كيف نتصوَّر الزمان في حياتنا اليومية؟ (2) لـ محمد كرم اسماعيل

هل الثقافة الإسلامية هي فقط التي يسود فيها التصور المناهض للزمان، أم أنَّ الفكر المسيطر في العالم يناهض الزمان أيضاً؟ سنحاول الإجابة من خلال تأمل تلك الظواهر:

لـ قراءة الجزء الأول: اضغط هنا

حمى الذهب

كما أنَّ الشيء الثابت في نمط الإنتاج العبودي ونمط الإنتاج الإقطاعي ونمط الإنتاج الرأسمالي هو الملكية الخاصة؛ كذلك التصوُّر المُناهض للزمان ثابت في أنماط الإنتاج الثلاثة؛ فقبل ذلك، في عصر المشاعة البدائية كان تعامل الإنسان مع الزمان مغايراً؛ فمهام الوجود الأساسية في ذلك الزمن – مثل الحفاظ على النار وشحذ الأدوات والأسلحة والصيد والزراعة – كانت تحتاج صبراً وروية وطول أناة وتخطيطاً متئداً، مما يولِّد تصوُّراً متصالحاً مع الزمان بالضرورة. وبدايةً من ظهور العبودية مروراً بالإقطاع وحتى الرأسمالية؛ أصبح هناك سادة لا يعملون، وعبيد وأقنان وعمال وموظَّفون يعملون لهم، وظهر الملل وتولد العداء للزمان والهرب من الشعور به إلى المتع والتسلية، وأُعْطيَ للذهب قيمة كبرى لأنَّه يصمد أمام عوامله، وقاومته الرأسمالية بسرعات المواصلات، ثم السرعات الفائقة للعولمة والإنترنت، وجنون أسواق العمل والبورصة، ومطاعم الوجبات السريعة ومواقع البورنوجرافيك للقذف السريع ودورات تعليم القراءة السريعة. لقد تطوَّرت الملكية الخاصة وتكاثرت أشكالها في الرأسمالية؛ فخرجت أساسيات الحياة من حيز الحقوق الأولية للبشر إلى الملكية الخاصة لأفراد معدودين منهم، وتحولت إلى سلع في السوق، لكن الرأسمالية لم تستطع تملك الزمان وتسليعه بعد، ربما لذلك تناصبه العداء. ربما تود لو تعلن “نهاية الزمان” بعد أن تملكه وتخصخصه وتسلعه، كما أعلن مفكروها “نهاية التاريخ” بعد أن ظنوا أنه صار في حوزتهم وليس العكس. 

تسيطر الطبقة العليا بمفاهيمها على المجتمعات، والزمان عند تلك الطبقة عدواً؛ من هنا سيطر هذا التصوُّر المعادي للزمان على الإنسان في بقية الطبقات.

 إنَّ الثقافة المسيطرة لا تُعرّف الزمان باستعارة مفردات قاموس المال فحسب؛ بل – وهو الأهم – تعطي دلالة تبخيسية له وتحمل حكماً سلبياً عليه، وتود لو تتخلص منه، هذا على عكس حكمها على المال الذي أمسى عندها غاية في ذاته.

إعلان

إذا كان الزمان في استعارات ثقافتنا مقترناً بالمال؛ فالذهب الذي يُطبع المال على أساس وجوده قد يرمز إلى الأبدية؛ فقديماً اعتبر أفلاطون الزمان مخلوقاً وليس أزلياً؛ فالزمان بالنسبة إليه نسخة، في العالم الأدنى، عالم التغيُّر والفناء، من مثال الأبدية العلوي في عالم المثل الأزلية الثابتة غير القابلة للتغير أو الفناء. إنَّ الزمان عند أفلاطون لا يُصرف في العالم الأرضي إلَّا على أساس وجود احتياطي أزلي ثابت من الأبدية في عالم المثل العلوي، فرغم أنَّ الزمان نقيض الأبدية غير أنَّه يستند إليها في وجوده. ونحن نتعامل مع الزمان في ثقافتنا على أنه مال، والمال غالباً ما يُطبع ويُصرف في عالمنا الرأسمالي على أساس احتياطي من الذهب، ورغم أنَّ الذهب مورد محدود إلا أنه غير خاضع لعوامل الزمان كالورق وبقية المعادن. الأبدية عند أفلاطون أعلى قيمة من الزمان لأنَّ الزمان متغيِّر ومُغيِّر وهو عامل تدهور وفناء في الأشياء، على عكس الأبدية الثابتة؛ وكذلك أعطى الإنسان قيمة كبرى للذهب لا يدانيه فيها معدن آخر؛ لصموده وثباته أمام عوامل الزمان، وبات يستثمر فيه ليحمي نفسه وورثته من تقلُّبات الزمان.

