى عام 1954م. وعلى الرغم من  إشارة تلك المقالات غير المنشورة إلى موضوعين سيظلان موضع اهتمامٍ دائمٍ للوك طوال حياته المهنيّة  بوصفهِ مفكِّرًا: النّظريّة الطَوعيّة في القانون، والتّي بموجبها يجب أن يكون النّاس أحرارًا في اختيار القوانين التّي يعيشون وفقًا لها؛ والمنهج التّجريبيّ في المعرفة، والذّي يقول: إنّ كلّ المعارف يتمّ تحصيلها من خلال التّجربة؛ ممّا يعني أنّه «لا توجد أفكار فطريّة»، كما جادل لوك لاحقًا في مقالته.

عُرض على لوك أن يتولّى منصبًا دبلوماسيًا، وهو سكرتيرُ السّفارة في مدينة كليفز الألمانيّة بالقرب من الحدود الهولنديّة وكان ذلك في عام 1665م، وكانت رحلته الأولى إلى الخارج ممتعةً -على ما يبدو-، كما دفعته هذه التّجربة إلى إعادة تقييم وجهاتِ نظره حول التّسامح الدّينيّ والسّياسيّ، ولا سيما تلك التّي وردت في كتابه «منشوران في الحكم المدني»، وعلّق في رسالة من الرّسائل على السّلام الذّي في مدينة كليفز، حيث عاش أعضاء من مختلف الطّوائف الدّينيّة معًا في وئام: «إنّهم يسمحون لبعضهم البعض بهدوء أن يختاروا طريقهم إلى الجنة، [بدون] خصومات أو عداوة». (Corr., L177)

عاد لوك إلى أكسفورد فورَ عودته إلى إنجلترا عام 1666م وكان على وشك تشكيل واحدة من أهمّ الصّداقات في حياتِهِ.

من أينَ نشأت الفكرة: «المقال» و«الرسالتان»

سيكون لصداقة جون لوك بإيرل شافتسبري المستقبليّ أنتوني أشلي كوبر أثرا واسعًا في حياته وأعماله على حدٍ سواء، وصل أنتوني أشلي كوبر  إلى أكسفورد في عام 1666م وكان يعاني من سوءِ حالته الصّحيّة، حتّى أنّه  سعى للحصول على مياه منتجع أستروب الصّحيّ شمال أكسفورد، لكثرة الشّائعاتِ حول  فوائدها الطّبيّة، وهناك  في شافتسبري تعرّف لوك إلى أنتوني آشلي، وتأثر الاثنان ببعضهما البعض  تأثُرًا شديدًا.

ترك لوك أكسفورد عام 1667م ليعمل سكرتيرًا لإيرل شافتسبري، وسمحت له تلك الوظيفة بتعزيز اهتمامه في العلوم والطّب، حيث امتلك  شافتسبري مختبرًا واسعًا في منزله في لندن، وعندما ساءت صحّة شافتسبري أكثرَ وتحتّم إجراء عمليّة جراحيّة لتصريف خرّاجٍ في كبده، تولّى لوك الإشراف عليها بنفسهِ، نجحت العملية وظلّ شافتسبري ممتنًا للوك على إنقاذِ حياته.

أنتوني آشلي
أنتوني آشلي

أتاحت السّنوات التّي قضاها لوك في منزل شافتسبري وقتًا كافيًا لصياغة أعمالٍ كثيرةٍ في السّياسة والدّين، ففي غضون عام من وصوله إلى لندن، كتب لوك عملًا مؤثّرًا يتناول التّسامح الدّيني والسّياسيّ بعنوان «رسالة في التّسامح». ويعتبر هذا العمل بمثابة رؤية  معدّله من عمله المُبكّر  في «رسالتان في الحكم المدنيّ». أظهر لوك أيضًا اهتمامًا بالسّياسة الاقتصاديّةِ والمخاوفِ الماليّةِ من خلال كتابةِ العديد من الأعمالِ الاقتصاديَّةِ، لكنّ أهمّ مساهمةٍ فكريّةٍ ودائمة خلال هذا الوقت تضمّنت مسودّةً أوليّة «مقال في الفهم البشري».

ويصف لوك منشأ فكرة المقال وكيفَ تحمّس له في فقرة افتتاحيّة مشهورة  بعنوان رسالة إلى القارئ، حيث التقى بمجموعةٍ من الأصدقاء لمناقشة أُصول الدّين والأخلاق، ونظرًا لِقُصُورِ الإجابات، أُصيبت المجموعة بالإحباط وتحوّلوا لمناقشة مشكلة أكثرَ جوهريّة – ألا وهي حدود الفهم البشريّ. دوَّنَ لوك جميع الملاحظاتِ عن هذا الاجتماعِ، وأحضرها معه إلى اجتماعهم التّالي. وتُظهِر الأدّلة من المسودّة الأُولى  المعروفة باسم المسودة (أ)، أنّ لوك بدأ في كتابة هذه الوثيقة قبل يوليو 1671م. ومن ثم، قام بتعديلها في مسودّة أكبر، عُرِفت بالمسودّة (ب)، دوَّنَ على صفحة الغلاف العام  1671م، كِلا المسودّتين تُركتا غير مكتملتين، والأهمُّ من ذلك، ظلّت المعضلات التّي ألهمت لوك كتابتهما في المقام الاول دون حلٍ أيضا.

ترك لوك شافتسبري  عام 1675م للذّهاب  إلى فرنسا متحجّجًا بصحّتِهِ السّيئةِ، وأثناءَ وجوده في فرنسا ، بدأ في الاحتفاظ بمجلّة ، وتوسيعِ دائرةِ معارفِهِ في مجالَيِّ العلوم والطّب، وعَيّنَ مدرّسا خاصًا لتعليمه اللغة الفرنسية ، وبدأ القراءة  بالفرنسيّة، وكان رينيه ديكارت من أكثر الشّخصيّات التّي سعى وراء أعمالِها بالفرنسيّةِ.

المصدر

 

إعلان

فريق الإعداد

ترجمة: ريهام عطيه

اترك تعليقا