النفعية بين جيرمي بنثام وجون ستيوارت مل

في القرن التاسع عشر، كانت سفينة مينيونت تغرق في جنوب الأطلسي بعد أن صدمتها موجة عملاقة. كان على متن السفينة البحارة الثلاثة المعتادون ومعهم ريتشارد باركر، غلام يتيم قرر أن يخوض مغامرة معهم. قفز الأربعة إلى قارب النجاة الذي تقاذفته أمواج الأطلسي لأيام. بعد ثمانية أيام، لم يعد في حوذتهم أي طعام أو ماء ولعشرة أيام أخرى. في اليوم الثامن عشر، قرروا قتل الغلام ليأكلوا من لحمه، وهو ما فعلوه! في اليوم الرابع والعشرين أنقذتهم أخيرًا سفينة ألمانية وقادتهم إلى بريطانيا حيث قبضت السلطات عليهم ليُحاكموا. في المحاكمة لم ينكر البحارة ما فعلوه، بل ادعيا أن تصرفهما كان بداعي الضرورة، وأنه من الأفضل أن يموت شخص واحد لكي يتمكن ثلاثة من النجاة.
تشتهر هذه القضية في كليات الحقوق حول العالم لأنها تعبر بوضوح عن نظريتين أخلاقيتين متضادتين. لقد حكم البحارة على أخلاقية الفعل بناء على عواقبه. على الجانب الآخر، لم يقتنع القضاة بذلك، إذ اعتبروا أن نوعية الفعل غير أخلاقية بغض النظر عن نتائجه وعواقبه. تسمى النظرية الأولى العواقبية وربما أشهرها “مبدأ النفعية” لجيرمي بنثام.

مذهب النفعية

وُلد جيرمي بنثام في لندن في عام 1748 وظهر نبوغه في وقت مبكر. كان بنثام عالم قانون وفيلسوف ومصلح قانوني واجتماعي، ولكنه يشتهر بمؤسس مبدأ النفعية.

كان بنثام يرى أن الأمر الصائب والمنصف هو زيادة المنفعة لأقصى حد. ويعني بالمنفعة موازنة السرور على حساب الألم، والسعادة على حساب المعاناة. لذا فإننا يجب أن نتصرف بطريقة تزيد لأقصى حد من المستوى العام للسعادة، أو كما يُختصر المبدأ في عبارة: المصلحة الأكبر للعدد الأكبر من الناس.

كتب بنثام في كتابه مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع:

لقد وضعتنا الطبيعة تحت حكم سيدين مهيمنين، السعادة والألم. وبناء عليهما فقط، علينا أن نحدد ما نفعله ونقرر ما لا يجب أن نفعله. فمبدأ الصواب والخطأ وسلسلة المسببات والنتائج كلاهما مرتبطان بعرشهما. تحكم السعادة والألم كل ما نفعل، وكل ما نقول، وكل ما نفكر فيه.

قد يبدو الأمر بيديهًا أن نعتبر ما يسبب السعادة للعدد الأكبر من الناس فعلًا صائبًا، لكن الأمر يتعقد أكثر عندما نغوص في أفعال مثل المثال السابق. فأكل لحوم البشر أمر تعافه النفس البشرية ويبدو لنا خاطئًا بغض النظر عن السياق. في الجانب الآخر، فإن هذا الفعل الشنيع قد حقق المنفعة للعدد الأكبر من الناس. وعلى الرغم من شناعة هذا المثال، إلا أنه ليس استثناء.

دراسة فيليب موريس

في عام 2001، كانت الحكومة التشيكية تدرس خطة لزيادة الضرائب على شركات السجائر لأنها تتسبب في أضرار صحية ووفيات تكلف الحكومة الكثير. ردًا على ذلك، أجرت شركة فيليب موريس للسجائر دراسة للفوائد والأضرار من التدخين. استنتجت الدراسة أن أضرار التدخين الاقتصادية على الحكومة تتمثل في تكلفة الرعاية الصحية، بينما تمثلت الفوائد في كل من الضرائب التي تجنيها الحكومة من شركات السجائر، وعدم اضطرار الحكومة لدفع مدخرات الرعاية الصحية بعد الوفاة، وتوفير المعاش الذي كان سيُدفع للمتوفي، وتوفير تكاليف بيوت كبار السن.

إعلان

استنتجت الدراسة أن فوائد التدخين تتخطى أضراره بحوالي 147 مليون دولار، أي أن التدخين يوفر للحكومة التشيكية حولي 1227 دولار لكل مدخن. روعت الدراسة الشعب التشيكي عند نشرها، إذ لم تعر الشركة أي اهتمام لقيمة حياة الفرد المتوفي ولعائلته وأحبائه بعد وفاته وتعاملت معه كما لو كان في مسألة حسابية. اعتذرت الشركة لاحقًا.

هنا يبدو واضحًا للمشكلات التي تحيط بالنفعية عندما يتعلق الأمر بحياة الإنسان واعتبارها بلا قيمة. لكن في هذا الصدد، ظهرت قضية أخرى مماثلة أكثر قسوة في محاولة لحل مشكلة قيمة الحياة.