في نمط الإنتاج الرأسمالي الأوراق المالية والعملات المعدنية، الخاضعة للزمان، أقل قيمة من الذهب، نقائض له، وفي الوقت نفسه تستند إليه في وجودها؛ فهي لا بدَّ أن تُصكّ وتُطبَع وتُصرف على أساس توفر كميات منه.

يكتب مالكوم برك صاحب كتاب الذهب أنَّه “عند اكتشاف مقابر الملوك في مصر القديمة وُجد معهم ذهب لم يتأثَّر بعوامل الزمان ولم يفقد بريقه رغم أنَّه قد مرَّ عليه سبعة آلاف سنة. كذلك غرقت سفن محملة بالذهب في البحر منذ قرون، وعند اكتشافها وُجد الذهب براقاً لامعاً لم يتأثَّر بالزمن أو الماء المالح”. (1)

هنا تكمن القيمة التي قدر بها الإنسانُ الذهب. فهو المعدن الأنفس بالنسبة له لأنَّه المعدن الذي أفلت من قبضة الزمان. لكن رؤية علمية لكيفية نشوء الذهب وكيفية استخراجه كفيلة بأن تجعلنا نقيِّم الذهب من منظورٍ آخر. فإذا كانت قيمة الذهب مستمدة من إفلاته من الزمان، لأن الزمان في نظر الإنسان، تحت ثقافتنا، لا يسبب إلَّا الصدأ والتدهور والفناء؛ فنظرة متأمِّلة في كيفية تكوُّن الذهب ستجعلنا نعرف – وهو أمر بديهي – أنَّ الزمان له دور رئيس في نشوء الذهب من الأساس وبالتالي له دور رئيس في تكوين قيمته، إنَّ الذهب يستند إلى الزمان في وجوده؛ “فعند نشوء الكون كانت الأرض جمرة ملتهبة تنبعث منها الأبخرة، ثم تجمَّد سطح الأرض بالتدريج، لكن باطنها لم يزل مستعراً بالحرارة، وعند برودة السطح ظهرت فيه شقوق، ومن الشقوق تصاعدت الأبخرة من الباطن المستعر، ثم تجمدت الأبخرة فصارت حديداً ورصاصاً ونحاساً وصار أحدها ذهباً”. (2) فظهور الذهب احتاج مدَّة زمنية طويلة لتجمد سطح الأرض وتجمد الأبخرة بعد ذلك. فالزمان ليس عامل تحلُّل وتدهور وانهيار فقط بل هو عامل خلق وتطور وازدهار أيضاً؛ فقد يُنتج معدناً يقاوم عوامله من تحلُّل وصدأ، لكن تحت شروط معيَّنة. كما أنَّه لولا عوامل التحلُّل والصدأ الزمانية التي أضفى عليها الإنسان قيمة سلبية، ما كان الإنسان ليعطي للذهب، بما هو معدن غير قابل للصدأ والتحلل، قيمة إيجابية؛ الزمان إذن ذو طبيعة جدلية. 

 

أما عن استخراج الذهب فهو عملية شاقة؛ تستلزم قوة وشجاعة ومخاطرة. ورغم تقدم وسائل حفر المناجم بالآلات؛ إلَّا أنَّ قيمة الذهب – بالإضافة إلى ما أسلفنا بأنَّ الزمان له دور رئيس في تكوينها لا بدَّ أن يؤخذ في الحسبان – لا بدَّ أن تُقدَّر بمقدار العمل المبذول في استخراجه وطبيعته المميزة الشاقة والخطرة، وكذلك بمقدار العمل المبذول في صناعة وسائل الاستخراج وتطويرها. لكن الثقافة الرأسمالية تتجاهل العمل الذي لولاه ما كان للذهب الموجود في السوق، كاحتياطي تُطبع النقود على أساسه، أن يخرج للوجود، وتعطي قيمة للذهب لكونه معدناً يستمد نفاسته من مقاومته للزمان فقط. 

وللمفارقة توجد أشياء تُقدَّر قيمتها ويرتفع سعرها بتأثير الزمان فيها؛ كالنبيذ وبعض أنواع الجبن مثلاً، وهناك سلع تحتاج زمناً لتخرج للسوق مثل الأحذية؛ لكونها تحتاج وقتاً لالتصاق مكوناتها، لكن الرأسمالية أيضاً لا تعطي أولوية للعمل التي نتجت عنه تلك الأشياء، فقيمتها تُستمَد مما مرَّ عليها من الزمان بنسبةٍ أكبر من العمل الذي أنتجها والذي تمت سرقة أرباحه من العمال والفلاحين. انطلاقاً من هذا التناقض في عقل نمط الإنتاج المسيطر، ومن حقيقة احتكار طبقة معينة لمناجم الذهب، ومن خضوع الذهب – الذي لا يخضع للزمان نفسه – للمال ولاحتكار الرأسمالية للتكنولوجيا التي تُستخدَم في استخراجه؛ من كل هذا نستنتج إمكان استقلال الرأسمالية عن تقدير القيمة على أساس تبريرات عدم خضوع الشيء للزمان أو خضوعه له، وقد حدث بالفعل؛ فقد قرَّرت أمريكا في السبعينيات طباعة النقود دون غطاء من الذهب معتمدة على قوتها العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تحكم بها العالم، وقد سبب ذلك، ولا يزال يسبب، التضخُّم في معظم دول العالم الخاضعة للدولار. وقد صرح الملياردير الأمريكي “وارين بافيت” أنَّه لا يفضَّل الاستثمار في الذهب لأنَّه لا يرى وجود قيمة فيه؛ فهو عديم النفع، ويفضل الاستثمار في الأشياء ذات الاستخدامات النافعة كالفضة؛ فهو له استخدامات طبية وصناعية. (4)

هل معنى ذلك أن الرأسمالية تجاوزت تصورها المناهض للزمان؟ 

لا؛ إنَّ “وارين بافيت”، على تصريحاته عن القيمة الانتفاعية تلك، لا يزال أحد أعمدة نمط الإنتاج الرأسمالي القائم على القيمة التبادلية لا الانتفاعية؛ فالفضة على نفعها تخضع لقوانين التبادل التجاري الرأسمالي وللاحتكارات، فقيمتها في الرأسمالية بما تدِّره من مال لا بنفعها للبشر، وسعرها يحدده المحتكرون. ربما خرج من “وارين بافيت” هذا التصريح لأنَّ الفضة شائعة أكثر من الذهب ولتطور التكنولوجيا المعتمدة عليها فقط. 

كما أنَّ الرأسمالية المتأخِّرة المعولمة تعادي الزمان بسرعاتها الفائقة وتعجُّلها اللاهث، وتدوس الطبيعة تحت أقدامها المسرعة الرامية إلى منافسة سرعة الضوء! يقول “كارل أونوريه” في كتاب “في مديح البطء”: تتزايد سرعة الرأسمالية بما يتجاوز مصلحتها؛ فضغط الانتهاء قبل الآخرين لا يترك وقتاً لمراقبة الجودة… والنتيجة تفشي حالات انهيار الأنظمة، وانتشار العيوب والأخطاء، ومواطن الخلل، التي تكلف الشركات مليارات الدولارات كل عام. ثم إنَّ هناك تكلفة بشرية للتوربو – رأسمالية. فنحن في هذه الأيام موجودون لخدمة الاقتصاد، وليس العكس. ساعات العمل الطويلة تجعلنا غير منتجين، وعرضة للخطأ، وتعساء، ومعلولين”. (5)

إنَّ الإنسان في نمط الإنتاج الرأسمالي لم يتعرف على الحقيقة العلمية الموضوعية للزمان بشكل كامل؛ وفي الوقت نفسه تريد الرأسمالية أن تتخلَّص من الزمان وتتجاوزه. كيف يمكن تجاوز شيء دون معرفته معرفة كاملة؟.