قضية فورد بنتو

أطلقت شركة فورد العملاقة سيارة بنتو والتي حققت نجاحًا كبيرًا. كان في السيارة مشكلة وحيدة وهي أن خزان الوقود كان في مؤخرة السيارة، ولذا كانت تنفجر عندما تصطدم بها سيارة من الخلف. عقدت شركة فورد دراسة أضرار وفوائد مماثلة لسابقتها من شركة فيليب موريس ولكنها أضافت عنصرًا جديدًا: قيمة الحياة.

كان حل المشكلة يتمثل في إضافة ذرع معدني في مؤخرة السيارة سعره 11 دولار، ومع إضافته في 12.5 مليون سيارة، كانت العملية برمتها ستتكلف 137 مليون دولار لحماية السيارة من الانفجار. في الجهة المقابلة، كانت السيارة تتسبب في وفاة 180 وإصابة 180 آخرين سنويًا. هنا قيمت فورد قيمة الوفاة بمائتي ألف دولار والإصابة بسبعة وستين ألف دولار كما يُدفع في المحكمة، وأضافت 700 دولار لكل سيارة في حادثة كمصاريف لتصليحها. بحسبة بسيطة يكلف الأمر شركة فورد سنويُا حوالي 49.5 مليون دولار. لذا قررت الشركة عدم إضافة ذرع الحماية.

من الواضح تمامًا أن المشكلة لم تحل، فقد استخدمت شركة فورد حياة الإنسان بنفعية كاملة مجددًا لكنها فقط وضعت سعرًا على حياة الإنسان. قد يرى المعارضون أن هذا أمرًا مروعًا أن تتم المتاجرة بحياة البشر بهذه الطريقة، بينما يرى المؤيدون أنه لا بد من وضع سعر ما كتعويض للمتوفين والمصابين وذويهم، وأنه لا بد للشركات من التعامل بهذه الطريقة وإلا أفلست.

جون ستيوارت مل

عند تأمل النفعية، وتأمل ما هو أخلاقي، نصطدم  بمناطق رمادية نعجز فيها عن الاتفاق على قرار واضح. فتارة نؤيد النفعية لأنها تحقق المنفعة الأكبر للعدد الأكبر من الناس وهو ما يبدو منطقيًا، وتارة في قضايا أخرى يبدو الأمر شائكا.

يتضح الاعتراض هنا كثيرًا عن النظر للرومان عندما كانوا يلقون بالمسيحيين إلى الأسود في الكولسيوم ليتفرجوا عليهم. فإذا ما التزمنا تمامًا بالنفعية، فإننا نقول نعم يعاني المسيحيون ألمًا هائلا عندما يمزقهم الأسد، ولكن أنظر للسعادة والابتهاج على عشرات الآلاف من الرومان، ألم نحقق هكذا المنفعة الأكبر للعدد الأكبر من الناس؟ هنا لابد من التفريق بين نوعية المنفعة نفسها. أو هكذا قال جون ستيورات مل. اعتبر مل أن هناك مسرات عليا ومسرات دنيا، فالمسرة التي يشعر بها الفرد عند قراءته أشعار شكسبير لا تساوي المسرة التي يشعر بها المجرم عند قتل ضحاياه.

ولكن كيف نحدد المسرات العليا والمسرات الدنيا؟ من له الحق ليحدد أن قراءة نجيب محفوظ أسمى من مشاهدة مسلسل ترفيهي طالما كلاهما يبعثان السعادة في النفوس؟ يجيب مل بأن المسرة العليا هي التي سيختارها الفرد إذا ما جرب الإثنين. كان مل يرى أن أي إنسان إذا ما تعلم جيدًا وجرب كلا من تأمل لوحات دا فنشي ومشاهدة مسلسل ترفيهي فإنه سيعتبر الأولى عملا أسمى حتى ولو فضل الثانية، لأنه يفضل الثانية لأنها عمل أسهل ومسلٍ بينما الأولى تتطلب تفكيرًا وإعمالا للذهن.

كتب مل في كتابه النفعية:

لن يوافق سوى القليل من البشر على أن يتحولوا إلى أي حيوان أدنى، مع التعهد باستمتاعه التام بمسرات الحيوان. لن يوافق سوى القليل من البشر على أن يصبح أحمقا، ولن يوافق شخص متعلم على أن يصبح جهولا. على الرغم من معرفتهم جميعًا أن الحيوان والأحمق والجهول أكثر سعادة ورضا. إن الكائنات ذوات الإدراك الأسمى تتطلب الكثير لتحقق السعادة، كما أنها تتطلب القليل لتعاني أكثر من الكائنات الدنيا. من الأفضل أن أكون إنسانا بائسا على أن أكون خنزيرًا سعيدًا، من الأفضل أن أكون سقراط بائسا على أن أكون أحمقا سعيدًا.

تشكل النفعية حياتنا بصورة كبيرة، إذ نتخذ قراراتنا اليومية بناء على تفضيلاتنا المحكومة بالسعادة والألم. ولكن عندما يتعلق الأمر بأعمال نراها شنيعة أو بحياتنا التي نراها ذات قيمة ربما لا يمكن قياسها بالدولارات، فإننا نلجأ للأخلاق المطلقة ونعتبر أخلاقية الفعل منوطة ومتعلقة به بغض النظر عن عواقبه. في الأخلاقيات، ينتشر اللون الرمادي وتختلف الآراء حتى الآن.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عبد الله عرفه

اترك تعليقا