الزمان الطبيعي أم الزمان التاريخي؟

“عاشَر الزمنَ وجهًا لوجه بلا شريك، بلا ملهاة ولا مخدر، واجهه في جموده وتوقفه وثقله. إنه شيء عنيد، ثابت، كثيف. وهو الذي يتحرك في ثناياه كما يتحرك النائم في كابوس. إنه جدار غليظ، مرهِق، متجهم. غير مُحتمَل إذا انفرد بمعزل عن الناس والعمل. كأننا لا نعمل ولا نصادق ولا نحب ولا نلهو إلا فراراً من الزمن”.

نجيب محفوظ.. الحرافيش

كان ذلك وصفاً لحال بطل من أبطال الرواية: “جلال صاحب الجلالة”، بعدما اعتكف في كهف بناءً على وصية دجال لكي يتحرَّر من الموت؛ فواجه الزمان الذي يقع الإنسان تحت قبضته ويؤدي به إلى الموت حتماً، فالموت قرين الزمان، والخلود قرين الأبدية، والثبات ملازم للأبدية والحركة ملازمة للزمان؛ لكن الزمان الذي واجهه “جلال” في اعتكافه قد وُصِف بالثبات لا الحركة، وقد اكتشف أنَّ حركة الزمان وهمٌ في عقل الإنسان وأنَّه في الحقيقة ثابت ونحن الذين نتحرَّك داخله.

والحق أنَّ هذا الوصف الأدبي ينطبق على المكان لا الزمان، أو ينطبق على جزء من الزمان وليس الزمان في كليته؛ ما الجزء من الزمان الذي يطابق هذا الوصف؟ إنَّه الحاضر، “فإذا سأل سائل: أيّ جهات الزمان الثلاث – الماضي والحاضر والمستقبل – يطابق الأبدية؟ كانت الإجابة: الحاضر… ولو طرحنا هذا السؤال العام: إلى أين نصل إذا علونا فوق الزمن؛ لأجاب أي إنسان بقوله: إلى الأبدية. لكن لو سألنا: إلى أين نصل إذا علونا فوق المكان؛ لتعذر عليه الإجابة… إنَّ المكان لا الزمان هو المقولة الحقيقية للأبدية” (6)

لو أبدلنا كلمة الأبدية بالزمان في النص المقتبس أعلاه؛ سيكون هروب البشر من الأبدية لا الزمان، وإذا كان الحاضر هو الجزء من الزمان الذي يطابق الأبدية؛ سيكون هروب البشر من الحاضر تحديداً.

لم يكن الزمان ما لاقاه “جلال” في عزلته إذن؛ بل جزء منه فقط وهو الحاضر، وإذا كان الحاضر هو أكثر لحظة زمانية تطابق الأبدية، فهروب “جلال” كان من الأبدية. تكمن المفارقة في أنَّه كان يروم الخلود المقترن بالأبدية وفي الوقت نفسه كان شعوره بها سلبياً. ربما كان يُدرَّب على ملل الخلود ليصبح جديراً به على الأرض. لكنَّه في النهاية لم يهرب من الزمان ووقع فريسة له ومات، ولم تُجدِ محاولات القوى الغيبية، التي ساعده الدجال في تسخيرها، لتخليصه من الموت.

هل يهرب الإنسان من الزمان أم من الحاضر؟

في الطريق الصوفي يرفض السالك الزمان الموضوعي ويريد أن يتحرَّر منه. هناك متصوِّفة يعتبرون الزمان وهماً يحجب الحقيقة لا بد من إزالته، وهناك من لا ينكرونه لكن يرفضونه ويريدون الصعود منه إلى الأبدية. إنَّ المذاهب الروحانية جميعها تروم الوصول للسكينة المستقرة، للسلام النفسي، للثبات والتحرُّر من الحركة؛ لذلك يرفضون الزمان. فعندما يفكِّر الإنسان في الزمان سيجد أنَّ زمانه الشخصي متوجِّه لنهاية محتومة: الموت، وهذا الوعي يولِّد القلق والتوتُّر، والصوفيون يريدون تخليص الإنسان منهما. وبالتالي يريدون تخليصه من الزمان والفناء وتوجيهه للحاضر فقط بما هو مطابق للأبدية والبقاء، فالماضي والمستقبل وهمان في الذهن وفقاً لهم، وعلى الإنسان ألَّا يحسب لهما أيّ حساب لينعم بالثبات والسكينة. إنَّهم إذن يهربون من الزمان إلى الحاضر.

 وعلى النقيض؛ تميَّز سلوك الإنسان القديم تجاه الزمان بالهروب من الحاضر؛ “إذْ يمثِّل أقدم النقوش الباقية للأحداث، حجر “بالرمو” من مصر (2500 سنة قبل الميلاد)، تسجيلاً منتظماً لعهود الفراعنة وفيضانات النيل. من الجلِّي إذن أنَّ هناك طابعاً شاملاً تتسم به الحاجة للفرار من سجن الحاضر… وللحفاظ على التماسك الاجتماعي كان لا بدَّ للبشر من توثيق الحاضر بالرجوع إلى التراث، كما كان ينبغي لهم أيضاً أن يكونوا قادرين على استباق المستقبل والتحكُّم فيه”. (7) 

وبما أنًّ التاريخ هو تسجيل البشر لتطوُّرهم الاجتماعي الناتج عن تفاعلهم مع الطبيعة في الماضي ليسترشدوا به في الحاضر ويطوِّروه أكثر لمواجهة المستقبل، فالتاريخ هو حمولة الزمان؛ والمتصوِّفة يهربون من التاريخ إلى الزمان المجرَّد من أيِّ حمولة سوى لحظاته الثلاث، ويهربون من حركته إلى تثبيت اللحظة الحاضرة؛ أملاً في السكينة والسلام النفسي.

وفي مقابل -ما سبق- فـ “إنَّ سعي الإنسان إلى تحقيق المعنى والقيم هو أدعى للتوتر والقلق منه للاتزان والسكينة. غير أنَّ هذا التوتُّر هو بعينه آية الصحة النفسية ودليلها. فالصحة النفسية توتُّر لا اتزان، توتُّر بين ما أنجزه المرء وما لا يزال عليه أن ينجزه، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون.. فليس ما يحتاجه الإنسان هو حالة اللا-توتُّر، ولكنه بحاجة إلى السعي والكدح في سبيل هدف يستحق أن يعيش من أجله”. (8) 

 كان الفيلسوف الألماني “هيدجر” متصالحاً مع الزمان، لكنه نفى الزمان التاريخي لصالح الزمان الوجودي؛ فرأى أنَّ وعي الموت ينتزع الفرد من الوجود الزائف للقطيع ويرتقي به إلى الوجود الحقيقي الأصيل؛ فإدراكه لفنائه سيفرز له نمط حياة راق ومبدع؛ حيث إنَّه سيعامل كل لحظة وكأنَّها اللحظة الأخيرة؛ فيعطيها حقها من الإبداع الأصيل. لكن رؤية “هيدجر” للزمان الوجودي والموت كانت فردية؛ فرغم أنَّ الموت والزمان يسريان على الجميع إلا أن “هيدجر” رأى أنَّهما قضيتان فرديتان؛ فالموت مصير الجميع، لكن لا أحد يموت بدلاً من الآخر، والزمان يشمل الجميع، لكن هناك من يهرب من حقيقة الموت والوجود ويعيش زماناً زائفاً سمته الثرثرة، وهناك من يعي الحقيقة ويعيش زماناً أصيلاً سمته الإبداع.

 هل الوجود الأصيل يتحقَّق بإرادة الإنسان الحرة؟ إجابة هيدجر: لا؛ فالوجود الأصيل غير مشروط بالسعي إليه، فهو الذي ينادينا ولا نحقِّقه بوعينا وإرادتنا، كالاصطفاء الإلهي عند المتصوِّفة. والحق أنه رغم كشف هيدجر لدور الزمان الخلاق في الإبداع الإنساني؛ غير أنَّه قيَّد هذا الإبداع بحصره في النطاق الفردي؛ فهو وقد رفض تفسير الظواهر عن طريق سياقاتها التاريخية والاجتماعية والاقتصادية (وفقاً لمنهجه الظاهراتي الذي يعزل الظواهر عما يحيط بها من شروط وسياقات أملاً في أن تنطق بماهيتها)؛ لم يوضِّح الشروط التاريخية التي ينمو فيها الوجود الأصيل للفرد، واستبدل بها شروطاً ميتافيزيقية تسمى “مبادرة الوجود” أو “نداء الحقيقة”. (9) لقد أفرغ هيدجر الزمان من محتواه التاريخي لكنَّه لم يسع لإنكاره أو الهروب منه. 

وكذلك لم يكن نيتشه مهتماً بالزمان التاريخي، فالطريقة المثلى لتصور الزمان عنده تكمن في نظرية “العود الأبدي” التي مفادها أنَّ حركة الزمان دائرية، وكل شيء سيتكرَّر إلى الأبد بلا غاية، وتلك الرؤية مستمدة من دورة الأفلاك والكواكب، أي الزمان الطبيعي، وليس من مسيرة البشر في التاريخ وتطورهم الاجتماعي. لكن نيتشه كان يرى أنَّ حقيقة العود الأبدي قاسية، وعلى الإنسان الأعلى أن يعترف بها، ويتمثَّلها في داخله ولا يخشاها لكي يبدأ مسيرته الخلاقة في صنع المعاني والقيم والحضارة القائمة على القوة. والفرد عند نيتشه لن يصل لتلك المرتبة العليا بإرادته الحرة، فنيتشه لا يعترف بالإرادة الحرة، لكن بالطبيعة الموروثة من الأسلاف الأقوياء.

لقد أراد كل من نيتشه وهيدجر تكريس الزمان ثم نفي مضمونه التاريخي، هيدجر أفرغه لصالح الزمان الوجودي، لصالح الأفراد الذين سيبادر الوجود الأصيل بانتزاعهم من الزيف، وأفرغه نيتشه لصالح الطبيعة، لصالح الإنسان الأعلى الذي تؤهِّله جيناته الموروثة من استيعاب أكثر الحقائق قسوة. وكلتا الرؤيتين للزمان تمثلان الإيديولوجيا البرجوازية المسيطرة؛ فكأنَّ الرؤيتان استشرفتا مقولة “مارجريت تاتشر”: ” لا يوجد شيء اسمه مجتمع؛ بل يوجد أفراد” فكلتا الرؤيتين أسستا تصوُّراً فردياً للزمان خاطبا به الفرد وليس المجتمع. وكذلك لا تعبأ الإيديولوجيا المسيطرة بتأسيس تصوُّر للزمان قائمة على المعرفة العلمية الموضوعية به.

عندما نفرغ الزمان من مضمونه التاريخي لن يتبقَّى لنا سوى الزمان الطبيعي، زمان دورة الأفلاك والكواكب، زمان التحلل والفناء، زمان الإنتروبي. وإذا كان قانون “الإنتروبي” في الطبيعة هو قانون الموت والتحلُّل والفناء، وعلى أساسه تصور الناس الزمان تدهوراً وكرهوه وتمنوا الهروب منه؛ فإن العالم الروسي البلجيكي “إيليا بريغوجين” قد أثبت أنَّ الحياة نشأت بسبب قانون “الإنتروبي” ذاته، فالنشوء والارتقاء الذي اكتشفه “داروين” إذن غير منفصل عن قانون التحلُّل والفناء “الإنتروبي”، فالعلاقة بين القانونين جدلية، ومن هنا لا يصح تصور الزمان تدهوراً فحسب بل هو تطوُّر وارتقاء أيضاً. فتصوُّر الزمان تدهوراً فقط قد يوحي بأنه تصور متصل لكنه يسير إلى الأسفل، بينما هو نابع من فصل للحظة التدهور في الطبيعة عن لحظة التطوُّر، أدَّى هذا الفصل لاختزال الطبيعة في التحلل والفناء فحسب. والأهم أن هذا التصوُّر التدهوري يؤدِّي لفصل الزمان عن التاريخ. 

إنَّ فصل الزمان عن التاريخ يؤدِّي إلى عدم فصل القوانين الطبيعية عن القوانين الاجتماعية، ومن ثم يؤدِّي إلى تفسيرات طبيعية للتاريخ ترى المجتمعات البشرية على غرار المجتمعات الحيوانية دون نظر لتطوُّر المادة والوعي وتطور المجتمعات. ولنسأل: هل الزمان هو الذي يفني المجتمعات ويولّد أخرى، أم البشر هم الذين يقضون على مجتمع ويقيمون آخر عندما تتوفَّر الشروط التاريخية المناسبة؟ لقد تطوَّرت المجتمعات الإنسانية من المشاعة البدائية، مروراً بالرق والإقطاع، حتى الرأسمالية. وتطوُّر النشاط الإنساني في تفاعله مع الطبيعة وصراعه معها أدَّيا إلى تطوُّر المجتمعات وظهور قوانين موضوعية لها مستقلة نسبياً عن القوانين الطبيعية.

 لقد كانت نسبة العفوية في تطوُّر المجتمعات أكبر من نسبة الوعي، ولكي نحظى بمجتمعات أكثر تطوراً من مجتمعاتنا الحالية؛ علينا أن نمتلك المزيد من الوعي بشكل عام، ونمتلك وعياً علمياً موضوعياً تقدُّمياً بالزمان بشكل خاص، يبحث عن حقيقته الموضوعية في الكون والطبيعة والتاريخ، ويخلِّصه من الأوهام الميتافيزيقية والعدمية والذاتية. فالطبقة الاجتماعية المُنتجة، المنوط بها إحداث تطور اجتماعي ينتج نمط إنتاج اجتماعي واقتصادي أكثر وعياً؛ عليها أن تمتلك وعياً علمياً موضوعياً تقدُّمياً بالزمان، ينبذ كل تصوُّرات الزمان التي تعيق التطوُّر الاجتماعي. إنَّ السعي إلى المعرفة العلمية بالزمان عليها أن تنتقل بالإنسان من الزمان الطبيعي إلى الزمان التاريخي، وتُعين الإنسان في تطوير المجتمع كي تتطوَّر أدوات المعرفة وبالتالي تُحصِّل معرفة أكبر بحقيقة الزمان الطبيعي سعياً لتجاوزه إلى زمان التقدم التاريخي.

—————————————

المراجع:

  • 1 – مالكولم بر، الذهب، ترجمة: أمين سلامة، دار الفكر العربي، (نسخة قديمة تعذَّر الحصول على تاريخ طبعها داخل الكتاب والمكتبات)
  • 2 – المرجع نفسه
  • 3 – المرجع نفسه
  • 4 – انظر مقال ” لماذا لا يستثمر وارن بافيت في الذهب؟”، على موقع CNBC  عربية.   بتاريخ السبت 3 ديسمبر2022.
  • 6 –  فولفجانج شتروفه، فلسفة العلو، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012
  •  8 – أرفين يالوم، رولو ماي، مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي، ترجمة: عادل مصطفى، دار رؤية، 2015
  • 9 –  انظر تصدير مارتن هيدجر لمحاضرة “الأنطولوجيا: هيرمينوطيقا الواقعية”. ترجمة: د. عمارة الناصر، منشورات الجمل، 2015

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد كرم إسماعيل

اترك تعليقا